عندما أعلن الإمام الخميني آخر جمعة من شهر رمضان، يوما عالميا للقدس، كان يدرك جيّدا أبعاد تخصيصه ذلك اليوم في ذلك الشهر، وهو العالم المجتهد العابد العارف بأدبيات الاسلام ومعنوياته، وغير خاف على ذوي الألباب، ما لشهر رمضان من أبعاد روحية يعيش فيها المسلم، وهو مدعوّ الى مائدة ضيافة ربّه، لينال منها بقدر صدق نيّته، وحُسن اجتهاده، واخلاصه في تقرّبه منه.
شهر تميّز على بقية شعور السنة، بنزول القرآن في ليلة مباركة ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين” (سورة الدخان الآية 3) وفضلا على نزول القرآن فيه، فإنه انفرد بليلة أخرى، ذات قيمة معنوية عالية ” إنّا أنزلناه في ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر” (سورة القدر) ورحمة الله – بناء على هذه السورة العظيمة- لا تنقطع عن مخلوقاته، فيما يحتاجونه من أمر معاشهم ومآبهم، ويلتمسها الصائمون العابدون، في العشر الأواخر من الشهر الكريم، كما أشار الى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن روحانيات شهر رمضان المعظّم، انتصار المسلمين في أوّل معركة خاضوها، يوم 17 رمضان، من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة، ومعركة بدر الكبرى، أثبتت ما للشهر من تأثير روحيّ إيجابي، على المجاهدين في سبيل الله، وبرهنت على أن صفاء الروح، يكون في أعلى درجاته، عندما يكون المؤمن صائما لله، ومن هذه الرؤية الإيمانية الخالصة، دعا الإمام الخميني المسلمين كافة، إلى إحياء آخر جمعة من شهر رمضان كيوم عالميّ للقدس، عاصمة فلسطين، برمزيّتها الدينية عامة، وعناوينها الإسلامية خاصة، طريقا فعّالا يفضي في خاتمته الى حلّ القضية الفلسطينية. وتحويلها من مجرّد صراع ماديّ، لا يرقى على كونه نضال مشروع، من أجل استعادة أرض مسلوبة لشعب مستضعف، إلى جهاد معنوي روحاني، في مواجهة قوى الإستكبار والصّهينة في العالم، رؤية قائد بصير عارف، ومؤمن بكل كلمة أفضى بها الى شعبه، والى الأمّة الاسلامية، أعطى للقضية الفلسطينية ما تحتاجه من بعد إيماني، سيرفع من حظوظها في الحلّ، بما يجب أن تحلّ به كل قضية تحرّر، وهو المقاومة المسلحة، لكنه في هذه الحال أكبر من أن يتصوّره أعداء الإسلام.
كثرة هي خطابات الإمام الخميني، وكلماته العالية في مضامينها، بخصوص القضية الفلسطينية، والباحث عنها في ما تركه لنا من ذخر، لن يجد معاناة في أن يقتطف منها، ما طاب من معان بسيطة في ألفاظها، لكنها عميقة في أبعادها، تصبّ كلها في إطار معالجة معضلة الأمّة، وكان مما قاله: “يجب على المسلمين إحياء يوم القدس، الذي هو مجاور لليلة القدر، وجعله أساساً ومبدأً ليقظتهم وانتباههم” وفي دعوة متكررة منه، إلى الأمة الإسلامية، قال سماحته: “جدير بالمسلمين في يوم القدس، الذي هو من أواخر أيام شهر الله الأعظم، أن يتحرروا من أسر وعبودية الشياطين الكبار، وقوى الاستكبار، وأن يرتبطوا بالقدرة اللامتناهية لله، وأن يقطعوا أيدي مجرمي التاريخ، عن دول وبلاد المستضعفين”.( خطاب بتاريخ 31/7/1981) فحلّ للقضية الفلسطينية، في فكر الإمام الخميني، لا يكون إلا من جهة إيمانية بحتة، ترى في اللجوء إلى الله سبحانه في أحكامه وآدابه، والإرتباط به وثيقا، وردّ اعتباره الضائع في مجتمعاتنا، واعتمادها بصدق، أدوات لهدم ما بناه الأعداء، من أوهام مكبّلة لهمم المسلمين، في التوجّه نحو استعادة ما اغتصبه الصهاينة، من أرض رسالات الله ومهبط وحيه لكثير من أنبيائه، ومسرى ومعراج نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وتطهيرها من دنس المفسدين في الأرض، قتلة أنبياء الله.
غياب هذه الرؤية الإيمانية عن طرحها، في بداية نشوب الصراع مع العدوّ الصهيوني، سببه أن الحكام الذين وضعوا انفسهم موضع قيادته، لم يكن في حسابهم أن يجعلوه في إطاره الإسلامي، الذي وضعه فيه الامام الخميني، وبنظرتهم القصيرة وضعوه في إطار عرقيّ بحت، ثبت بالتجربة أنه ليس بمقدوره أن يقدّم حلاّ للقضية الفلسطينية، بل زادها تعقيدا وضياعا، خسرنا فيه الوقت والإمكانات، فوّتنا على أنفسنا فرصة ثمينة، في اقتلاع جرثومة الفساد من على أرض فلسطين.
وسواء صادفت آخر جمعة من شهر رمضان ليلها أو نهارها، ليلة من ليالي القدر، التي دعا فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى إحيائها، بالذكر والعبادة وتلاوة القرآن، فإن ما قصده مؤسس يوم القدس العالمي، يندرج في هذا الإطار التحفيزي، لبذل مزيد من الجهد، من أجل الوصول بالقضية الفلسطينية الى باب الفرج والحلّ الإسلامي، وقد برهن هذا التوجّه الذي اختاره النظام الإسلامي في ايران على نجاعة، وفتح باب حل القضية على مصراعيه، بما بلغ به اليوم من مستوى متقدّم، في الاستعداد ليوم الفصل، وجدّية هذا النظام في التعامل الإيجابي معها، شجّع بثورته – التي قامت على رد الاعتبار للإسلام – على تأسيس وقيام حركات مقاومة إسلامية في فلسطين ولبنان، نجحت في كسر مقولة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر، فأصبح يُقهر ويزداد كل يوم في كيانه قَهرا وارتباكا، إلى يوم زواله بإذن الله.
لقد اثبت ربط الامام الخميني للقضية الفلسطينية بالواعز الإيماني نجاحا كبيرا، واعدا في ما أحرزه لغاية اليوم من صمود وانتصارات، عافيا عما سبق من سوء تقدير وتعامل معها، بحصرها في اطار لم يقدّم لها شيئا على مدى تاريخ الصراع، سوى مزيد من الخسائر والخيبات، وغدا – وصبحه يبدو قريبا – سيثبت للعالم، أن هذا القائد الفذّ، كان النّاصح الأمين، لحلّ قضية شعب، تخلّى عنه أشقاؤه اختيارا، لكنه مع شعبه لم يتخلى عنه قسرا، مهما بلغت التضحيات، وقد قدّم ولا يزال مستمرّا على ذلك حتى بلوغ الغاية، بالإسلام والإيمان ستُحرر القدس وفلسطين، لا شك في ذلك وهو وعد إلهي، أدركه الإمام الخميني رضوان الله عليه وعمل لأجله.