بقلم: د عادل بن خليفة بالكَحْلة (باحث إناسي، تونس)
لاحظ تشومسكي أن محاولات الحكومات الإسرائيلية لطرد الفلسطينيين من القدس بشكل جماعي وقسري، كان دائما بسبب اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ سياسة الإرهاب والطرد. فلا يمكن لإسرائيل أن تتجاوز القانون الدولي منذ أكثر من 70 سنة، تهجيرا وتقتيلا وأسرا بالجملة وتعذيبا مفرطا وتدميرا للعمارة وإفقارا، لولا الضوء الأخضر الأمريكي (القدس العربي، 12/05/2021). وتشكل قراءة الكتاب المقدس (بل ظاهره أحيانا) من أهم أسباب هذا الضوء الأخضر الأمريكي.
1. الإله اليهودي يدمر أريحا وأهلها تدميرا إفنائيا:
إنّ الأسفار الشعرية-العرفانية للكتاب المقدس (مزامير داود، الأمثال، نشيد الأناشيد، أيوب، إرميا…). ليست ذات عصبية عنصرية، بل إنها تُدِينُ اليهودَ وتلعنهم أحيانا كثيرة، بل إن فيها الكثير من الأدب الدعائي الراقي والحب الإلهي والحب البشري. أما الأسفار التاريخية (التكوين، الخروج، يشوع، الملوك…) فهي أسفار تحمل عصبية عنصرية- تدميرية خطيرة، ربما لن نجدها في كتب مقدسة أخرى بالعالم.
فمن الغريب أن نجد أسفارا دينية تدعو إلى قتل الإنسان وتدميره، فذلك مخالف لروح الأديان في القارات جميعا. ونحن نستغرب من عدم تنصّل الكنيسة العربية منها إلى حدّ الآن، وخاصة الكنيسة الفلسطينية (أول كنيسة في التاريخ العالمي) وعدم تبرّئِها منها. ومن العجيب أن نجد أول كنيسة بالعالم اليوم تابعة لكنائس أجنبية ظهرت بعدها تاريخيا كالكنيسة اليونانية والكنيسة الروسية وكنيسة روما.
فكل فلسطين، حسب سفر يشوع «مَوْهوبة لبني إسرائيل»، «من صحراء النقب في الجنوب إلى جبال لبنان في الشمال، ومن البحر المتوسط في الغرب إلى نهر الفرات في الشرق، بما في ذلك بلاد الحِثّيّين».
وإنها لفضيحة أن لا يمزق المسيحي العربي تلك الصفحات إلى حدّ اليوم، فلماذا نلوم الدّولة العميقة الأمريكية على إيمانها بها؟!!
ودون ذنب جَنَتْهُ أرِيحَا (أقدم مدينة في العالَم) مع «بني إسرائيل»، قادَهم يَشوع في أبشع أسطورة بالعالم، «ودَمَّروا المدينة، وقضوا بحدّ السيف على من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، حتى البقر والغنم والحمير»، ونهبوا «كل غنائم الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد». وكذلك كان الأمر بكل المدن الفلسطينية، مثل مدينة عاي التي «أحرقوها بالنار»، و«قتلوا كل مَنْ فيها»… وهذا كله لم يحدث في التاريخ السوري، فلمْ يدوِّنه أحد من المؤرخين السوريين في هذا العصر وما بَعْدَه، ولكنه يتحقق إذا آمن به اليهودي أو «المسيحي» الصهيوني. وها إنه تحقق أوّلاً مع دولة «الإسرائيل» الإنكليزية- السَكصونية (التي اصبح إسمها: الولايات المتحدة الأمريكية) ثم مع ابنتها «دولة إسرائيل» منذ عام 1948 حتى انقراضها.
إنّ البروتستنتية الصهيونية تتبنى العهد القديم برمّته، وخاصة أسفاره التاريخية. فلقد بدأت الصهيونية بروتستنتية، قبل أن تنتشر لدى كثير من اليهود، ولدى بعض المسلمين. ولكنْ للصهيونية «المسيحية» (وحاشا مسيح الرحمة، ذلك الحكيم السوري العظيم، أن يكون ذا عصبيّة عنصرية) كانت سبَّاقة بكثير من القرون على الصهيونية اليهودية. ولتلك الصهيونية «المسيحية» تغليب للعهد القديم على العهد الجديد، بل للأسفار التاريخية على الأسفار العرفانية في العهد القديم.
2. المسيحية الصهيونية تتبنى تطبيقا حداثيا لسفر يشوع:
كانت للمسيحية الصهيونية قوة كبيرة جدا كنسيا واقتصاديا، من قبل ظهور اليهودية الصهيونية بمدة طويلة.
وقد كانت المسيحية الصهيونية من الدوافع الرئيسة لوعد بلفور ثم احتلال بريطانيا لفلسطين (وهي ما يسمى الآن: المملكة الأردنية +الأراضي المحتلة ) تمهيدا لتأسيس الدولة الصهيونية. كان مسؤولون سياسيون (مثل ولسن وترومان في إدارة روزفلت وهارولد إكس الذي وصف «عودة» اليهود إلى فلسطين بأنها «أعظم حدث في التاريخ») مسيحيين قرؤوا «الكتاب المقدس» دون نقده عقليا واخلاقيا، فكانوا يطبقون أحكاما وردت في ما يرونه كتابا مقدسا.
فالدولتان البريطانية والأمريكية علاوة على أستراليا وكندا، دول شديدة التدين التعصبي «وتأخذ حرفيا ما يوجد في الكتاب المقدس»، كما لاحظ تشومسكي. وهي، باستثناء بريطانيا، دول إمبريالية غير «عادية» حسب تشخيص هذا المفكر، حيث يقوم المستوطنون بالقضاء على السكان الأصليين، إذ كانوا يعتبرون أنفسهم «يهودا» يدمرون «أريحا» تدميرا استئصاليا، منفذين ما جاء في سفر يشوع، ويسكنونها بعد طرد «الفلسطينيين»، أي شعوب الماوري والهنود الحمر وغيرها…
حسب السجلات التي كانت سرية، لم تكن وزارة الخارجية الأمريكية عام 1948 متعاونة كثيرا مع الغزوات الصهيونية داخل فلسطين أثناء إنشائها للدولة الصهيونية، وكانت «قلقة» قليلا على مصير اللاجئين الفلسطينيين… بينما كانت وزارة الدفاع الأمريكية آنئذ معجبة بالقدرات العسكرية الصهيونية، واقحمت في استراتيجيتها احتمال بناء قاعدة عسكرية في أحد موانئ الدولة الجديدة. وفي صراع مصر على السيادة على قناة السويس ضد بريطانيا والولايات المتحدة، لم تجدا دعما (كان حاسما) إلا من إسرائيل.
وفي عام 1967، تطورت العلاقة الأمريكية بالكيان الصهيوني نظرا لتراجع دور الدولة الصهيونية الأولى (الدولة البريطانية) عالميا. وقد قدمت إسرائيل خدمة كبيرة للولايات المتحدة إذ ضربت الدولة المصرية الناصرية بعنف، أي ضربت الإديولوجيا القومية العربية المناهضة للولايات المتحدة والغرب. ثم قدمت خدمة أخرى للولايات المتحدة_ في رأي تشومسكي_ إذ دعمت «الإسلام المتطرف» الذي دعمته الولايات المتحدة. ولما كادت ذخائر «إسرائيل» تنفد أثناء حربها على غزة عام 2008 قامت الولايات المتحدة بإمدادات إضافية وتدميرية هائلة، وهي إمدادات مخصصة من قبل لإسرائيل لتمنح لها في الوقت المناسب.
أما الإعلام الأمريكي، فهو أعظم خدمة لإسرائيل إذ هو يوجه الرأي العام الأمريكي. وليست قناة فرانس 24 أبعد منها، فهي جزء من فرنسا التي بنتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، ليكون المقاومون الشبان للاحتلال الألماني مهمشين بعد تلك الحرب (ومنهم روجه غارودي).
وبذلك يصبح الإعلام أهم وسيلة لصنع «القطيع» حتى تكون مشروعية «الدولة الخاصة».
ولسنا مطالبين بالتأكيد أن المستوطنات الإسرائيلية تنهبها الدولة الأمريكية من« دافع الضرائب الأمريكي» الذي وقع «تحت تأثير حكايات الغش والتدليس» (تشومسكي، أوهام الشرق الأوسط، دار الملتقى، 2006، ص 82).
خاتمة: ماهو مطلوب عمليا:
1- إن لاهوت التحرر العالمي اليوم مدعو لمهمة إلهية هي نقد الكتاب المقدس وتنقيته من إمكانية استثماره صهيونيا وإمبرياليا لتجاوز خطإ لاهوتي استمر قرونا سحيقة متسببا في نكبة تأسيس الدولة الصهيونية «إسرائيل».
2- الكنيسة الفلسطينية مدعوة لأن تكون طليعة تحرير أرض المسيح من صليب سفر يشوع. وذلك بأن تستقل عن كل الكنائس في العالم مطالبة إياها بأن تصبح تابعة لأول كنيسة في التاريخ، وأن تنشئ لاهوت تحررها. فتحرير فلسطين غير ممكن بدون تحرير الكنيسة الفلسطينية، وبدون تحرير الكتاب المقدس الذي أبدعته الثقافة السورية العظيمة، وبدون تأسيس لاهوت التحرر الفلسطيني والعربي.
3- أضعف الإيمان لدى حكومات العرب أن تعلق علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية.
4- أضعف الإيمان أن تتظاهر شعوبنا يوميا أمام السفارات الأمريكية. فالصهيونية الأمريكية (مع الصهيونية البريطانية) سابقة على الصهيونية اليهودية ومؤسسة لها ، وهي الآن السبب الأول للتدمير الإسرائيلي اليومي للقدس وغزة، ولقتل الأطفال، ولتحطيم المنازل على رؤوس المظلومين.
لا أريد أن أتحدث عن أقوى الإيمان، ولكن أضعف الإيمان هذا إذا لم يتحقق، فانقراض الشعوب العربية أولى من بقائها…