ودّع تاريخ العراق الحديث ثلة من الاشخاص ساهموا في دفع عجلة الوعي الى النهوض والتغيير وبناء جسور بين الماضي والحاضر والمستقبل ومن بين هؤلاء الشيخ محمد باقر الناصري .
الشيخ الناصري لاتقتصر شخصيته على تاريخه العائلي العريق او انتمائه لجماعة علماء العراق او كونه احد الجذور الاولى لمؤسسي حزب الدعوة الاسلامية بل لانه عاصر احداثا كبيرة وساخنة ولم يكن فيها مجرد عابر سبيل بل كان فيها لولبا ومؤثرا وقطب رحى .
الشيخ الناصري عاش في مجال الجذب العشقي لمفجر الثورة الاسلامية في العراق السيد محمد باقر الصدر كما انه لصيق اريحية الشهيد محمد مهدي الحكيم حيث شكل معهما الثلاثي الحركي العلمائي التوعوي لترشيد مسيرة الصحوة الاسلامية ونقل الفكر التنظيمي الى المسارات الصحيحة للاخذ بيد الشعب بالاتجاه المطلوب .
في الخمسينات تبلور الحراك الفكري لصياغة نمط حركي اسلامي طلائعي لمواجهة التحديات التي تعصف بالعراق حيث كان الفكر الالحادي والفكر التغريبي يكاد يبتلع الناشئة وجيل الشباب ,كما ان التنظيمات الاسلامية من قبيل الاخوان المسلمين وحزب التحرير لم تكن قادرة على استيعاب الامة بكل تضاريسها الطائفية والقومية والمذهبية مما دفع النخبة الواعية من علماء ومفكرين في كربلاء وبغداد والنجف والبصرة وغيرها , للبحث عن بوتقة فكرية سياسية تملء الفراغ وتأخذ بيد الجيل الشبابي نحو شواطئ الامان حيث كان الشيخ الناصري احد اقطابه في التنظيم وفي التوجيه وفي الترشيد وكانت كتاباته في مجلة الاضواء ومجلة التضامن الاسلامي اضاءات تشكل الجسد الحركي البكر الذي لامس في تلك المرحلة تطلعات الجيل الباحث عن ايقونة للخروج من متاهة لعبة السلم والافعى التي تمارسها الحكومات المتعاقبة على العراق من اجل اخضاع الشعب والابقاء على تشرذمه دون اي جامع فكري عقائدي حركي يدير المواجهة ويعتنق الحقيقة الكبرى .
الشيخ الناصري رغم طبعه المتشدد في مواجهة بعض المواقف والحالات , الاّ انه في داخله تسكن انسيابية عرفانية وتسامح انساني فريد من نوعه, سلك طريقة المنهج التجديدي في الفكر والطرح الاسلامي وجسد المبدئية في الموقف وعانق مسيرة الجهاد في مواجهة المد الشيوعي والبعثي في ذلك الوقت كما تصدرت قضايا الامة اهتماماته ومواقفه الصارمة ومنها القضية الفلسطينية التي اعتبرها نصف مشكلة العالم الاسلامي.
حمل الرجل همّ القضية العراقية والاسلامية جنبا الى جنب لانه يرى ان مايجري في العراق لاينفصل عما يحدث في المنطقة وان الغرب يحاول تسطيح العقل العراقي وتفريغه من مكوناته الاساسية واشغاله بالهموم الحياتية الصغيرة بدلا من القضايا الانسانية والمركزية الاصيلة .
تنقّل الشيخ محمد باقر الناصري بين سوريا وايران وهو يمتطي صهوة الفراسة الحركية وينضح مشاعر انسانية لمساعدة الاخرين ومسح دموعهم والتعاطي مع مشاغلهم ومشاكلهم على حد سواء .
الشيخ الناصري يمثل روح الانسان العراقي حيث تتشكل لديه العشائرية والعلمائية والحركية والانسانية , هذه المعالم اجتمعت لديه باعتباره نتاج قيمومة عشائرية ونتاج مرجعية علمائية ونتاج منهجية حركية ونتاج معركة انسانية كان قطبها وكان مرشدها ليفوز بالرحيل وهو يتطلع لبناء وطن عراقي قائم على اسس العدالة والمساواة والسعادة , وكم كان يتطلع داعيا ومخلصا للتظاهرات السلمية التي انبثقت في العراق لكي تصل لغاياتها وتحقق اهدافها المرجوة , كما انه مثّل صوت الحشد الشعبي الهادر الذي انضوى لارادة المرجعية ولارادة الحق من اجل تحرير العراق من الفكر التكفيري الداعشي الذي اُريد له ان يعيد الامة الى عصورها المتخلفة وان تكون اداة طعن في كل جمالية الاسلام وانسانيته ورحمته وافاقه الرحبة الرشيدة.
لم يجف ضرعه الفكري ولم تلن قناته في مواجهة الصعاب بل كان يرفد مسيرة العراق الجديد بكل ماهو مهم ومفيد رغم تقلب الاحوال وترنح الاوضاع حتى اتاه اليقين ليرحل وفي نفسه الف اهة وفي قلبه الف حرقة ولكنه يعلم علم اليقين بان الفجر آت وان العراق بانتظار بشارة قريبة الوقوع .