قبل ابن خلدون كان أرسطو الذي ترك أفكاراً مهمة جداً عن وظائف الدولة ومشكلات الحدود السياسية، وجاءت بعده الإسهامات الفلسفية التي ربطت الممارسات السياسية بالخصائص الجغرافية.
«راتزيل» المفكر الألماني أضاف إلى تشبيه ابن خلدون «الدولة كجسد الإنسان» وقال:
«مع نمو جسد الدولة تضيق عليه ملابسه عاماً بعد عام، فيضطر إلى توسيعها، وكذلك الدولة تضطر إلى زحزحة حدودها السياسية كلّما زاد عدد سكانها وتعاظمت مطامحها».
تحدّث الألمان عن علم السياسات الأرضية أو ما اصطلح على تسميته الجيو- بوليتيك، واجتهد علماؤهم بعد الانتكاسات والحروب التي ذاقتها ألمانيا للخروج بوطنهم من محنته، فظهرت لأول مرّة دورية علمية تحمل عنوان «المجلة الجيوبولوتيكية»، وهي هجين فكر (جغرافي- تاريخي- سياسي- قومي- استعماري) رفعت شعار: «لابدّ من أن يفكّر رجل الشارع جغرافياً وأن يفكّر الساسة جيوبولوتيكياً».
استثمر هتلر أفكار علمائه بعد أن استماله الاستعمار في تطبيق نظرية «قلب الأرض»، ولطالما كان الفصل صعباً بين الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك والإمبريالية، لذلك جهدت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما أوتيت من قوة بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية لتطوير الأفكار الاستعمارية، وخدمها المنظّرون بتطوير مفهوم الجيوبوليتيك ليصير الحدود الشفّافة التي تعني الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية من دون حدود خرائطية للدولة، فكانت فكرة تايلور، أشهر باحثي الجغرافيا السياسية في العقود الأخيرة، التي تنادي بـ«جغرافية السيطرة من دون إمبراطورية» المطيّة التي تلقّفها الأمريكان، وقاموا بتطبيق أفكارها عملياً، ليتحقق بذلك التعريف النظري للنظرية السياسية، التي هي جهد ونوع من أنواع الفكر السياسي، يتم من خلاله نقل الظواهر المختلفة التي تقع فعلاً في عالم السياسة إلى نطاق العلم الواقعي، وفي علم السياسة أو العلوم السياسية لا يشغل الباحث همّ ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السياسي، وإنما يبحث في طبيعة الظاهرة بوصفها أمراً واقعاً.
«أدولف هتلر» السبّاق إلى ركوب النظريات السياسية تفوّق عليه الأمريكان، فبدؤوا من حيث انتهت هزائمه لتحقيق المأمول من المطامع الإمبريالية اللامحدودة، التي تجعل العالم كلّه (مجالاً حيوياً للولايات المتحدة الأمريكية).
إذاً، ومادام المفكّرون استعانوا بالاستدلال والاستعارات اللفظيّة، ليكون التشبيه للدولة بأنها تحاكي جسد الإنسان فلابدّ من أن تجاريهم المفردات وتنطق الجغرافيا بلسان حال مدارسها الجغرافية السياسية، ولتستغلّ أفكارها فيما بعد الدول العظمى، ليتم العبث بالخرائط السياسية لتحقيق المطامع التي لن تقف عند حد الاكتفاء، ولاسيما أن العدو الأكبر جَشِع الأهداف، ولا يعنيه من النظريات السياسية فنونها العلمية بقدر ما يعنيه استخلاص النتائج، حتى وإن كان العالم بأكمله مجرّد مختبر تطبق فيه السلوكيات الأمريكية، مستعينة بـ«تأثير الفراشة، والحدود الشفافة، والفوضى الخلاقة» كمفردات ناعمة نتائجها مأسوية على مختبر آن الأوان أن يعي الأهداف الحقيقية للنيات الأمريكية، ولاسيما أن الوطن العربي الملعب الأهم الذي تطمح واشنطن للاستئثار به، لذلك لابدّ من تحقيق المنعة والتكاتف للوقوف في وجه النظريات الاستعمارية، التي هي بمنزلة الفيروس القادم من الغرب.