كتبت مرات عديدة في أمر ايران لأنني أرفض أن أُستحمر وأن أفقد ضميري وذوقي وأن أعادي لحساب الآخرين. هل العرب بسياق استعداء ايران لحسابهم الخاص ولحساب عروبتهم؟ لا والله ولو تبيّن لي للحظة واحدة أنّ ذلك من المتاح لهم الآن ولو بنسب متواضعة لانخرطت في الاستعداء ولأبليت فيه البلاء الحسن. كان ذلك متاحا لهم زمن الشاه ولم تكن منهم جرأة. وقتها كان الخليجيون وهم منذ فترة قلب العروبة البترولي يسجدون للشاه. هناك محطتان تشكلان خلاصة موقف العروبة الرسمية من ايران: محطة الشاه ومحطة الثورة وقد حضرت شابّا المرور من محطّة الى محطّة وفهمت الدّور ولم يزد ذلك الفهم إلا تجذّرا بمرور الزمن. لم تفتنّي “قادسية صدّام” الذي تاب عنها متأخرا عندما بدأ الغربيون يحشدون حوله لاخراجه من الكويت ومحاصرته والاجهاز عليه ولا فرية “الهلال الشيعي” التي بثّها مطبّع وادي عربة ذابح الفلسطينيين في أسود أيلول ولا اسطوانة العواصم التي “تحتلها” ايران. هل الرّأي مثلا أنّ بيروت عاصمة محتلّة وأنّ الرّياض عاصمة حرّة مستقلّة؟ قد يكون هذيان من فرط فلسفة وقد يكون من فرط فًلس وبيروت لا تملك فلسا تهبه للفلاسفة أمّا الرياض فتملك كلّ الفلس وتستدعي للبهرج كلّ السّلف.
كان مطلوبا من العرب منع عدوى هذا التحوّل إليهم واجهاضه بالتآمر على ايران. ماذا أقصد بالتحوّل؟ أقصد تطورا سياسيا يعرّف الإستعمار عدوّا ويعرّف الصهيونية عدوّا. هذا جوهر المسألة. حديث التفاضل الجيني (عرب مقابل فرس) وحديث التمايز المذهبي (سنّة مقابل شيعة) حديث تعمية وتمويه واستثارة غرائز. عاش ترك وفرس وعرب وكرد قرونا على تلكم الأرض وعاش شيعة وسنة ومسيحيون ويهود وغير ذلك من طوائف ومذاهب قرونا متّصلة ولم تظهر دعاوى استئصال كما كان خلال السنوات الماضية؟ لماذا؟ لأن مصالح الصهيونية والاستعمار تمرّ الآن عبر هذه الدعاوي وهذا التهييج الواسع للغرائز خصوصا وقد عجزت الجيوش عن أداء المهمّة وتحقيق نصر يريح من ايران ويذهب بصداعها. ألّب الاستعمار في السابق عربا على أتراك لتفكيك الامبراطورية العثمانية وألّب الاتراك والايرانيين على مصر الناصرية التي رفعت شعارات معادية للصهيونية والاستعمار. التأليب تحوّل منذ 79 على ايران والسبب معلوم.
لم ينجح تأليب الأتراك الا قليلا والاتراك اليوم يبنون علاقة استراتيجية متينة مع الايرانيين وهذا منطق الجغرافيا وهذا منطق التاريخ. لا ينزعج الأتراك من تشيّع الايرانيين. كذلك لا ينزعج الايرانيون من تسنّن الأتراك وعندما يجتمع قادة جيوشهم وظباط مخابراتهم وديبلوماسيوهم لا يناقشون جدارة الجينات ولا أفضلية العقائد. النقاش في الامن والتنمية وصراع النفوذ وخطط الأقوياء. انظروا الى آل سعود: دورهم منذ سنوات تأليب وتآمر على الايرانيين والاتراك. ينخرطون في صراع مع الجار القريب لحساب عدوّ قادم من بعيد متشكّلا صهيونية وقواعد استعمار.
عندما يصرخ آل سعود بل يكفي منهم التصريح والاعلان بأنّ أمريكا عدوّ وأنّ اسرائيل عدوّ سأنسى ايران وسأعاديها إكراما لآل سعود. آل سعود أو غيرهم على هذه الجغرافيا العربية وإنما ذكرتهم لأنهم منذ كمب دفيد هم قلب النظام الرسمي العربي. الآن لن يكون منّي استعداء لها وسأبقى محترما لها ما دامت لوحدها تمتلك الجرأة على قول: الموت لأمريكا والموت لإسرائيل. وهي، وفقط للتذكير، تفعل ولا تقول. هي تسلّح وتموّل مقاومين عرب بين سنة وشيعة وهي تحشد بالديبلوماسة مناصرين لقضايا عربية قبل أن تكون ايرانية من كلّ دول العالم.
نعم، العرب أولى بالقدس من الفرس والسنة أولى من الشيعة ولكن بأي معنى؟ معنى البيع والتفريط؟ هم أولى بالتحرير ولكن المشكلة أنّ الساعين والسائرين على درب هذا التحرير من العرب تسندهم ايران ولا يسندهم العرب الرسميون. أل سعود يتنصّلون من هؤلاء ويحاصرونهم. إذا كنا نرجّح نفاق وكذب الايرانيين فلا حلّ للعرب غير التقدم لمقارعة الصهاينة ووقتها لا شيء سيمنعني من الاعتراف لهم بكلّ الصدق وتمام البطولة. إذا كان حديث قيس سعيد رئيس تونس الجديد يقود جهبذ الفلسفة عندنا الى استخلاص أنّه صنيعة الملالي فما الذي يعنيه هذا ضمنيّا؟ هذا يعني أنّ فلسطين تحولت اختصاصا ايرانيا وعليه فكلّ من يذكر فلسطين يصبح في خانة الايرانيين؟ تعلّمنا صغارا أنّ فلسطين قضية العرب المركزية فلماذا فرّطنا فيها؟ هل فرّطنا لأن التفريط فيها جالب للسلام؟ وهل قبضنا سلاما من كمب ديفيد الى اوسلو الى “غضبة للله يا أمريكا” وشراكات الدمقرطة الموهومة؟ نحن، واقصد النظام الرسمي العربي، فرّطنا في فلسطين وتجاوزنا ذلك الى لعن من يرى ويقول أنه لا يجوز التفريط في فلسطين.
زاد الفيلسوف الصغير واعتبر إيران خطرا أولويا داهما وقلّل بالمقارنة من شأن صهيونية واستعمار. بعينه، لا بعين غيره والحمد لله، ايران هي الصهيونية والإستعمار بل هي أخطر منهما بكثير. هذا يفتح على ممكنات كثيرة يشتغل عليها آل سعود منذ أربعين سنة. يصير عاديا بل مطلوبا أن يقوم حلف عربي أمريكي لقتال الايرانيين. أيضا وبنفس المنطق وتعريف الخطر والأخطر يمكن قيام حلف عربي عبري لقتال الإيرانيين. على الواحد أن يخلص الى خطر الفلسفة ببعض السياقات النشاز. أقترح عليه أن يقترح على آل سعود الدخول في مواجهة مباشرة ومفتوحة مع الصهاينة والأمريكيين من دون التنسيق في ذلك مع الايرانيين لإبعاد كلّ تهمة. لا أظنّ أنّ من حقّه الاقتراح فهو بأعينهم دون ذلك بكثير. وظيفته تزيين وتلميع سياسات خرقاء وطلاء العبث بمفردات الحكمة العالية.
هذا هو المشكل عندما يتعلق الامر بالعرب وايران. هو مشكل سياسي. لا هو مذهبي ديني ولا هو فلسفي كلامي ولا هو مشكل عرقي جيني. هو مشكل تناقض سياسات ولقد نجم التناقض عندما رأى الايرانيون بعد ثورتهم تعريف العدو والصديق. كان المنتظر والمأمول رؤية العرب ينجزون هذه المهمّة التاريخية الحيوية ولم ينجحوا ولا يعود السبب في ذلك الى الايرانيين. ولأنهم فشلوا تمادوا فعرّفوا من يعرّف الصهيونية عدوّا عدوّا لهم وعادوا للتبرير الى ماضٍ سحيق والى فتاوى الشرك والتوحيد.
لا نسأل: لماذا نجح الايرانيون وكيف نجح الابرانيون وهل نستفيد كعرب من نجاحهم؟ هذه أسئلة حرام فالذي أذعن للفشل وأخلد الى الهوان لا بسأل عن ناجحين ونجاح. هل نجح الايرانيون لانهم مسلمون؟ لا. هل نجح الايرانيون لأنهم شيعة؟ لا. هل نجح الايرانيون بسبب مورثات جينية؟ لا. هم نجحوا لأنهم قرروا النجاح فنهضوا. الموروث لا بضمن النهوض ولا يمنعه وعليه فلا نهوض به ولا نهوض بالقطع معه وإنما النهوض بالفعل والتفاعل والتفعيل وهذا مثبتٌ ايرانيا ومتحقّق في كلّ مناشطهم، من التسليح الى الفكر وصور السينما. هناك بوذيون ينهضون وهناك هندوس ينهضون وهناك شيعة ينهضون وليس مطلوبا منك أن تتهندس أو تتبوّذ أو تتشيع لتنهض. مطلوب منك أن تبني منظومة نهوض.
على ماذا بنى الايرانيون منظومة نهوضهم؟ بنوها على أسس واضحة جليّة: 1 ابداع خطاب متناسق بالتعليم والفكر والثقافة والابداع الفني والموروث الاسلامي الشيعي. 2 الاستقلال فلا يستقيم نهوض مع خنوع ولقد بذلوا في سبيل ذلك الدماء ويبذلون. 3 التنمية الذاتية فالمرتهن لا ينهض ولا ينتصر جندي برصاص عدوّه. من رام النهوض يحسنّ به تدبر ما ينجزه الايرانيون وكيف ينجزونه. هم بستلهمون من شهادة الحسين فدعك من شهادة الحسين واستلهم من عدل عمر. الواقع أنّ العرب لا يستلهمون، لا بستلهمون من حداثة أصيلة فلا يجذبهم منها إلا الجعّة والمؤخرات ولا يستلهمون من حسين وعمر. اذا استلهموا فمن خبث معاوية ووضاعة يزيد. ألا ترونهم يتقنون قطع الرؤوس؟
عندما يأتي في هذا الواقع العفن الآسن مرشّح للرئاسة قليل الثرثرة فصيح لسان متخلق يحدث عن ارادة الشعب وبأس الشباب وبستلهم من قفص وعصفور حبا في الحرية وانتصارا للعزة والكرامة ويقينا في حتمية انعتاق المظلومين يُخرجه فيلسوفنا الصغير صنيعة ملالي ودرويش ودون كيشوت له خوار. هزل الفيلسوف الصغير والفلسفة براء من صغره. لا أراه الا قد حرقه حسده ودمّرته أناه اذا كيف لنكرة مثل قيس سعيد أن يحصل على هذه المكانة وهو الجهبذ الفيلسوف لا منادي عليه ولا مهتمّ به؟ كيف وهو يفكّر في الأمة والاستئناف وورطات التاريخ ويكتب في ذلك كتبا كثيرة؟ من يعوزه الضمير لا يتحول ضمير آخرين والاف التونسيين يرون في قيس سعيد ما لا يرون في غيره ويرونه ضميرا وصاحب ضمير وهم في ذلك احرار. اذا أرادوا ثبتوا على ذلك وإذا أرادوا غيّروا فما محلّ الصغير من الإعراب؟ ناصح أمين؟ للنصح وجاهة وللنصيحة تماسك يغيبان تماما عندما يتحدث عن قيس سعيّد ومن مرّ من التونسيين بما كتب في الرّجل أخيرا يسأل عن علاقة الفلسفة بالهذيان أمّا أنا فأسأل عن علاقة الفلسفة بملك اليمين فذلك تقليد متّصل بين آل سعود.
أمّا عن التصوف الذي يمقته التّيمي فهو أمل أهل السنّة الأخير بعد انكشاف السلفيات والاخوانيات وسقوطها من علياء. ليس المقصود بالتصوف مجاميع تحرّكها الامارات وليس المقصود ميراث الزردة والانزواء وتقديم الولاء لسلطة غشوم وإنما المقصود مفاهيم متينة وتماسك أفكار وتأكيد على التربية والتزكية بغاية صناعة الانسان المعنوي. هل أنجب مغربنا العربي بعد الامير عبد القادر من يعدله ويضاهيه؟ الامير المفكر والفقيه والصوفي والعابد والمحبّ لشعبه والمضحي من أجله. هل يرى جهبذ فلسفتنا نفسه أنفع للناس وأحفظ لدينهم واخلاقهم من عبد القادر الجزائري؟ والله لا أراه الا زبدا يذهب ولأننا بعيد جلاء يفخر به فالجلاء حقا عندما ينسحب هذيانه. لا أملك أن أزكي هذا وذاك في المطلق ولكن إذا كان من بين من سخر منهم وعدّهم طالحين من كتبهم الله عنده صالحين فليحذر غضبته لهم وعليه. لن يكون ردّ الله عليه بتدوينة تويتر أو فبسبوك.
لا قيمة يعتدّ بها كثيرا لما نعتمد من هويات تصنيف: اسلامي علماني، شيعي سني، فرس عرب، مسلم مسيحي. هناك الاحرار والعبيد والامر يتعلق بهويات تخترق ما دأبنا عليه من هويات. الذين تمعشوا على الهويات طويلا يجزعون عندما تضيع. السؤال الأخير: ما علاقة الفلسفة بملك اليمين؟ سؤال برسم الصّغير. العاصمة الخامسة هي الرياض فبشّر جماعتك. تونس تنهض وتستقلّ ولا تتورط في العبث ولا تعادي لحساب الأغبياء وقريبا، إذا وفق الله، نعطي لغيرنا الدروس وما ينجزه شبابنا في غفلة من كلّ الشياطين نافع مفيد.