من خلال الأحداث المتسارعة في غزة, والصفعة التي تلقاها الكيان الإسرائيلي جراء عملية طوفان الأقصى, وحالة الإرتباك والخوف التي عاشتها سلطات العدو الإسرائيلي والمستوطنون, وسط حاجة رئيس الحكومة بنيامين نتياهو لنوع من الطمأنة نتيجة الشعور الإسرائيلي العام بالخطر الوجودي, إضافةً لرغبته في الإنتقام الشخصي, لحماية سلطته وكرشي “عرشه” ودعم بقائه.
من خلال مشاركتها القوية والفاعلة في العدوان على غزة, كثفت واشنطن زيارات مسؤوليها السياسيين والعسكريين, وأرسلت وزير خارجيتها أنتوني بلينكن, وزير الدفاع لويد أوستن والجنرال مايكل كوريلا قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي, وهو الجنرال الأمريكي الأبرز حالياً, تلتها زيارة قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن إلى “إسرائيل”, سبقتها التوقعات والتكهنات سواء كانت عقلانية أو حتى الجنونية منها, فالزيارة أتت على وقع تصاعد التوتر الكبير في غزة، والذي تخلله القصف الإسرائيلي والمجزرة المروعة التي ارتكبها بقصف المستشفى المعمداني، وتسبب بإزهاق مئات الأرواح الفلسطينية من نساء وأطفال ومسنين, وألقى بظلاله على المنطقة بكاملها.
ومع ذلك أرادها الرئيس بايدن زيارة دعمٍ وطمأنة لحليفه الدائم الكيان الإسرائيلي الغاصب, في الوقت تكثف فيه “إسرائيل” استعداداتها العسكرية ومؤشراتها الواضحة وعزمها على تفيذ وعيدها المعلن بالعدوان والإجتياح البري الوشيك لقطاع غزة, الأمر الذي يؤكد أن الزيارة بحد ذاتها شكلت دعماً أمريكياً صريحاً للإجتياح الإسرائيلي البري, ولإظهار مدى تطابق الرؤى الإستراتيجية المشتركة بين واشنطن وتل أبيب.
في الوقت الذي تبدو فيه أن تداعيات الزيارة تتخطى حدود فلسطين المحتلة, وتوجّه الإنظار نحو التداخلات الإقليمية الأوسع نطاقاً، تبعاً لطبيعة القطع الحربية الأمريكية البحرية, التي نشرتها قبالة السواحل اللبنانية, وسواحل فلسطين المحتلة, وتلك التي تمركزت قبالة قبرص, بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تستعد لدعم “إسرائيل” في صراعٍ محتمل في غزة ولمواجهة التداعيات المحتملة على الجبهة الشمالية لـ “إسرائيل”, وربما على نطاق أوسع, والتي تتسارع وتيرة احتدامها من خلال تبادل القصف وإطلاق الصواريخ بين حزب الله وما تسمى “فرقة الجليل” الإسرائيلية, وهي واحدة من الفرق الخمسة التي حشدتها القوات الإسرائيلية, ما قبل العملية البرية المزعومة, وبما يعادل 50 ألف جندي إسرائيلي, واستدعاء 300 ألف من جنود الإحتياط, مع استمرار تدفق الأسلحة الأمريكية التي تلبي رغبة “إسرائيل” للحصول على دعمٍ عسكري خارجي, باتت بحاجة إليه لمواجهة التحديات العسكرية الحالية, وفي الأيام القادمة.
إن قيام يعض السفارات الدولية والعربية, الطلب من رعاياها مغادرة الأراضي اللبنانية بشكلٍ فوري, وعدد من الدول العربية, وتعليق الرحلات الجوية في المنطقة, من قبل العديد من شركات الطيران, يلقي المزيد من الأضوء على خطر حدوث تصعيد إقليمي واسع, وسط تركيز العدو على شمال قطاع غزة , بالتوازي مع الحشد العسكري الأمريكي الكبير, ووصول حاملة الطائرات جيرالد فورد, التي تحمل 76 طائرة مقاتلة و43 طائرة هليوكوبتر, ومجموعة من الصواريخ, كذلك بإستجلاب حاملة الطائرات يو اس اس ايزنهاور, مع عدد من البوارج , ووصول نحو 2000 جندي أمريكي, الأمر الذي يؤكد ارتباط القرار العسكري الإسرائيلي بالقرار العسكري الأمريكي, في رسالة واضحة بأن قرار السلم والحرب هو في يد أمريكا, على غرار الحروب السابقة التي أدارتها واشنطن بنفسها في أعوام 67 و73 و82 و2006.
في الوقت الذي تدور فيه عجلة الإستعدادات الإسرائيلية واللقاءات السياسية داخل الكيان وخارجه, بات واضحاً أنه لم يعد هناك أي دور لوزاء الحكومة المصغرة في “إسرائيل”, فالقرار الأمريكي – على ما يبدو – لا يسعى نحو إجتياح كبير وشامل لقطاع غزة, فيما القرار الإسرائيلي يسعى نحو بدء الإجتياح من شمال القطاع وصولاً إلى غزة , بهدف السيطرة على مقرات قيادة حماس وتعطيل عملها, وتدمير البنى العسكرية التي تعتمد عليها في المواجهات السابقة والحالية, في حين لن يقبل مثلث حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي, ومحمور المقاومة مجتمعاً, بإقصاء حركة حماس.
ويبقى السؤال, صحيح أن زيارة بايدن حملت في جملة أهدافها طمأنةً لإسرائيل التي تشعر بخطر وجودي, وبتأكيد بايدن بأن بلاده كانت وستبقى تدعم الكيان الغاصب, تأكيدٌ يحمل في طياته أهدافاً خاصة, تتمثل بالحصول على تأييدٍ صهيوني في الانتخابات الأمريكية, لكن مالذي سيتمخض عن ذلك بعد إنتهاء الانتخابات, هل يمكن لواشنطن تحمّل حرباً طويلة الأمد بالتوازي مع الأوضاع والمتطلبات الداخلية في أمريكا, وهل ستتحمل أوروبا قطع إمدادات النفط القادمة من الخليج, لتعويض الإمدادات الروسية المتوقفة أصلاً بأوامر أمريكية مفروضة على أوروبا, وهل يستطيع الأوروبيين تحمّل ارتفاع أسعار برميل النفط إلى مستويات عالية قد تصل إلى 150 دولار للبرميل.
ووسط استمرار القصف الإسرائيلي, واستمراره بإرتكابه المجازر بحق الفلسطينيين, وبتدمير ما لم يُدمر خلال الأيام العشرة الأولى, ووسط تصاعد التظاهرات حول العالم, والمطالبات بإدانة “إسرائيل” بإرتكابها جرائم حرب, وتصاعد الدعوات والمناشدات لإدخال المساعدات الطبية والغذائية والمياه النظيفة, وإخلاء الجرحى نحو مشافي الدول العربية, والمطالبة بوقفٍ فوري لإطلاق النار, تجري اتصالات كثيفة بين كافة الأطراف بما فيها الأطراف الإقليمية والدولية, خصوصاً بعد فشل إنعقاد القمة الرباعية في الأردن, نتيجة إنسحاب الرئيس الفلسطيني على إثر مجزرة المستشفى المعمداني, وفشل قمة مصر للسلام حتى بإصدار بيان, يبدو أن الغموض لا يزال يسيطر على الحسابات الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية, وقد تتجه الأولويات نحو الإجتياح المحدود, والتسوية السياسية, في وقتٍ لا يمكن تجاهل الأخطاء التي إعتادت الإدارة الأمريكية على ارتكابها, واختيارها السير في رُكب أعتى المتطرفين داخل الإدارة الأمريكية والكونغرس والبنتاغون وتل أبيب.
ولحين نضوج القرار الأمريكي حيال طبيعة الغزو البري وحدوده، تستمر اّلة الحرب الإسرائيلية في إرتكاب المجازر, وقصف المرافق الحيوية وما تبقى من المنازل في غزة, وبالتهديد بارتكاب أعمال وحشية على نطاق أوسع، وسط تبنيها خطاباً يدعو إلى التطهير العرقي وحتى بالإبادة الجماعية, بالتماهي مع إعلان الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج بأنه “لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة”.
حتى مع تزايد التهديدات بالتصعيد الإقليمي، فإن إدارة بايدن لم تخف تأييدها شهوة “إسرائيل” لسفك دماء الفلسطينيين مدنيين ومقاومين, إذ أعلن السكرتير الصحفي للبيت الأبيض أن الدعوات لوقف إطلاق النار هي دعواتٌ “بغيضة”, وتم إصدار التعليمات لموظفي وزارة الخارجية الأمريكية, بتجنب استعمال مصطلحات “وقف التصعيد, وقف إطلاق النار, إنهاء العنف , وقف سفك الدماء, استعادة الهدوء”.
على الرغم من الأصوات داخل الولايات المتحدة الداعمة لوقف إطلاق النار, إلاّ أن مواقف إدارة بايدن تمثل أصوات الغالبية المؤيدة لمبدأ الإجتياح الإسرائيلي البري لقطاع غزة، وتأييد “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، لكن يبقى من الناحية القانونية والإنسانية والأخلاقية, السؤال, هل تمتلك “إسرائيل” الحق في ارتكاب المجازر وجرائم حرب ضد المدنيين ؟, بالمقارنة مع الحق الفلسطيني الذي تضمنه الشرعية الدولية والقانونية للأمم المتحدة, في الدفاع عن أنفسهم, وفي مقاومة الإحتلال.
لا يمكن للأمريكيين والأوروبيين, ومن يؤيدون “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”, تجاهل منشورات ومؤلفات الحاخام برانت روزين, العضو اليهودي البارز في حركة التضامن مع فلسطين، مؤلف مدونة “العدالة الاجتماعية اليهودية”, الذي أعاد التذكير بخطاب موشيه ديان في 19/نيسان 1956- بمناسبة تأبين الجندي الإسرائيلي روي روتنبرغ -, ويقول فيها: “نحن جيل يستوطن الأرض, وبدون الخوذة الفولاذية وفوهة المدفع لن نتمكن من غرس شجرة وبناء منزل, دعونا لا نخشى الكراهية التي تلتهم حياة العرب الذين يعيشون حولنا.. خيارنا أن نكون جاهزين ومسلحين، أقوياء وقساة قلوب, وإلاّ سقط السيف من أيدينا وتنتهي حياتنا”.
إن إصرار تل أبيب على تقويض حل الدولتين الذي زعمت أنها تدعمه, يمر عبر رفض نتنياهو وقناعته القديمة, بأن منح غزة الحرية لحكم نفسها لم يكن عملاً صائباً, وبأنه “يُبشر بقيام دولة فلسطينية”, وهذا بحد ذاته يقوض الجهود الدولية الحالية, والمناشدات العربية والدولية, لدفع “إسرائيل” للقبول بالإنسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967, وقيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية, وبإيجاد “الحل العادل” لقضية اللاجئين.
الوسومطوفان الاقصى ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
من اجل فلسطين… المقاومة تتجدد… بقلم ميلاد عمر المزوغي
في البدء خاضت الحركات اليسارية معركة تحرير فلسطين, حينها كانت الضفة والقطاع تحت الوصاية العربية, …