الإثنين , 25 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

القيمة السياسية لمعجزة الإسراء والمعراج…بقلم د. شريف الحلبي

من المعلوم أن نهضة الدول والأمم ترتبط بعوامل مادية وروحية تراكمية، تشكل بمجموعها حضارتها وشخصيتها السياسية، وتعكس قوة تأثيرها، حيث ترتبط قوة التأثير بمدى حجم هذه العوامل ونوعيتها وأهميتها، ولا شك بأن العالم العربي والإسلامي يعيش حالةً من التراجع الحضاري والضعف السياسي، على الرغم من امتلاكه لمقومات النهوض بشقيها المادي والروحي، والإشكال القائم هو في كيفية الاستفادة من هذه المقومات، وتحويلها الى عوامل قوة ينعكس أثرها على الاداء السياسي.

ويعتبر المخزون القيمي والأخلاقي والإرث الحضاري والتراثي للعالم الإسلامي والعربي الذي يقدم القرآن الكريم (دستور هذه الأمة) خلاصته، أحد أهم مقومات النهوض، وفي قلب هذا الإرث تقع معجزة الإسراء والمعراج، والتي تعتبر أعظم رحلة حضارية وإنسانية عرفها التاريخ لرسول البشرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، من مكة إلى بيت المقدس إلى سدرة المنتهى.

لقد حملت هذه الحادثة العظيمة الكثير من الدلالات الهامة، وهي ليست معجزة فقط، وإنما رسالة لها أبعاد حضارية وإنسانية، وقيم أخلاقية وروحية وسياسية تتناقلها الأجيال.

وفي هذا المقال أتوقف عند القيم السياسية لهذه المعجزة الخالدة، وألخصها في النقاط التالية:

– وحده الجغرافيا الإسلامية والعربية، والمسؤولية المشتركة: لقد ربطت هذه الرحلة مكة بالقدس “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأقصى”، للتعبير عن وحدة الجغرافيا الإسلامية والتي تمثل الحجاز والشام عمودها الفقري، ما يعني المسؤولية المشتركة لكل شعوب و قادة الدول العربية والإسلامية في حل قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، حيث المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى ورمز من الرموز الدينية والروحية للعالم الإسلامي، كما تعني المسؤولية المشتركة في القضايا المصيرية رفض سياسة التقسيم الجغرافي والذي مثلت اتفاقية سايكس بيكو الموقعة بين فرنسا وبريطانيا سنة (1916م)طليعته في التاريخ الحديث، إضافةً الى رفض التقسيم العرقي والطائفي والمذهبي الذي يعتبر من تبعات التقسيم الجغرافي، حيث أدخل المنطقة في صراعاتٍ طاحنةٍ خلفت دمارًا هائلًا، وخسائرَ فادحةً في الأرواح والممتلكات، ولا يزال أعداؤنا يديرون مؤامرات كبيرة يشارك فيها بعض قادة دول إسلامية وزعماء عرب لعزل فلسطين عن عمقها العربي والإسلامي، وحصر المسؤولية في حل مشكلة القضية الفلسطينية بالفلسطينيين أنفسهم، ونزع الصبغة الإسلامية العالمية عن المقدسات الإسلامية في فلسطين وأبرزها المسجد الأقصى المبارك، حتى لا يكون نقطة استقطاب سياسي يجمع طاقات الأمة، وللتنصل من المسؤولية المشتركة في تحريره، والتهرب من الاستحقاقات السياسية والدينية والأخلاقية في الدفاع عن مظلومية الشعب الفلسطيني.

– وحده الصف وتكامل الأدوار: إن أحد المحطات الهامة في هذه المعجزة العظيمة والتي لها دلالات سياسية كبيرة وبعد فكري عميق هي إمامه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأنبياء جميعًا في المسجد الأقصى المبارك، فلهذه الصلاة تفسيرات عديدة أذكر منها:

أولًا: تعتبر القدس نقطة تلاقي الحضارات جميعها على مدى التاريخ البشري والتي مثلها أنبياء الله ورسله من كافة الرسالات السماوية، وبالتالي فإن الممارسات الصهيونية العنصرية بتهويد المدينة المقدسة، وطرد المسلمين والمسيحيين منها لجعلها خالصةً للعرق اليهودي، والتمهيد لبناء الهيكل المزعوم إنما هو مخالف لادعائهم بأنهم أبناء النبي يعقوب (عليه السلام) وإخوانه من الأنبياء، والذين كان حضورهم في صلاه الإسراء تأكيدًا على تلاقي الحضارات وتكامل الرسالات السماوية (اليهودية، المسيحية والإسلامية).

ثانيًا: لقد جاءت هذه الصلاة المشهودة قبل عروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماوات العلا، حيث مثّل المعراج فتحًا عظيمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتحرٌّر من كل القيود التي يفرضها المستكبرون، كما أن الصلاة كانت رمزية هامة لوحدة الأنبياء، والتوافق على برنامج مشترك يتمثل بتحقيق العبودية لله و التحرر من قيود الشرك والجاهلية، وبالتالي فإن خلاص الأمة الإسلامية والعربية من الهيمنة الغربية، وتحررها من التبعية لا يأتي إلا عبر وحدة الصف والتوافق على برنامج مشترك تحت قيادة موحدة تحافظ على الثوابت، وتحافظ على حاله الانتماء الديني والحضاري لهذه الأمة، وتصطف في المعسكر المضاد لمشروع الاستكبار والهيمنة والتقسيم والتمييز الطائفي والعرقي، وكذلك الأمر نفسه بما يتعلق في القضية الفلسطينية التي يجب أن يبحث القادة والمسؤولون فيها على ما يوحّد صفوفهم، مع التوافق على برنامج وطني مشترك يحافظ على الثوابت، لأن هذا هو المدخل الصحيح لمشروع التحرر والتخلص من الاحتلال والهيمنة.

ثالثًا: تعتبر صلاة الإسراء أحد أبرز شواهد العلاقة التكاملية لرسالة الإسلام مع الرسالات السماوية الأخرى، و شكل من أشكال التعايش المشترك الذي سبق به الإسلام كافة الحضارات الغربية والشرقية، لقد استغل أعداؤنا جهل بعض أبناء الإسلام بمقاصده وتعاليمه، وتم استخدامهم في إطار مشروع تكفيري تدميري لمنطقتنا يرفض مبدأ التعايش المشترك، ويلغي الآخر، ويصطدم مع الحضارات المختلفة، و يقلل فرص التفاهم، ويحرف المسار عن قضية الأمة المركزية (فلسطين)، إلى قضايا وصراعات هامشية جانبية، كما تم توجيه هذه الطاقات الشريرة لهدم عوامل القوة التي يمكن أن تساعد في إضعاف المشروع الصهيوني، ومساندة مشروع تحرير فلسطين.

– التمسك بالحقوق ورفض الواقعية السياسية: لقد جاءت معجزه الإسراء والمعراج بعد عام الحزن الذي فقد فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) السند المادي (عمه أبو طالب)، والذي كان يمثل الحليف السياسي بلغة العصر، كما فقد السند النفسي والمعنوي (زوجه خديجة رضي الله عنها) التي كانت تواسيه وتخفف عنه في المحنة والشدة، كما لم يجد له نصيرًا من الجار القريب في الطائف، بل لفظوه ورفضوا دعوته ومشروعه إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استمر في مشروع المقاومة ضد الباطل لأنه صاحب الحق، ولم يمارس الواقعية السياسية تحت ضغوط الواقع، و لم يقبل بالعروض مقابل التخلي ولو عن جزء من هذه الحقوق الأصيلة، ولم يهادن المستكبرين، إضافةً إلى أنه رفض الانتقام من الذين آذوه وتخلوا عنه حينما توفرت له عوامل القوة وفرصة الانتقام بعدما عرض عليه جبريل (عليه السلام) عرضاً نادراً قائلاً له (إن شئت أطبق عليهم الأخشبين)، ودعا لهم قائلًا: “اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون”، ومن هنا نتعلم بأن حالة التخلي عن القضية الفلسطينية على المستوى الرسمي من بعض الدول والحكومات المُطبِّعة، وفقدان جزء أساسي ومهم من الظهير والحليف العربي والإسلامي أمر محزن ومؤسف، ولكنه ليس مدعاةً لممارسة الواقعية السياسية والتخلي عن الحقوق مقابل الفتات الذي يعرضه علينا المجتمع الدولي، كما أن الاختلال في موازين القوى يجب ألا يكون عاملًا ضاغطًا للتراجع والانكفاء عن مواصلة مشروع المقاومة، بل على الفلسطينيين -أصحاب الحق- وإخوانهم وحلفائهم من العرب والمسلمين أن يواصلوا المضي في مشروع المقاومة ضد المشروع الصهيوني ومشروع الاستكبار العالمي، وأن يتمسكوا بحقوقهم كاملة غير منقوصة، مع الإيمان المطلق بأننا نستند إلى قوة متينة وكبيرة وعظيمة، وهي قوة الخالق الجبار، الذي فتح لنبيه أوسع أبواب السماء عندما أُغلقت في وجهه أبواب الأرض، وهو الذي وعدنا بالنصر والتمكين والغلبة على الأعداء، ولا نقول لمن تخلى عنا وتنكر لنا إلا كما علمنا صاحب المعجزة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) “اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون”.

 

شاهد أيضاً

كيف يمكننا أن نقبل تشويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته؟…بقلم محمد الرصافي المقداد

البعثة النبوية ذكرى عزيزة على قلب كل مؤمن، يرى في صاحبها رسول الله أبي القاسم …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024