لطالما ارتبطت بهذا الصندوق عناوين عريضة ورنانة، من توفير المال الإنقاذي وتعزيز الاستقرار المالي، إلى دعم الثقافة والإنسان، لكن الحقيقة في مكان آخر.
كثُر الكلام عن تجارب صندوق النقد الدولي؛ الأداة الماليّة لتدمير الشعوب والبلدان، والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، إذ تمتلك فيه الحصّة الأكبر (16.74%)، كما تمتلك حقّ الفيتو واتخاذ القرار والتوجيه، إلى جانب 4 دول من أصدقائها، هي اليابان (6.23%) وألمانيا (5.81%) وفرنسا (4.29%) وبريطانيا (4.29%).
لطالما ارتبطت بهذا الصندوق عناوين عريضة ورنانة، من توفير المال الإنقاذي وتعزيز الاستقرار المالي، إلى دعم الثقافة والإنسان، لكن الحقيقة في مكان آخر، فما من دولة حصلت على قرض من الصندوق، واستطاعت إعادة اقتصادها إلى الحالة التي كان عليها. في الغالب، تعجز الدول عن تحقيق نهضة اقتصادية أو تنموية، ذلك أن القرض يدمّر الاقتصاد الوطني لأيّ دولة، ويتسبّب بشكل مباشر بتآكل الطبقة الوسطى، ويلقي بها في أحضان الفقر. وفي الوقت نفسه، تنقسم طبقة الأغنياء، بعضها يهبط، والبعض الآخر تتضخَّم ثرواته بشكل كبير.
وفي الوقت الذي تنظر الدول النامية إلى صندوق النقد باعتباره منظومة ماليّة ضخمة تهرع إليها عندما تتعثّر اقتصاديّاً، بغرض الحصول على قرض إنقاذي لتطوير البنى التحتية الأساسيّة، كمحطات الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، كسبيل للنهضة مجدداً، يفرض الصندوق شروطاً قاسية تتجاهل حقوق الإنسان، بل إنها تقضي عليها الكامل، كما تهدر طاقات الدولة وإمكانياتها، وتؤدي بها إلى المزيد من الأزمات المتلاحقة.
في مقابل ذلك، يُعتبر الصندوق والدول التي تمتلك حصصاً فيه الرابح الأكبر من هذه الصفقات المشبوهة، سواء كان على الصعيد السياسي أو الاقتصادي. وعندما ننظر جليّاً إلى شروط القرض المفترض، نلاحظ بدايةً أنّها تبدأ بقيام المكاتب الهندسيّة والاستشاريّة وشركات المقاولات الأميركيّة أو الشركات التي تدور في فلك واشنطن في الدول المقرضة، بتنفيذ هذه المشاريع، أي أنّ هذه الأموال تعود بشكل مباشر إلى أعضاء هذه الدول، ويبقى على الدول المستدينة سداد أصل القرض والفوائد، كما أنّ الشّروط التي تفرضها الجهات الدائنة تُجبر الدول المدينة على التعثّر بعد بضع سنوات، بهدف تحقيق أبعاد استراتيجية خطيرة، تتلخّص بالسيطرة على موارد البلاد والقبول بالتواجد العسكري فيها.
لتحقيق هذه الأهداف، ثمة وصفات موحّدة يعتمدها الصندوق في جميع الدول، وهي قائمة على التسويق، لكبح الانهيار، من خلال مليارات الدولارات التي تحقّق نموّاً اقتصاديّاً عن طريق المشروعات المقترحة، مع اعتماد الخداع في الأرقام، وخصوصاً في ما يتعلّق بنمو الناتج الإجمالي القومي، لكنّ النتيجة دائماً ما تكون استفادة “النخبة” القليلة على حساب الأغلبية، بحيث يزداد الثري ثراء، ويزداد الفقير فقراً، ويتمّ التسويق لذلك بوصفه “تقدّماً اقتصادياً”.
ما الوصفات الثابتة لصندوق النقد؟
1- تحرير سعر الصرف ورفع كلّ أشكال الدعم، وخصوصاً عن السلع والخدمات الأساسية، كالطحين والكهرباء والماء والنقل.
2-التركيز على رفع الدعم عن المحروقات، مع ما ينتج من ذلك من زيادة في أسعار البنزين والمازوت قد تتجاوز 5 أضعاف، من دون الأخذ بتداعيات الأمر وانعكاساته على القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والاستهلاكية.
3- ترسيخ نموذج اقتصاد الريع والاستهلاك على حساب القطاعات الإنتاجية، وخصوصاً الزراعة والصناعة والأدوية والمواد الغذائية. تُعتبر السياسات الماليّة أهم ركائز هذا النظام، بصرف النظر عن البعد الاقتصادي المرتبط بالتنمية والبرامج.
4- تقليص برامج التقديمات الاجتماعية، وصولاً إلى إنهاء كل الحمايات الاجتماعية، وخصوصاً التقديمات الصحية والتربوية المدرسية والشؤون الاجتماعية.
5- تقليص حجم القطاع العام، والعمل على إعادة هيكلة الرواتب، أي خفضها وتقييدها، وبالتالي منع أي زيادة عليها، مهما أصبحت نسبة التضخم، إضافةً إلى إعادة النظر في المعاشات التقاعديّة تمهيداً لإلغائها.
6-زيادة معدلات الضريبة على القيمة المضافة بنسبة تتراوح بين 5% و10% على الأقل.
7- رفع مستوى الضّرائب ليصل إلى 20% من الناتج المحلي، وفرض زيادة على جميع أنواع الضرائب.
8- تصفية المؤسَّسات المتعثرة حتى ضمن القطاع الخاص.
9- اعتماد النمو على الدين والاستدانة.
في المحصّلة، تكمن خطورة الموضوع في أنّ عمل صندوق النقد لا ينتهي بعد انتهاء القرض، بل يبدأ حينها تحت عنوان “المراقبة ما بعد البرامج”، بحيث يصبح الاقتراض هو الوسيلة المطلوبة للعيش واستمراريّة الماليّة العامة للدولة، مع بدء المديرين التنفيذيين الذين يعيّنهم الصندوق بالتحكّم بالقرارات النقديّة والماليّة والاقتصاديّة، لرهن البلاد بشكل كامل والسيطرة على القرار السياسيّ مقابل القروض الماليّة، وليس، كما يروّج البعض، بأنّ الأموال ستساعد لبنان على النهوض مجدداً.
نماذج حيّة
1- الإكوادور
في العام 2019، وقّعت الإكوادور اتفاقيّة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4.2 مليارات دولار لمدة 3 سنوات.
كانت شروط الصندوق تتمثل بطرد الموظّفين من القطاع العام، ورفع الضرائب، وخفض الاستثمار العام، وتقليص الموازنة 6% نسبةً إلى الناتج المحلي، وكانت النتيجة ارتفاع خط الفقر من 50% إلى 70%، ونسبة البطالة من 15% إلى 70%، إضافةً إلى ارتفاع الدين العام إلى 16 مليار دولار، وتخصيص 75% من ميزانيتها لسداد الديون.
أمّا الهدف الذي تحقق، فهو إغراق الإكوادور في الديون لاستغلال ثرواتها، وخصوصاً بعد التأكّد من توفر مخزون كبير من النفط الخام لديها، ووجود احتياطي تؤكّد الدراسات أنّه منافس من حيث الكمّية لنفط الشرق الأوسط، ويشكّل أحد بدائله، بحيث أصبحت حصّة الشركات الأميركية اليوم تعادل 75 دولاراً لكلّ 100 دولار ناتجة من الخام في البلاد.
2- الأرجنتين
حقّق صندوق النقد في الأرجنتين فشلاً ذريعاً، ولم يستطع فرض الحد الأدنى من التوازن الاقتصادي والاجتماعي المطلوب، بحيث ارتفع الدين العام من 241 مليار دولار إلى 321 مليار دولار، وانخفضت قيمة العملة بشكل حاد، وارتفعت معدلات الفقر من 35% إلى 47%، كما ارتفعت الأسعار بمعدّل 7% شهريّاً، ما أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية.
3- اليونان
بلغ الدين العام في اليونان ما يقارب 180% من الناتج المحلي بعد توقيع الاتفاق مع الصندوق، ورافق ذلك ارتفاع نسبة البطالة، وانخفاض عدد السياح، وإثقال المصارف بقروض غير مسدّدة، فضلاً عن الفضائح التي نُشرت في “ويكيليكس” عن مخطط التآمر على اليونان من قبل المشرفين على الملف المالي، وتسليم البلاد ورهنها وإخضاعها لشروط البؤس في صندوق النقد.
4- تونس
غذّى صندوق النقد الفساد في تونس، وكان العنوان العريض للتجربة هو “غياب التخطيط”، فخفضت التقديمات الاجتماعية عشوائيّاً، وجرت خصخصة قطاعات الدولة وأملاكها، وفرضت الدولة ضرائب إضافية، كما انخفضت قيمة العملة. كل هذا من أجل قرض بقيمة 1.740 مليار دولار. وعندما طلبت تونس تجديد القرض مع زيادة قيمته إلى 2.8 مليار دولار، ازدادت الشروط السياسيّة تحت عناوين وأهداف اقتصادية.
5- الأردن
رغم أنّ تجربة الأردن مع صندوق النقد ما تزال حديثة العهد، إذ حصلت البلاد على قرض بقيمة 1.3 مليار دولار العام الماضي، فإنَّ تداعياتها ظهرت بسرعة، إذ تراجعت القدرة الشرائية، وانخفض الحد الأدنى للأجور وسط تجاهل حقوق العمال، وازدادت الضرائب. والنتيجة كانت أنّ الاقتصاد ما يزال يحتضر.
6- مصر
يَعتبر صندوق النقد الدولي أنّه حقّق تجربة ناجحة في مصر، لكن مقابل تحقيق نمو إيجابي بنسبة 4%، زادت نسبة الفقر من 30% إلى 46%، وارتفعت أسعار الأدوية، كما زادت الضرائب، وانخفض الإنفاق العام على الصحة والتعليم. ويهدف إغراق مصر في الديون إلى السيطرة على مصادر الغاز المهمة جداً، وخصوصاً بعد اكتشاف حقل ظهر في شرق سواحل المتوسط.
يقول جون بيركنز في كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي” (Hit Man Confession of an Economic)، إنّ الجانب غير المرئي في خطّة القروض والمشروعات هو تكوين مجموعة من العائلات الثريّة ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي داخل الدولة المدينة، تُشكّل امتداداً للنخبة الأميركية، من خلال اعتناق أفكارها ومبادئها وأهدافها، بحيث ترتبط سعادة الأثرياء الجدد ورفاهيتهم بالتبعية طويلة المدى للولايات المتحدة.
في المحصّلة، لا تصبح السياسات الاقتصادية جيّدة إلا من خلال منظور الشركات الكبرى، وتكون الدول التي تقتنع بهذه المفاهيم مُطالَبةً بخصخصة الصحة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء. بعدها، تصبح مضطرة إلى إلغاء الدعم وجميع القيود التجارية التي تحمي الأعمال الوطنية، بينما عليها القبول بأن تستمرّ أميركا وشركاؤها من الدول الصناعية الكبرى بتقديم الدعم لقطاعات أعمالها وفرض القيود لحماية صناعاتها.
هذه النماذج موضوعة اليوم أمام لبنان، فإمّا تُثبّت السلطة السياسيّة خيارات الدولة العميقة، وترهن البلد، وتتخلى عن مصادر الغاز والطاقة الكبيرة التي تمتلكها لصالح الغرب وشركاته، وتتعمّق الأزمة في البلاد، وإما تأخذ قراراً بالنهوض الاقتصادي، بدءاً من التفكير الحقيقي في تنويع الخيارات الاقتصادية، انطلاقاً من حدوده الشرقية، وصولاً إلى عمق آسيا والصين وروسيا.
* خبير في الشؤون الإقتصادبة
الميادين نت