يبدو أنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام على طاغية زمانه – مع وضوح أسبابه – استعصى فهمه لدى كثير من المسلمين علماء وعامة، فمنهم من اعتبره خطأ، ما كان عليه أن يقوم به، كابن خلدون في تاريخه، حيث قال: (وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره، بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم، فيقوموا بأمره، فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه، لا يسما من له القدرة على ذلك، وظنها من نفسه بأهليته وشوكته، فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة، وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها..) (1) ومنهم من رآه خروجا عن دين جدّه، وهو رأي أبي بكر بن العربي صاحب العواصم من القواصم، لذلك حكم على ملحمته الكبرى وفدائه العظيم بأنه (قتل بسيف جدّه) (2)، بمعنى أنه مارق وخارج عن السلطان، الذي بحسب رأي ابن العربي شرعي، لا يجوز الخروج عليه، هاذين الرأيين الخارجين عن إطار نهج ولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام، وقد أسهما في حصر مواقف أتباعهما، في موضع بعيد عن التفاعل الإيجابي مع الإمام الحسين عليه السلام، وثورته المؤسسة لما بعدها من ثورات إسلامية أقضّت مضاجع الظالمين، وزادهم اقصاءً ما اختلقه الأمويون من روايات، حوّلوا فيها جريمتهم النكراء إلى يوم مبارك دينيا، نجى الله فيه بني إسرائيل من فرعون (3)، فعاشوراء التي قتل فيها سيد شباب أهل الجنة وخيرة أهل بيته وأصحابه عطشا، وقطعت رؤوسهم وحملت على الرماح إلى طاغية زمانه، يوم تبرّك به الخط الأموي الذي مازال يعتمد تلك المختلقات، ويتخذ منها يوم فرح وعبادة تقرّبا إلى الله.
ومن جانب آخر فإن الثورة الحسينية قد استلهم منها الموالون دروسا وعِبَرا، دفعتهم إلى شق طريق مولاهم الإمام الحسين عليه السلام، إيمانا منهم بأن ثورته كانت الغاية منها، إصلاح انحراف أداة الحكم، وفرض القيم الإسلامية في المجتمع، ومحاربة الظلم والظالمين بكل الوسائل والسبل، التي تمكن من القضاء عليهما ممارسات وشخصيات، هؤلاء الذين سلكوا طريق الإمام الحسين عليه السلام، صنعوا من مسيرته العظيمة درب الثورة والثوار، ولم يغادروا دنياهم دون أن يتركوا بصماتهم المضيئة في تاريخ أمّتنا، ومضوا مضمّخين بدمائهم قريري الأعين بما حققوه، مرفوعي الرأس، ومن غباء الطغاة أن رفعوا رؤوسهم فوق الرماح.
من هؤلاء الثوار من حققوا انتصاراتهم على الميدان، فهزموا عساكر الظالمين شر الهزائم، ونالوا ما يصبون إليه من دفع الظلم وتحقيق العدل، ومنهم من تركوا أثارا بليغة في وجدان وعواطف القواعد الشعبية، فحققوا في المقابل انتصارا معنويا، بإثارة العواطف وشحن الأفئدة والعقول بسيرهم الجهادية المحِقّة، فبقي ذكرهم متداولا لديها، كما بقي الإمام الحسين عليه السلام وذكر عاشورائه، رمزين خالدين أبد الدّهر، بعد أن فشل الظالمون في محوها من ذاكرة الأمّة، يحكيان للأجيال الإنسانية القادمة، قيمة تلك الثورة والتضحيات التي قدّمها صاحبها في ذلك اليوم، عامل اثارة وتحريك لمن نصب وجهه قانتا لله ودينه ورسوله وأوليائه، عملا بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيمة انتصار الدم على السيف، وإن كانت معنوية، إلا أنّها أشدّ على الظالمين كنتيجة، خصوصا إذا كان قائدها إمام هدى، مثل سيد شباب أهل الجنة عليه السلام، فلا عيش يهنأ للظالمين بعد ذلك، وتظلّ هواجس سقوط أنظمتهم تلاحقهم طوال أيام حياتهم، مع يقينهم بأنّ سقوطهم قادم لا محالة.
إلّا أنه وفي مقابل محصّل ثقافة الثورة الحسينية، التي سكنت في قلوب المؤمنين بحركة الإمام الحسين الثورية وجدواها في نصرة دين الله تعالى، بدفع الظلم وإقامة العدل في أهله، فقد وُجِد من اتخذ من الثورة الحسينية (فولكلور)، يتّخذوا منه كل عام مجالا للإساءة إلى تلك الثورة، وإن لم يشعروا بما يقومون به نتيجة عدم وعي، حال دونهم ودون أهداف خروج الإمام الحسين عليه السلام على طاغية زمانه، فذهبوا بعيدا عنه – وما كان يصبوا إليه من ثورته الفريدة في مشاهدها التّضحويّة- إلى أعمال لا يمكنها أن تضيف شيئا من الإصلاح في الأمّة، بل لقد أسهمت في إعطاء انطباعات مغلوطة عن الثورة الحسينية لمن لم يستوعب حقيقتها التاريخية.
بين هؤلاء الذين كتبوا عن الثورة الحسينية بأقلام توابع السلطان، فلم يقدروا على قول كلمة الحق بشأنها، خوفا من تبعات ذلك، وبين من اتخذ من مناسبتها مجالا لتفريغ عواطفه – وآمل أن تكون صادقة – خرج علينا مؤمنون أحسنوا فهمها وتطبيقها، فأحيوا قيمها الثورية على مدى أجيالهم، ينسجون على منوالها أمثلة طيبة من الفداء والتضحية، من أجل إبقاء دين الله حيّا في القلوب والمجتمعات، وإصلاح ما أفسده الظالمون، ذلك أن العدل أساس العمران.
وأنت ايّها الموالي ماذا قدّمت لله تعالى ودينه ونبيّه وأوليائه الكمّل؟ لا تذهب إلى الشكليات وما اتخذ منه العوامّ، مظهرا مسيئا لنهج الإمامة الإلهية، فشكّل ذلك عائقا حقيقيا، حال دون فهم بقية المسلمين لحقيقة عاشوراء الحسين عليه السلام، فاتخذوا منه سببا أحجموا به عن اللحاق بركبه، والايمان بثورته، انظر إلى من ساروا بسيرته العطرة على مدى الأزمنة الماضية، وقدّموا أنفسهم وأسالوا دماءهم فقط على ساحات مقارعة الظالمين، فلا مكان آخر يُسال فيه دم التضحية والفداء، غير ميدان المجاهدين المؤمنين حقيقة بجدوى تلك التضحيات، ما يمكن أن أقوله لكم: أتركوا ركب الإمام الحسين بسيرته يتغلغل في عقول وقلوب الناس، فما الحسين عليه السلام سوى ذلك الإنسان العظيم، الذي جعل من نفسه مثالا للإنسانية جمعاء.
المراجع
1 – تاريخ ابن خلدون ج1ص170
2 – العواصم من القواصم ص 214/ ذكره المناوي في فيض القدير: من مجازفات ابن العربي أنه أفتى بقتل رجل عاب لبس الأحمر، لأنه عاب لبسة لبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل بفتياه، كما ذكره في المطامح، وهذا تهور غريب وإقدام على سفك دماء المسلمين عجيب، وسيخاصمه هذا القتيل غدا، ويبوء بالخزي من اعتدى ولبس ذلك، بأول عجرفة لهذا المفتي وجرأته وإقدامه، فقد ألف كتابا في شأن مولانا الحسين رضي الله عنه وكرم وجهه وأخزى شائنه، زعم فيه أن يزيد قتله بحق بسيف جده نعوذ بالله من الخذلان. ج 5 ص313 / تاريخ ابن خلدون ج1 ص171
3 – جامع احاديث البخاري كتاب الصوم باب صوم يوم عاشوراء ج3ص44ح2004و2005 وكتاب مناقب الأنصار باب إتيان اليهود النبي حين قدم المدينة ج5ص70ح3942 مسلم كتاب الصيام باب صوم يوم عاشوراء ج3ص149ح1130