بقلم: محمد الرصافي المقداد |
ولد في قرية بالجنوب التونسي في 1934، من عائلة محافظة، غلب عليها الطابع العربي في الكرم وعزة النفس وعلوّ الهمّة والشجاعة والتشبث بالأصالة، فنشأ وترعرع على تلك الخصال والسجايا، واصطبغت بها شخصيته، فكان أهلا لها في كامل مراحل حياته، في رعاية أب يقرّ له كل من عرفه، بأنه كان سيّدا في قومه مسموع الكلمة.
تلقى علومه ومعارفه الأولى في المدرسة القرآنية، شأنه في ذلك شأن أهل الجنوب التونسي، ثم تدرج نحو التعليم الزيتوني في فرعه بتوزر، ولما كان التعليم في ذلك الزمن، غير ميسور لأهل الأرياف، من ذوي الحاجة إلى لقمة العيش، وسط أجواء من العسرة، وقلّة ذات اليد، فقد انقطع الشيخ عن التعليم، وانشغل بإعالة أهله، لكنه بقي على شغفه بالعلم وتحصيله، وقد أعطته سنوات الدراسة ملكة حفظ، ونباهة بحث واستنباط، ومعرفة تامة باللغة العربية وقواعدها، والقرآن ومفاهيمه، والفقه وأحكامه، والحديث وعلومه، وكان فوق ذلك كله صاحب خط جميل جدّا، يلتجئ إليه كل من يرغب في كتابة لفائدته، سواء كانت اشهارية، أم شكاية الى جهة ما.
ولما كبر واشتدّ عوده، وجد نفسه كما هي حال شعبه بين استعمار مرير، وحاكم خاضع له (الباي) يعيش تحت ظل حمايته، بعيدا عن شعبه واستحقاقاته في الحرّية، ما دفع الشيخ الى معاداة الاستعمار واهله والانضواء تحت راية الوطن ومقاومة المحتلّ، وكان في ذلك الوقت متأثّرا بالتّوجّه العروبي، حيث ظهرت القومية العربية، كجبهة مقاومة الاستعمار والصهيونية، فانخرط فيها وناضل من أجل تحقيق أهدافها في الوحدة العربية، الى أن انتهى به الحال الى تركها، بعد أن وجد ضالته في الاسلام، وجماعة العمل من أجل اقامة شريعته وآدابه وأحكامه.
نذر نفسه للحقّ، فلم يتردد يوما في طريق سلكه نحو غايته، وكان جلّ همّه أن يتوفّق وينجح فيما هدف إليه، ففي زمن سطوع نجم القومية العربية، كان أحد القائمين على حظوظها، وفي بداية ظهور الدعوة الاسلامية، وحركتها المعروفة بالاتجاه الاسلامي، فكان مؤسسا ضمن رعيلها الأول، وعند انتصار الثورة الاسلامية في ايران، بدأ اهتمامه بمسارها وقيام نظامها، وأثناء بحثه عن منج الاسلام المحمدي الأصيل، الذي اعتمده أئمة أهل البيت عليهم السلام، من خلال ما توصّل اليه من كتب ( المراجعات/ دلائل الصدق)، وكنت معه في بحثه الذي قام به، بعد عرضه عليّ، مقترحا مشاركته فيه، كان ذلك صيف سنة1981، ولم يتردد بعد فسحة من الزمن، أن يقرّ بأحقّية هؤلاء الهداة، وانخرط في الدّعوة الى نهجهم بكلّيته، واهبا نفسه لحقّهم، كما عرف عنه من قبل انضباطه، كلّما التزم بنهج سلكه بقناعة، بل لعله كان أكثر حماسة مما سبق.
كان يعمل بمقالة الصالحين من فقهاء الأمة وعلمائها، (إذا صح الحديث عند غيري فهو مذهبي)، بعدما نزع عنه رداء التعصّب الموروث، وتحلّى بكلّ الروح التي امتاز بها، في الظهور بمعتقده مظهر الداعية اليه، في وسط انقطعت عنه تلك الرؤية، وغاب ذلك المظهر الذي كان سائدا قرونا طويلة، وكان يقول لو وجدت أصحّ من نهج الائمة الاثني عشر في الاسلام، لعدلت إليه، ومن يملك حجة أدحض لحجتي فليأتني، لكن أحدا لم يجبه، وكيف يجيبه من حٌجّة ولاية أهل البيت عليهم السلام، وأحقّيتهم في قيادة الأمة مدوّنة في كتبهم المعتمدة، ومن أجابه لم يخرج من حالتين إما أن يقتنع ببيان الشيخ مبارك، فيقرّ به ويكون ضمن قافلة الهداية الى الحقّ، وإما أن ينكر ذلك جملة وتفصيلا، كما حصل في جلستي مناقشة بقابس، مع محمد سعيد، وتوفيق الكبيّر ( في بيت هذا الأخير)، وهما من قادة حزب التحرير في الجهة.
آوى اليه من أصحاب القلوب الوجلة من الله، وكان حظّهم لديه معرفتهم بأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واقتناعهم بأنهم قادة الأمة بعده، فسرّوا بذلك، وسعدت أنفسهم بالتردد اليه ولقائه كلما سنحت بذلك فرصة، فالتزموه معلما ومربيا بكامل إرادتهم، وتجنّبه من آثر إبقاء تبعيّته الموروثة على حالها، في فهم الاسلام وتطبيقه، ولم يكلّف نفسه عناء البحث وتقصي الحقائق، عن مصدر هذا التراث الذي جاءنا من أين ؟ ومن يقف وراء صناعته ليظهر اسلاما تشبّث به الظالمون قبل غيرهم؟ وهل مجموعه الذي بين ايدينا يمثل الاسلام المحمدي الأصيل الذي جاء به النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم؟
نعم لقد كنت رفيق دربه، وقد اسعدني أن أكون معه، ليس لأنه ابن عمي، بقدر ما كانت تسعدني كلماته وردوده، فأتلقفها منه، لأنسج على منوالها، كما يتلقف التلميذ من استاذه، ومنها بدأت أنحت شخصيتي في الحوار والإقناع، وكان سندا مهمّا لي، ومن جاء بعدي من الاخوة المؤمنين، الذين اقتنعوا بدعوته، وانضمّوا في أوّل مجموعة مؤمنة بأحقية أهل البيت عليهم السلام، وتشّكلها البسيط في ذلك الوقت، كان بدافع أن أغلب من التحق به حينها، كانوا ينتمون الى حركة الاتجاه الاسلامي، والبعض الآخر من حزب التحرير، ومن جماعة الدعوة والتبليغ، وآخرون من الصوفية، هذا التشكّل المتنوّع من العاملين في المجال الإسلامي، كان افراده يحملون في قلوبهم حبّا لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان مقدّمة لصفاء ذلك الحبّ وجلائه، وتصحيحا لتوجّه هؤلاء الهداة الطاهرين، بما تقتضيه مودّتهم من اتّباع وطاعة.
ولقد عانى الشيخ مبارك من تسلّط النظام البورقيبي ومن بعده نظام بن علي، فكان محلّ مراقبة دائمة، وتشديد عليه في تنقلاته، حت انه كان يعود على أدراجه من مدينة، بعد أن يكتشف أنه مراقب، تجنيبا لتتبع الاخوة الذين آمنوا بدعوته، ومضت حياته على ذلك النّحو من العيش بين وعقيدة اسلامية صافية تدفعه الى نشرها، وبين أوضاع أمنيّة تحتاج الى دراية، وحنكة في معالجتها، ومع ذلك فقد وُفّق في نشر دعوته بين الشباب في كل من قابس وقبلي ومدنين وصفاقس وتطاوين وسيدي بوزيد وقفصة والكاف، وتمكّن أبناءه الناجحين في التعليم الثانوي من دخول الجامعات، ورفع أصواتهم بالدّعوة هناك، والتّأثير بحججهم على طلبة بقية المناطق.
كان الشيخ معروفا بالتسامح وطيبة القلب، رغم الشدّة والصرامة التي تكتسي بعض مواقفه التي تتطلب منه ذلك، وكانت بينه وبين الشيخين راشد وعبد الفتاح مودّة لبغت زيارات متبادلة والمبيت عنده في بيته، لكن بانقطاعه عن حركة الاتجاه الاسلامي قبل أن تسمى نهضة استجابة لطلب السلطة، انقطع حبل المودّة بينه وبين الشيخين، ومن طرف واحد، ترك في نفسه اثرا بالغا، وكان يعمل سرا وجهرا من أجل أن لا تبقى العلاقة مقطوعة، حتى مع القيادات الوسطى وأفراد الحركة، لكنه قوبل من البعض منهم بالجفاء، والبعض الأخر بالنكران، فيما آثر البقية اتباع أوامر قيادتهم، وتطبيقها في شأن مقاطعته بحذافيرها.
وأذكر أنه ذات يوم أعلمني بأن أخت الشيخ راشد قد توفّيت، وأنه عزم على التنقل الى مدينة الحامة، لتقديم التعازي اليه، وكنت صباح ذلك اليوم مشغولا فالتحقت به بعد العصر وقدّمت تعازي للشيخ وتحادثت معه بشأن دعاوى باطلة، كانت تصلنا من اعضاء الحركة، وبيّنت له بالدليل عدم صحتها، وبعد لقائي بالشيخ مبارك، عرفت منه أن الشيخ راشد رفض التحدّث اليه، ووقفنا على حقيقة أن دعاية التسامح وطي صفحة الماضي التي طغت على مواقف الشيخ راشد ليست سوى أسلوب سياسي اقتضاه الوضع، فما جناية الشيخ مبارك التي استوجبت اتخاذ الشيخ راشد موقفا صارما منه؟ لا اعتقد أنها تصل الى الكفر، أو الظلم الفاحش، بل اني ارى أنه من باب أولى أن لا يتسامح الشيخ راشد مع أولئك الذين عذبوا ابناء حركته حتى الموت، وانتهكوا حرمات زوجاتهم، وقلبوا حياة من بقي منهم داخل تونس الى جحيم، فهل هذا من الدين الاسلامي؟ أم من الدّم الأنقليزي الذي عاش بين أهله؟
أصيب الشيخ مبارك بجلطة دماغية منذ سنتين، أدخلته المشفى والزمته الفراش، وأقعدته عن الحركة التي كان معروفا بها، وكنت ازوره بين الحين والآخر، فأرى في عينيه وعلى ملامح وجه، حسرة على ما آل اليه وضع الصحي، وكأني به يتمنى العافية، ليقوم من جديد بأعباء الدّعوة، لكن تلك مشيئة الله في خلقه، وكانت الخاتمة له ولكل من اتبع نهج محمد واله الأطهار صلى الله عليه وآله وسلم، الفوز بمستمسك الولاية الالهية، عروة الله الوثقى التي لا انفصال لها، وحبله المتين الي لا انقطاع، فلبى نداء ربه فجر يوم الاحد 27/1/2019، تاركا ابناء وأتباعا هداهم الى سواء السبيل، يدعون له بالمغفرة والرحمة، ماضون على ما كان دائبا موطّنا نفسه عليه، مقرّون له بالفضل والجميل، سائلين له جزيل الأجر والثواب، على ما قدّمه من أجل الاسلام المحمدي الأصيل، ولله عاقبة الأمور.