عندما بدأت القضية الفلسطينية تضيع من أيدي من نصبوا أنفسهم أولياء أمورها، بدءا من الحكام العرب، وانتهاء بمنظمة التحرير الفلسطينية، على أنّها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بعدما أُثْقِل ملفّها بخيبات عسكرية عربيّة زادت من معاناة شعبنا المظلوم، تلتْهُ تنازلات دخل بابها الحكام العرب بجامعتهم الفاشلة، وتخلّ صريح من حركة فتح كبرى الحركات الفلسطينية عن السلاح، كسبيل وحيد لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، والدخول في سلسلة مفاوضات غير مباشرة ثم مباشرة مع العدوّ الصهيوني، على أساس حلّ الدولتين()، هذا المسار الذي لم يجني منه الفلسطينيون شيئا يذكر بل زاد من معاناتهم وضياع حقوقهم المشروعة.
لم تكن مصادفة أن يُستدرج الرئيس المصري الخائن السادات، ليقع في فخ الإمضاء على اتفاقية كامب دافيد في 17/9/1978، بعد مفاوضات سرّيّة – وقع التكتّم عليها إعلاميا – تمت بين النظام المصري والكيان الغاصب تحت رعاية أمريكية في عهد الرئيس جيمي كارتر(1)، فالمنظومة الصهيونية العالمية استبقت انتصار الثورة الإسلامية، من أجل قطع الطريق على نتائجها التي ظهرت، من خلال فكر الامام الخميني رضوان الله عليه، وموقفه الثابت من عدالة القضية، ووجوب نصرة الشعب الفلسطيني فيها، تضييع حقوق الشعب الفلسطيني ونزع سلاح مقاومته، يكون بمفاوضات التسويف، التي بدأوها بتحييد مصر والأردان، واسقاط منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، في مفاوضات ماراطونية لا طائل من ورائها.
ما نحمد الله عليه أنّ انتصار الثورة الإسلامية لم يتأخر عن أوّل خيانة للقضية الفلسطينية، وإلّا كانت الأضرار بها جسيمة، فبعد أشهر قليلة اشتعل فتيل الثورة، وانفجرت بانتصار مدوّ أذهل العالم بأسره، وأربك حسابات أمريكا وليقطها الكيان الغاصب، وهما معا يدركان أن قائدها ونظامها الإسلامي، سيذهبان بعيدا في مشروعهما لتحرير فلسطين، ليس بالمفاوضات التي لا يعتبرها طريق حل سوى الحمقى والعملاء، بل بالمقاومة ولا شيء غيرها.
من أجل حشد الإمكانات والجهود الإسلامية للقضية، جاءت دعوة الإمام الخميني رضوان الله عليه لإعلان آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، يوما عالميا للقدس، ليس لرمزية القدس كعاصمة لدولة فلسطين، ولكن لقداستها كمدينة جامعة للمقدسات الإسلامية والمسيحية، ونزل نداؤه نزول الصاعقة على مخططات دول الغرب وتصهينهم، حيث لم يكونوا متوقعين أن يبدأ نضاله من أجل فلسطين بهذه الطريقة الهامة، والتي أخذت صبغة إعلامية بدأت في الانتشار من طهران إلى سائر دول العالم، وإقامة هذه التظاهرات بالمناسبة اليوم، أخذ طابعا فكريا أكاديميا وإعلاميا تحسيسيا، فضلا عن طابعه الحشدي الجماهيري، الذي كبر نطاق حاضنته الشعبية.
لقد كان بيانا واضحا صريحا أختصر منه دعوته رضوان الله عليه: ( .. أدعو جميع المسلمين في العالم، أن يعلنوا آخر جمعة من شهر رمضان المبارك ـ وهو من أيام القدر ويمكن أن يقرر قدر الشعب الفلسطيني ـ يوماً للقدس، وأن يعلنوا خلاله عبر المراسيم الخاصة، عن تلاحم الأمة الإسلامية في الدفاع عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني المسلم. أسأل الله تعالى النصر للمسلمين على القوم الكافرين.) (2)
دعوة لمن فهم أبعادها تُعْتبر زلزالا هزّ الكيان الصهيوني بعنف، حيث لم يعهدوا مدّة تاريخهم أن يقف رجل دين مسلم له كلمته ووزنه وقواعده الشعبية ليس في إيران وحدها بل في عديد الدول التي آمن مثقفوها من المسلمين وغيرهم، بأن بداية استعادة مقاليد توجيه القضية الفلسطينية وجهتها الناجحة، وأن ثمار هذا الإعلان التاريخي، بدأ يظهر من انتصارالمقاومة اللبنانية، في مواجهة العدو الصهيوني، في 2000و2006، وتجلى في صمود وانتصار المقاومة في غزّة، وافشال عدوانه على القطاع ثلاث مرات.
لقد افتتح الإمام الخميني رضوان الله عليه بيانه ب(إنّ يوم القدس يوم عالمي، ليس فقط يوما خاصا بالقدس، وإنما يوم مواجهة المستضعفين مع المستكبرين، ويوم مواجهة الشعوب التي عانت من ظلم أمريكا وغيرها، للقوى الكبرى .. إنه اليوم الذي سيكون مميزا بين المنافقين والملتزمين، الذين يعتبرون هذا اليوم، يوما للقدس ويعملون ما ينبغي عليهم. أما المنافقون، هؤلاء الذين يقيمون العلاقات مع القوى الكبرى خلف الكواليس، والذين هم أصدقاء لـ «إسرائيل»، فإنهم في هذا اليوم غير آبهين، بل ويمنعون الشعوب من إقامة التظاهرات( . (3)
رؤية الامام الراحل ليوم القدس بناها على أساس موسّع وعنونها بيوم استنهاض المستضعفين لمواجهة للمستكبرين، في مدلول أشمل وأعمّ من القضية الفلسطينية ليحوّل أنظار واهتمام المستضعفين في العالم لتكون قضيتهم فيتبنّوها بالتأييد لأهلها ومناصرتهم، وهكذا فهمت الشعوب المستضعفة هذا النداء وهذه القضية، فتضامنت معها بكل تلقائية.
لقد كان الإمام الخميني رضوان الله عليه قاصدا من تعيين آخر جمعة من شهر رمضان، يوما عالميا ثابتا كل سنة، ليكون ضمن إطار عبادي هامّ فيه تتجلى مظاهر طاعة الله في شهر الصيام، حيث يجتهد المسلمون في التعبير عن ولائهم له ولدينه وأوليائه ومقدساته، ولا شكّ بأن تعيينه لآخر جمعة قصده منها ليالي القدر المباركة، وما تتضمّنه من تهجد وقيام في تلك الليالي المباركة، بما يزيد من قيمتها المعنوية والروحية، بما يعود على ذلك اليوم بالتوفيقات الإلهية على القضية الفلسطينية.
في هذه السنة أحيينا يوم القدس بشعار (الضفة درع القدس) في مخيم اليرموك، في قلب هذا المخيّم الذي بقي شامخا رغم الخراب الشديد الذي تعرض له من طرف الجماعات التكفيرية، وحضور شعبي فلسطيني لافت، واستعراضات عسكرية لفصائل المقاومة، في مشاهد نعشة تدعو الى الاعتزاز بهذا الشعب البطل المقاوم، وتُطَمْئن بأن للقضية المظلومة رجال، هم من خيرة شباب فلسطين، وقد قدّموا ولا يزالون التضحيات المتتابعة، فداء لبقاء قضيتهم حيّة، وفي انتظار ساعة الحسم الحقيقية، بإزالة الغدة الصهيونية السرطانية، وتطهير فلسطين منها.
لم يعد هناك مجال لمشروع الجامعة العربية في حلّ الدولتين، ولا حتى بنسبة 1% بعدما أثبت الكيان الصهيوني بملايين الأدلة أنه كيان عنصري عدواني مجرم، يستحيل التعايش معه كما يعمل رئيس السلطة الفلسطينية، على إبقاء علاقته السخيفة وسلطته المسخرة لصالح الكيان الصهيوني في تعامله الأمني الخائن، لقد سقطت مشاريع أمريكا في فلسطين ومحيطها، وعلت راية المقاومة بجهود أهلها، لتقول كلمتها الفصل في المستقبل القريب.
المراجع
1 – إتّفاقات كامب ديفيد https://ar.wikipedia.org/wiki/
2 – دلالات يوم القدس في فكر الامام الخميني
https://www.alkhanadeq.com/post.php?id=418
3 – الامام الخميني(قدس) واعلان يوم القدس العالمي
https://www.taghribnews.com/ar/report/335484/