إنها ليست أحلامنا ولا أمانينا، ولا هو ما نتطلع إليه ونعمل من أجله، وإن كان الحديث عن اندحار الاحتلال وزوال الكيان أصبح كثيراً ومتواتراً، يرويه الكبار وينقله عنهم الصغار، وغدا يوماً بعد آخر إيماناً وعقيدةً، وعهداً ويقيناً، كما الآيات في وضوحها وسورة الإسراء في وعودها، تعززه الروايات والنبوءات، وتؤكده العزائم والإرادات، وتبشر به الوقائع والأحداث، وتصدقه عمليات المقاومة وملاحم البطولة، وتشي بقرب وقوعه أزمات الكيان الداخلية ومشاكله الاقتصادية، وتعجل به تناقضاته السياسية وتهديداته القضائية، التي يتخبط بها ويتعثر، وتضطرب الأرض تحته بسببها وتتزلزل، وتشتعل من حوله ناراً وتتأجج، في مشهدٍ مخيفٍ لم يألفوه، وواقع مرعبٍ لم يتوقعوه.
لكنه حال الإسرائيليين وحقيقة ما يشعرون به، وهو ما يتنبأون به ويتوقعونه، ويخافون منه ويخشونه، فهم يعلمون أن كيانهم لن يعمر طويلاً، وأنه وإن اقترب من الثمانين عاماً فإنه لن يتجاوزه –إن تجاوزه- إلا قليلاً، ويشهد على ذلك رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو، ورئيس حكومتهم الأسبق الذي أصبح أقرب إلى الحاخامية فكراً وسلوكاً وشكلاً أيهود باراك، الذي بات يستشرف النهايات، ويخاف من زحف اليهود أنفسهم نحو الخاتمة “الهاوية”.
وهو لا يخفي إحساسه بأن القوة التي يعتمدون عليها ويتفاخرون بها سَتُفلُ بقوىً أخرى، باتت تكبر وتتعاظم، وتهدد وجودهم وتعرض حياتهم للخطر، ولعل الكثير غيرهم من قادة الكيان ومفكريهم الاستراتيجيين، ينتابهم شكٌ كبير أنهم والأجيال اليهودية الحالية سيدفنون في هذه البلاد، وأنه سيكون لهم فيها قبرٌ وعلى أرضها شاهدٌ.
يعزز هذه المخاوف والهواجس اليهودية نبوءاتُ حاخاماتهم الشرقيين والغربيين على السواء، الذين يروون قصصاً وحكاياتٍ تؤكد قرب زوالهم، ودنو أجلهم المحتوم، الذي سيشهد الخراب الثالث والتيه الأخير، وسيكتب نهاية “ملك إسرائيل”، وانتهاء الأحلام وسقوط الأساطير والخرافات، ولهذا نراهم جميعاً يحرصون على الجنسية الأولى ويتمسكون بها، ويحافظون على أوطانهم الأصلية وبلادهم التي جاؤوا منها، فيزورونها ويقيمون فيها، ويتفقدون أملاكهم ويطمئنون إلى مصالحهم ويجددون الرغبة للعيش فيها، ليقينهم أنها آمن لهم من “أرض الميعاد”، والحياة فيها أسهل وأيسر، والعودة إليها أفضل وأوجب.
أما العسكريون والأمنيون الإسرائيليون العاملون والمتقاعدون وفي الاحتياط، فإنهم جميعاً يحذرون من سوء الأوضاع التي يعيشها كيانهم، ومن العاقبة الوخيمة التي تنتظرهم، ومن النهاية السوداء التي تتوعدهم، ويقولون أنهم يعيشون حالة فوضى عامة واضطراباً شاملاً، فكل شيءٍ في كيانهم يحترق ويشتعل، والأحداث تتوالى وتتسارع، والتظاهرات تتسع وتنتشر، وأعداد المشاركين تزداد، ودائرة الاحتجاجات تكبر وتتمدد، والشوارع تغلق، وإطارات السيارات تحرق، والطرق إلى مطار “بن غوريون” مقطوعة، وموظفو الخدمة العامة يهددون بالإضراب، وعمال السكك والموانئ يلوحون بتعطيل المرافق العامة.
والجهاز القضائي يترنح، والتنازع بين المحكمة العليا ووزارة القضاء يكبر، والجيش لا يقوى على استعادة الهيبة وضبط الشارع والسيطرة على الأوضاع، وكبار الضباط يستقيلون، أو يعصون الأوامر ويرفضون الالتزام بالخدمة، ووزير الأمن القومي يشتبك مع مفتش الشرطة وضباط المدن، ورئيس الحكومة يتخفى ويتنكر، ويتنقل خفيةً من طائرةٍ إلى أخرى ليصل إلى المطار في طريقه إلى روما، والأجهزة الأمنية مضطربة ومرتبكة، ولا تستطيع أن تحدد عدوها أو تميز خصمها، فالمقاومون باتوا من عامة الشعب فلا سجلات تميزهم، ولا سوابق تدل عليهم، مما جعل الوصول إليهم وتحديدهم أو تحييدهم أمراً صعباً.
لا ينسى الإسرائيليون الذين حملوا عصا الترحال واستعدوا، أو أيقنوا بالموت ويأسوا، أن جبهتهم الداخلية قد ضعفت، وصفوفهم قد تضعضعت، ووحدتهم قد تمزقت، وصور جيشهم قد اهتزت وهيبته قد تراجعت، وأنصارهم يتخلون وحلفاءهم يضعفون، فالأخطار تحيط بهم من كل مكانٍ، وتهددهم على مختلف الجبهات، بينما جبهة المقاومة تقوى وتشتد، وتتماسك وتتلاحم، وهي تترقب المعركة وتتجهز لها، وتؤمن بأنها ستنتصر فيها وتحقق أهدافها، ولا تبالي في سبيل ذلك بسيل الشهداء أو أفواج الأسرى والمعتقلين، أو ركام البيوت وأصوات هدير الطائرات ودوي المدافع والصواريخ.
كل شيءٍ لدى الإسرائيليين يشي بأن المستقبل غامض والغد مرعب، وكأن خيوط النهاية ترسم، وستارة مسرح “الكيان” تسدل على النهاية، ولهذا فإنهم يتهيأون للرحيل والمغادرة، ويعدون العدة للعودة والنجاة بأنفسهم، وإلا فإن المعركة الأخيرة قادمة، وستكون حاميةً قاسيةً، ولن ينجو منها إلا من قد فَرَّ من الأرض، وأسرع إلى مغادرة البلاد، وإلا فإن القتل الحار سيدركهم، فأصحاب الأرض قد أقسموا على تطهيرها، وأعدوا العدة لاستعادتها، وتجهزوا لمواجهة من يعترضهم، ومقاومة من يقف ضدهم، وقرارهم جاهزٌ، وقدراتهم تتعاظم، وإمكانياتهم تكبر، وجبهتهم تتماسك، وعملياتهم تزداد وتتسع، وشبابهم يتقدم ويتنافس، ويختلق ويبتكر، ويقلد ويحاكي، ويبدع ويتميز.