التضليل الإعلامي يتم دائماً بصورة منظمة ومركزة من أجل صياغة رأي ما أو فكرة أو هدف للذين يصدر عنهم هذا التضليل ، وطبعا الهدف منه هو تغيير المفاهيم والتشويه على المشاهد والتأثير على العقل واللعب بالعواطف والخيال ، لصنع الشكوك وصنع الإضطراب وغسل الأدمغة في قضايا مصيرية لا يمكن الاستهانة بها .
نواجه اليوم تساؤلات عدة إزاء تعاظم أهمية الصورة في ظل الثورة الهائلة في وسائل الاتصال والتكنولوجيا حول تأثير الإعلام بشكل عام و الصحافة بشكل خاص و ذلك في بعض القضايا، خاصة بعدما رزخت وسائل الإعلام المختلفة تحت وطأة الضغط والتوتر والتنافس فيما بينها، في غياب أسلوب نقل الخبر، و إقناع المتلقي بصحة المعلومات، على حساب الحقيقة و المعلومة الصادقة الموثقة التي هي داعمة البناء الخبري وعنوانه .
وهكذا نجد أن ظاهرة مصيدة المواطن العادي المتلقي للخبر تفرض نفسها على قضية التمدد في الفضاء الإعلامي إذا ما أخذنا في الإعتبار أن المتلقي العربي أكثر سكانه من الشباب تحت سن 25 سنة يشكلون ما بين 35 – 45 بالمئة و بالتالي غالبية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من الشباب بما في ذلك حوالي 17 مليون من مستخدمي ” فيسبوك ” ومائتين ألف حسابات ” تويتر ” و أربعمائة ألف مدون، فضلاً على خدمات الصور التي توفرها محركات البحث وبخاصة ” غوغل”
أعطني إعلام بلا ضمير …. أعطيك شعب بلا وعي
اكذب ثم اكذب ثم اكذب …. حتى يصدقك الناس
أبرز عبارت ” جوزيف جوبلز ” والذي كان يشغل وزير الدعاية والعقل المدبر للزعيم النازي ” أدولف هتلر ” و كان يسعى حينها إلى تدمير العالم بأسره وجر ألمانيا إلى حروب لا هوادة فيها وبالرغم من ذلك كان يحظى بشعبية واسعة أنذاك.
هذا العقل والفكر الذي يحمله “جوبلز” حاول بكل ما يستطيع التلاعب بعقول الجماهير ونشر الأكاذيب والتضليل وهذا ما نراه من منهج تتبعه العديد من وسائل الإعلام لخداع شعوبها والرأي العام وكل ذلك يصب في حماية مصالحها في المنطقة واحتلال أراضي والإعتداء على سيادة الدول والشعوب تحت حجج واهية من نسج الخيال .
وبالعودة لتاريخ جوبلز نرى بأنه لم ينضم إلى الجيش الألماني ويعود السبب لتشوه خلقي لديه هو تسطح أخمص قدميه وبرغم ذلك لم يمنعه ذلك بعد انتهاء الحرب الإنضمام إلى الحزب النازي وبناء صداقة وثقة مع ” هتلر “، بالرغم من معارضته السابقة له ، ليتدرج ” جوبلز ” ليصل حينها وزيراً للإعلام وورد اسمه في كتاب ” هتلر ” بعنوان ” كفاحي ” والذي صرح فيه ” هتلر ” بأن ” جوبلز ” قام بتدريبه على الحماسة في خطاباته وتدريبه على استخدام الدعاية ضد خصومه وحشد الرأي العام لصالحه .
سعادة عارمة تملكت الأستاذ والخبير الأول في التضليل الإعلامي ليجاهر بها بأنه قادر على تغيير المفاهيم واللعب بعقول الجماهير وتجسد ذلك بأشهر كلمات” لجوبلز” ( كلما كبرت الكذبة كلما كان تصديقها أسهل ) و ( كلما سمعت ثقافة تحسست مسدسي ) وهنا نرى أنها إشارة واضحة بأن الوعي هو السلاح المضاد لعمليات غسيل الأدمغة والدعاية عبر الإعلام وتغيير مفاهيم الشعوب.
وهنا نرى بأن التلاعب بالعقول يعتبر السلاح الأبرز في تغييب العقول والتلاعب بإرادتهم وخصوصاً كونه يسلبهم قدرتهم على التحليل والتدبير فيصبحون بلا أدنى شك تابعين لهذه الوسائل الإعلامية والتي بدورها تحركهم وتتلاعب بهم كيفما شاءت لتحقيق مآربهم وغاياتهم الخاصة ، وطبعاً التلاعب بالمعلومات موجود منذ الأزل فكلما ازاد الإهتمام بالرأي العام بقضية ما على المستوى الدولي كلما جعل هذا الأمر أكثر وضوحاً وكلما كان لرأي الجمهور وزن وتأثير في رسم توجاهات السياسية كلما كان هناك حاجة للتلاعب في المحتوى والمضمون من أجل بث قدر معين من الأخبار الصحيحة لإخفاء الكم الأكبر والمغلوط أو حتى المزيف في محاولة لصناعة أمر ما يقترن ببعض المصداقية بكذبة كبيرة .
وتجدر الإشارة إلى أن التعددية والتنوع الإعلامي هما الطريقة المثلى والوحيدة حتى لمحاربة الأكاذيب وكشف التلاعب الإعلامي ، ومن ناحية أخرى لابد من توافر وسائل تقنية للإستثمار في مشاريع قنوات تلفزيونية ومواقع إعلامية كون من يمتلك المال والإمكانيات يتحكم بالمعلومات والأخبار ويسخرها خدمة لمصلحته وأهدافه .
كما أن التلاعب بالعقول والمفاهيم قد يتم من خلال بث الدعاية السوداء والتي تثير وتلعب بالوعي لدى الشخص والتي تفقتقد أساساً للموضوعية وحتى للحيادية والمهنية وتعتبر عنصر مدمر وهدام كونها بدأت بالكذب والتزوير والتضليل والدسائس من أجل الوصول إلى أهدافها ومبتغاها .
وطبعاً من يستخدم هذا الأسلوب في الدعاية يستخدم جزء من دعايته بشيء من الواقع ليوهم المشاهد والمستمع بأنه على حق وصادق فيما يقول وبأنه يستند إلى معلومات دقيقة جداً وهنا يلجأ إلى التهويل حتى يغرس ما يريد في اللاوعي لدى المشاهد والمتابع .
بعض الأساليب للتلاعب بالعقول والتضليل ومنها:
الإقتطاع من السياق : يمكن أن نطلق على هذا النوع “التدليس”، وهو ذكر بعض الحقائق وإخفاء الأخرى لخدمة غرض أو هدف معين، أو لتدعيم وجهة نظر ما .
أسلوب التحريف : ويتم صناعته من خلال القص والحذف وتغيير مسار الخطاب حسب هدف ومايريد ناشر الخبر وطبعاً يستخدم لتحقيق أهداف معينة .
أسلوب توجيه الأنظار : ويكون ذلك من خلال توجيه المشاهد أو المتابع إلى قضية ما طبعاً ليست قضية مهمة للجمهور أو حتى يريدها مثل ” الاسعار، الصحة ، التعليم وغير ذلك
التكرار : ( أكذب حتى يصدقك الناس ) و لنشر فكرة كاذبة عليك بتكرارها فكلما كررنا الكذبة أو الدعاية مع إضافة الجديد لها تصبح لها أرضية معينة وأرض خصبة يمكن استخدامها في وقت ما أو مرحلة ما .
الإشاعة : وهي بث خبر مختلق بين يدي الجمهور ( كبعض الأخبار المفبركة و التي يتم تداوالها على الواتساب أو وسائل التواصل الإجتماعي ) بدون التحقق من مصدرها أو صدقها كأمور تمس الحياة اليومية وطبعاً هذا الأسلوب يستخدم لتأليب الرأي العام لصالح هدف معين يروج له .
النقل الأعمى : نقل الأخبار دون تمحيص وتدقيق وبدون التأكد من مصدر مسؤول أو من المصدر.
الرقم الصحيح والحساب المضلل : وهذا النوع من التضليل كنشر تقرير عن حالات ( إعدام – سرقة – جرائم ) لدولة ما مقارنة مع دول العالم بدون احتساب عدد السكان في كل دولة .
كيفية التصدي للتلاعب بالعقول والتضليل :
من الضروري أن يفرّق المتلقي بين الخبر والرأي ، فوسائل الإعلام قد تنشر رأيًا أو انطباعًا لأحد العاملين فيها أو من يقف خلف كواليسها ، وقد يمزج هذا الشخص بين صياغة خبرية ورأيه الشخصي، ما يستدعي الانتباه والحذر وخصوصاً مع قراءة الخبر المنشور في أي وسيلة إعلامية، لا بد من وضع أمور كثيرة في الحسبان؛ أهمها: خلفية هذه الوسيلة الإعلامية، والخيارات التي تتبناها، ومن يقف وراءها، وما مصلحتها من نشر أخبار تُدِين أو تُنَاصِر هذا الطرف أو ذاك النهج و يشمل ذلك وسائل الإعلام الغربية والصهيونية ومن يدور في فلكهم ، والتي أثبتت للقاصي والداني بعدم حياديتها وانحيازها المطلق لمصالحها .
وبعد التدقيق في الوسيلة الإعلامية، لا بد من التدقيق في الخبر المنشور نفسه، ومعرفة مصدره الأول، أي معرفة المصدر الذي اعتمدت عليه الوسيلة الإعلامية في نقل وتبني الخبر؛ إذ إن مصادر مثل «شهود عيان» أو «ناشطين» تُضَعِّف كثيرًا من مصداقية الخبر، ومثل هذه الأخبار يمكن فبركتها ببساطة؛ إذ يمكننا أن نخترع خبرًا ما، ثم ننسبه لناشطين أو شهود عيان، ولا شيء يؤكد الأمرأو حتى يؤكده من وجود مصادر متعددة، متناقضة المصالح، يعطي للخبر مصداقية أكبر، والتدقيق أيضًا لا بد أن يشمل الصور والمقاطع المصوّرة، فليست كل صورة تأكيدًا لخبر ما، ولا حتى كل مقطع مصوَّر، ففبركة مثل هذه المقاطع والصور بات سهلًا كما نعلم بوجود البرامج المتطورة ، وهذا يستدعي الحذر من التعاطي معها، وعلى الأقل عدم نشرها بكثافة في وسائط التواصل الاجتماعي، من دون التأكد من صحتها ومصدرها .
التدقيق في الخبر:
إذا كان التدقيق في أخبار وسائل الإعلام التقليدية والمشهورة ضرورة في هذه المرحلة، فإن التدقيق في أخبار شبكات التواصل الاجتماعي، التي تنتشر بشكل سريع بيننا، هو أولى وأوجب، وبخاصة أن الكذب فيها كثير و أخطر ما يحصل هو استخدام أخبارٍ وصور مفبركة لتهييج الناس في اتجاهات سلبية، وإذا كان المرء لا يستطيع التدقيق في كل خبر، فعليه ألا يصدّق كل خبر؛ كي لا يقع ضحية التضليل، ويُمَرِّرَه عبر أجهزته للآخرين ويصبح هو مشاركاً بطريقة أو بأخرى بنقل هذا التضليل ،.فأدوات الإعلام والاتصال أصبحت قادرة بسهولة على صناعة وقائع غير موجودة، واستثارة عواطف الناس واستنفارهم، والتحكم بتوجهات الرأي العام، ومع التطور التقني المذهل، لم تعد الحاجة كبيرة للاستعانة بخبيرٍ سينمائي، فكل شخص يمكنه فبركة أو تغيير مقطعٍ مصور، وهو يجلس أمام حاسوبه في بيته .
وأخيراً ان مهمة رصد التضليل الإعلامي جماعية بإمتياز ، خاصة أننا في منطقتنا العربية نمر بظروف ملتبسة، هنا يتقدم دور اصحاب الوعي المتخصص والعقول الواعية، لكشف وفضح الإعلام المأجور، ورفض التعامل معه من خلال إطلاق حملات توعية مضادة وفاعلة مدعومة بالوعي والحقائق، وتكون قادرة على أن تكشف حالات التضليل التي يقوم بها الاعلام القائم على الأكاذيب، ولابد أن نقوم بمهمة مضاعفة الوعي الشعبي العام ضد الانزلاق في منحدر الإعلام المخادع الذي لا يعمل لخدمة وطنه وأمته ، بل هو اعلام مأجور، مزيّف للحقائق، يتحرك وفقا لأهداف مرسومة مسبقا، مضادة للشعب وللدول، بعد استلام الأجور عن هذا الدور الخبيث مقدما.
*مدير مركز رؤية للدراسات والأبحاث في لبنان