خال الجميع في البلاد التونسية بعد انتصار ثورتهم في 14 جانفي 2011 وحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي في 9 مارس 2011 بحكم قضائي تم تأكيده تعقيبيا في أفريل من نفس السنة، أن منتسبي هذا الحزب ومن يؤمنون بفكره قد ذهبوا إلى الجحيم دون رجعة، لكن أولئك المليوني منخرط (بمحض إرادتهم أو غصبا) في ذلك الحزب لم “يرموا المنديل” ولم يستسلموا ولم يقبلوا بالتخلي عن الامتيازات التي غنموها في النظام القديم وعملوا على المحافظة عليها بكل الوسائل القانونية وغير القانونية. فكيف عاد التجمعيون إلى واجهة الأحداث و”السلطة” في كل المجالات؟
سياسيا، من خلال عمليات سبر الآراء المتتالية التي تقوم بها بعض المؤسسات المتخصصة في ذلك المجال، يتصدر الحزب الدستوري الحر سليل التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل استطلاعات الرأي ضمن الأحزاب التي قد ينتخبها التونسيون خلال حقبة تلك الاستطلاعات. نجحت سليلة التجمع عبير موسي في استقطاب الوصوليين والمتسلقين من “أيتام” الحزب المنحل الذين حافظوا على مواقعهم القيادية في مؤسسات الدولة ومن الذين فقدوها بسبب أحكام قضائية أثبتت تورطهم في النزر القليل من الفساد الذي تم كشفه واكتفى القضاء بفصلهم من مواقعهم القيادية ولم يفقدوا الأمل في العودة إليها بوسائل أخرى لأنهم لا يزالون يعبثون بتلك المؤسسات من مواقع أخرى في نفس المؤسسة أو من خلال مؤسسات الدولة الأخرى. أطلق البعض تسمية “الدولة العميقة” على هؤلاء الذين عملوا مع زعيمة حزبهم عبر خطابهم الشعبوي على نشر السأم من مخلفات الثورة واستشراء الفساد أكثر من تلك الفترة التي حكموا فيها البلاد، ليثبتوا للجميع أن التعدد السياسي والديمقراطية لا توفر الخبز وأن فسادهم أفضل من فساد ساسة هذا العصر، حتى أصبح جل سكان هذا البلد يحنون لعصرهم و”بحبوحة العيش” التي كان يضمنها لهم.
عدد كبير أيضا ممن كان يشغل مواقع سياسية على المستويات المحلية والجهوية والوطنية في النظام القديم رسكلوا أنفسهم في أحزاب قديمة وجديدة مثل آخر أمين عام للتجمع الذي اندمج في حركة النهضة الإسلامية العدو اللدود لحزبه المنحل… ومن سار على خطاه كثر…
نخلص بالقول، لو اعتبرنا أن سبر الآراء الذي يضع الحزب الدستوري الحر في مقدمة الأحزاب التي سيتم انتخابها في الانتخابات التشريعية القادمة، وجيها علميا، فسيعود التجمع في شكله القديم لحكم البلاد وتذهب دماء الشهداء ومعاناة التونسيين للفقر السنين الطوال هباء…
اقتصاديا، أكاد أجزم أن من أهم أسباب تواصل وتجذر الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد هي من صنيع “أيتام التجمع” المنحل الذين يندسون ويتغلغلون في مفاصل الدولة ووزاراتها ومؤسساتها الاقتصادية الذين يعملون جاهدا على إفشال كل إصلاح ويتقاعسون في جمع الجباية من المؤسسات الاقتصادية الخاصة، ديدنهم الزبونية والمحاباة والفساد. كما حافظ عدد كبير من مديري المؤسسات العمومية على امتيازاتهم القديمة وعملوا على إفلاسها وإفسادها حتى أصبحت حملا ثقيلا على ميزانية الدولة، ساعدتهم في ذلك بعض النقابات الفاسدة التي تسعى بدورها للمحافظة على امتيازات منتسبيها.
تكمن وطأة تأزم الأوضاع الاقتصادية في البلاد، من عجز ميزانية الدولة وإفلاس المؤسسات العمومية وغلاء معيشة السكان، في سيطرة هؤلاء على كل الموارد الجبائية للدولة ومراقبة وتعطيل شبكات التوزيع للمواد الغذائية خاصة المدعمة منها للتحكم في توفرها وأسعارها في السوق، وذلك لنشر شعور السكان بالسخط في كل أرجاء البلاد على السلطة الحاكمة والحنين للسلطة القديمة التي كانت تضمن لهم “الحد الأدنى للعيش الكريم“، كما يدعي هؤلاء.
اجتماعيا، حيث يساهم تواصل ذلك التغلغل في مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية في التحكم في المنظمات الوطنية، خاصة التي تلعب دورا اجتماعيا في مقامة الفقر وتوزيع المساعدات المالية والعينية الاجتماعية على العائلات محدودة الدخل التي تنتمي عادة إلى الطبقات الاجتماعية الهشة محدودة المستوى التعليمي والثقافي التي تسهل “دمغجتها” ونشر الشعبوية داخلها ومن خلالها لطبقات أخرى تشفق لحالها.
على المستوى القاعدي لا يزال “الشيوخ” القدامى (المشرفون على شؤون العمادات) يحافظون على نفوذهم رغم حل حزب التجمع والكثير منهم بعد أن تم عزلهم سنة 2011 استرجعوا نفوذهم إما بالعودة من جديد مباشرة لوظائفهم بعد انتسابهم لأحزاب أخرى أو من خلال ترشيح ذويهم لتلك الوظائف ليتوارثوها كما كان الشأن في النظام القديم. تكتسي سيطرة هؤلاء التجمعيين على القرى والأرياف أهمية كبرى في استغلال الأوضاع الاجتماعية المتردية لسكان تلك المناطق لاسترجاع مخزونهم الانتخابي “الأعمى“، حيث يعمد هؤلاء لتوزيع المساعدات الاجتماعية التي توفرها الدولة أو بعض المنظمات المستقلة على الفئات الاجتماعية الهشة لضمان أصواتها في الانتخابات. ينتشر هذا النهج أيضا في الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان داخل المدن الكبرى. من خلال عودة التجمعيين على المستوى القاعدي والمحلي يمكن استنتاج وفهم تصدر حزب الدستوري الحر استطلاعات الرأي.
جامعيا، بعد المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، اخترت المجال الجامعي لعدة أسباب: أولا لأن البعض يعتقد أنه في منأى عن التأثر بالفكر التجمعي الذي يبحث دائما على الانتشار والتغلغل داخل الأوساط الهشة فكريا وماديا، ثانيا لخطورة تأثير عودة هؤلاء لمجال يحتل قمة هرم المسؤولية ومكانة هامة في تأطير المستويات العليا للسلطة والاقتصاد والمجتمع وثالثا انتمائي لهذا المجال واطلاعي على بعض مظاهر عودة التجمعيين إليه بقوة.
غداة الثورة عمل الجامعيون الثوريون الشرفاء على إزاحة أولئك التجمعيين الذين كانوا يحتلون وظائف قيادية في وزارة التعليم العالي والمؤسسات الجامعية، لكن هؤلاء سرعان ما استرجعوا مواقعهم القيادية يدفعهم الانتقام ممن تسبب في إزاحتهم وتلويث الحياة الجامعية والعمل على استعادة نفوذهم من خلال تحكمهم في لجان الانتداب والترقية ونقل الأساتذة بين المؤسسات الجامعية حسب مصالحهم.
رغم أن اختيار المشرفين على المؤسسات الجامعية يتم عن طريق الانتخاب، إلا أن التجمعيين نجحوا في العودة لتلك الوظائف من خلال خلق تحالفات تجمع الأساتذة الأكثر فسادا تساعدهم على استرجاع مواقعهم القيادية في تلك المؤسسات. أما أكثر الفساد خطورة فهو ذلك الذي ينخر لجان الانتداب والترقية في كل مستوياتها حيث يتم اختيار أعضاء هذه اللجان من طرف الوزارة دون انتخابات كما ينص على ذلك القانون وتعلل الوزارة ذلك بعدم إقبال الأساتذة على انتخاب أولئك الأعضاء الذين يعيثون فسادا في انتداب وترقية الأساتذة حسب انتمائهم التجمعي أو انتماء ذويهم لذلك الحزب.
لا يزال التجمعيون يندسون أيضا فيما يسمى مخابر البحث العلمي والإشراف على المجلات والمنشورات العلمية عموما ويعملون على استقطاب الأساتذة الذين كانوا ينتمون لذلك الحزب أو الطلبة التجمعيين الذين نجحوا في الولوج إلى التدريس بالجامعة، طبعا بواسطة تلك اللجان الفاسدة التي يسيطر عليها التجمعيون القدامى والجدد.
في النهاية، يخطئ من يلقي باللائمة فقط على التجمعيين الذين تشبثوا باسترجاع نفوذهم في هذا البلد الذي يقبع شعبه في الفساد ويرفض كل إصلاح يهدد مصالحه الضيقة أو يعتقد أن قدره أن يعيش في بلد تنتهك فيه كرامته من أجل رغيف الخبز ومجبر على قبول عودة سلطة فاسدة ثار عليها الشرفاء وزهقت فيها دماء الشهداء.
* أستاذ باحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، جامعة سوسة