الدكتور بهيج سكاكيني |
المساعدات التي تريد أمريكا تقديمها الى فنزويلا والتي من أجلها حشدت كل وسائل إعلامها والاعلام الغربي على الحدود الفنزويلية مع كولومبيا والبرازيل لم تكن أكثر من حملة استعراضية وسيرك ومهزلة شاركت بها المعارضة الفنزويلية لوضع مزيد من الضغط على حكومة مادورو والتي كانت تأمل من وراءها إثارة الفوضى وحالة من عدم الاستقرار التي قد يتيح للجيش الكولومبي والبرازيلي للتدخل تحت إشراف الولايات المتحدة التي ارسلت مستشارين وخبراء عسكريين لهذا الغرض بالاضافة الى الاسلحة الخفيفة لتوزيعها على بعض عناصر المعارضة أملا في تطور الامور على الحدود.
ولا بد لنا ان نلقي بعض الاضواء على هذه المعونة الامريكية “الانسانية” لتفنيد الكثير من ملابساتها والاكاذيب وسياسة التضليل التي واكبتها وهو ليس بالامر المستغرب او المستهجن على الادارات الامريكية المتعاقبة والاعلام الامريكي الرسمي الذي اصبحت وظيفته ومنذ غزو العراق عام 2003 مقتصرة على دق طبول الحرب وعدم مساءلة الادراة او البتاغون والتحول الى بوق إعلامي للدولة العميقة والمؤسسة الامريكية.
في البداية نود التأكيد على ان مفهوم المساعدات الانسانية يستدعي ان تكون هذه المساعدات غير مشروطة وملتزمة بالحياد وعدم التحيز لهذا الطرف او ذاك. وعلى ان يتم توزيعها على جميع السكان دون تمييز وعلى ان يتم توزيعها من قبل مؤسسات دولية تعمل في المجال الانساني ومشهود لها بحيادها بالترافق مع مؤسسات الصليب الاحمر لهذه الدولة المنكوبة وبالتشاور مع اجهزة الدولة لتأمين توزيعها وعدم التعرض لها من اي طرف. وإذا ما اخذنا بعين الاعتبار هذه المقاييس فإنه لا يمكننا إطلاق هذا النوع من المساعدة المقدمة من قبل الولايات المتحدة على انها مساعدة إنسانية.
رفض الصليب الأحمر الدولي المشاركة في خطة المساعدات الإنسانية المثيرة للجدل لواشنطن إلى فنزويلا. وقال المتحدث باسم الصليب الأحمر الدولي في كولومبيا ، كريستوف هارنيش ، “لن نشارك في ما هو ، بالنسبة إلينا ، ليس مساعدات الإنسانية”. كما أثار هارنيش مخاوف بشأن المساعدة التي يتم استخدامها لأغراض سياسية ، داعية الأطراف إلى “احترام مصطلح” الإنسانية “.
وقال “شتيلهارت” مدير العمليات العالمية للمنظمة ” إن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقدم حالياً إمداداتها الطبية الخاصة ورعاية الحالات الطارئة لدعم ستة مستشفيات في أنحاء البلاد”. مضيفا ” نحن لسنا نوعا من وكالة منفذة لأي متبرع ، وبالتحديد لا ننفذ أشياء لها نبرة سياسية “.وهذا تم منذ مدة وبالتنسيق مع حكومة مادورو بمعنى ان الحكومة الفنزويلية لا ترفض المساعدات الانسانية كما إدعت المعارضة ووسائل الاعلام الغربية.
أما مدير الصليب الاحمر الدولي بيتر مورير فقد صرح للصحافة في جنيف: “ينصب تركيزنا بالفعل على زيادة ردنا على الفنزويليين ، ومن ناحية أخرى الابتعاد عن الجدل السياسي والانقسامات السياسية التي تميز الأزمة في فنزويلا”.
وفي الوقت نفسه ، أثارت الأمم المتحدة كذلك اعتراضات على خطة واشنطن “المسيسة” للمعونة. وقال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الامم المتحدة للصحفيين في نيويورك “العمل الانساني يحتاج الى أن يكون مستقلا عن أهداف سياسية أو عسكرية أو أهداف أخرى.” وكل هذه التصريحات تؤكد ان هذه المعونة الامريكية لم تحظي بأي تأييد من قبل المنظمات الانسانية الدولية العاملة في هذا الاطار نظرا لما تحمله من اجندات سياسية وعسكرية ايضا.
ولم تخفي الولايات المتحدة من الطبيعة السياسية لهذه المساعدات واستخدامها كحصان طروادة للتدخل في الشؤون الداخلية في فنزويلا بعد ان عجزت كل محاولاتها السابقة في “تغيير النظام” وهذا يتبين من التصريحات من قبل الرئيس ترامب وبقية اعضاء إدارته وشخصيات من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين ابدوا دعمهم لخطة المساعدات واستنكروا الرئيس مادورو لرفضه فتح الحدود الفنزويلية والكولومبية لادخال المساعدات وطالبوه بالتنحي عن الرئاسة واعتبروه رئيسا غير شرعي للبلاد.
وكان ان هدد الرئيس ترامب من ان الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الايدي في حالة تعرض الجيش الفنزويلي لادخال المعونات الامريكية الى فنزويلا. لا بل وذهب ابعد من ذلك لاصدار الاوامر لهم بالتخلي عن دعم الرئيس مادوروا وحكومته والا فإنهم سيخسرون كل شيء وهذا تهديد واضح بالقتل والاغتيال لانهم يدعمون رئيسهم الانتخب وحكومته ويدافعون عن اراضي الوطن.
أما جو بايدن نائب الرئيس السابق فقد غرد قائلا ,” فقط طاغية من شأنه أن يمنع تسليم الغذاء والدواء إلى أشخاص يدعون أنه يقودهم. يجب على المجتمع الدولي دعم خوان غوايدو والجمعية الوطنية. لقد حان الوقت لكي يتنحى مادورو ويسمح بانتقال ديمقراطي. الشعب الفنزويلي يستحق الأفضل”. سمعنا نفس الكلام عند غزو العرق عام 2003 وليبيا عام 2011 وسوريا 2012 .
اما جون بولتون مستشار الامن القومي للرئيس ترامب فقد صرح ” على الجيش الفنزويلي ان يلتزم بواجبه لحماية المدنيين على الحدود الكولومبية والبرازيلية والسماح لهم سلميا بان يدخلوا المساعدات الانسانية دون عنف او خوف من الاعتقالات” وأن “اية اعمال من قبل الجيش الفنزويلي للتغاض عن او التحريض على العنف ضد المدنيين السلميين على الحدود لن يتم التغاضي عنه. القيادات ما زال امامها الوقت لاتخاذ الخيار الصحيح”. وكان ان دعى بولتون قيادات الجيش بالانفصال ودعم غوايدو الذي اعلن نفسه رئيسا للبلاد بدعم من أمريكا وزبانيتها.
ومثل هذه التصريحات العلنية والمباشرة تأتي لتؤكد الطبيعة السياسية والعسكرية التي تغلف مثل هذه المساعدة التي اريد إدخالها عنوة وبتحدي واضح وصريح للسيادة الفنزويلية واستخدامها كذريعة للتدخل السياسي العسكري في فنزويلا وذلك بهدف إجهاض التجربة الاشتراكية للثورة البوليفارية وهو ما تخشاه الولايات المتحدة في حالة نجاحها وهذا هو الهدف الرئيسي.
وفي حركة بهلوانية وتأكيدا على الطابع السياسي لهذه المعونة فقد قام رئيس كولومبيا بتوجيه دعوة الى رؤساء دول امريكا اللاتينية بالحضور يوم الجمعة اي قبل الاحداث بيوم لحضور الاحتفال على الحدود الكولومبية بمناسبة إدخال المعونات الى فنزويلا ولا ندري من حضر وكل ما سمعناه ان الرئيس التشيلي قبل الدعوة. نحن لم نسمع في تاريخ المعونات الانسانية ان وجهت دعوات لحضور إحتفالات بهكذا مناسبات. ولماذا تقام كونسيرت على الحدود بهذه المناسبة وتحويل الامر الى سيرك يشترك فيه بهلوانات وقيادات سياسية لدول ديكتاتورية.
أما الدول التي تريد امريكا عن طريق حدودها إدخال “المعونة الانسانية” هي البرازيل وكولومبيا. وكلا البلدين في المرحلة الحالية أعداء للحكومة الفنزويلية وللرئيس مادورو وهم ايضا من مجموعة دول من امريكا اللاتينية التي يطلق عليها “مجموعة ليما” وهي مجموعة تترأسها كندا شكلت عام 2017 من قبل الولايات المتحدة بعضوية 11 دولة من دول امريكا اللاتينية (الارجنتين, والبرازيل, وتشيلي, وكولومبيا, وكوستاريكا, وجواتيمالا, وهندوراس, والمكسيك, وبناما والاروجواي والبيرو) وبغرض العمل على تغيير النظام في فنزويلا على غرار “مجموعة أصدقاء سوريا”. وهي تناصب العداء ايضا لكل من نيكاراجوا وكوبا وبوليفيا التي تحكمها حكومات يسارية وبشكل علني. وقد شكلت هذه المجموعة بعد ان فشلت المحاولات الامريكية في جعل دول امريكا اللاتينية في “منظمة الدول الامريكية” بتبني سياسة امريكا العدوانية تجاه فنزويلا وبالتالي شكلت مجموعة ليما للالتفاف على موقف الدول الرافضة للتدخل الامريكي. وقد دعت كندا قبل مدة قصيرة لاجتماع ضم هذه المجموعة في اوتوا وذلك بغرض “مناقشة الاوضاع الانسانية في فنزويلا” ولكن الهدف الحقيقي كما تبين لاحقا هو العمل على استغلال الضائقة الاقتصادية والازمة السياسية التي تمر بها فنزويلا لتغيير النظام واسقاط حكومة الرئيس الشرعي المنتخب مادورو.
الحملة الاعلامية والضجة التي اثيرت منذ البداية وحتى وصول المعونة التي كدست على الحدود مع كولومبيا اعطت الانطباع وكأن كمية هذه المعونة الاف الاطنان من المواد الغذائية والطبية التي تستجيب لحاجة الملايين من الفنزوليين “الجياع” و “المحرومين” …الخ بحيث يخال لك ان الوضع في فنزويلا يشابه الوضع في اليمن. لنتكشف لاحقا ان هذه المعونة المرتقبة لم تتعدى 200 طن محملة بـ 9 شاحنات من مواد غذائية وطبية ومواد للنظافة الشخصية. وبحسب ما نشر فإنها ستكفي لـ 5000 شخص ولمدة عشرة أيام. الى هذا الحد وصل النفاق وتضخيم الامور وعدم احترام شعور الشعب الفنزويلي. ولا نريد الدخول في لعبة الارقام وعدد الوجبات الغذائية التي قدمت من قبل منظمات اجتماعية فنزويلية بمشاركة الحكومة ولكن لا بد من الاشارة ان هذه المنظات والجمعيات الشعبية تقوم بتقديم 298,609 علبة غذائية يوميا وهذا يقابل 4,479 طن يوميا محملة على 149 شاحنة. وبعملية حسابية بسيطة فإن المعونة المقدمة من قبل الولايات المتحدة لا تتجاوز 4.5% مما تقدمه الدولة من خلال الجمعيات الشعبية في اليوم الواحد فقط. ولقد تسلمت الحكومة الفنزويلية الاف الاطنان من المواد الغذائية والطبية من روسيا والصين وكوبا ونيكاراجوا وغيرها من الدول.
وسائل الاعلام الغربية رددت كالببغاء ما قيل من قبل النخب السياسية في بلدانها حول قيام الحكومة في فنزويلا بإغلاق الجسر الذي يصل كولومبيا بفنزويلا ليتضح ان هذا الجسر لم يفتتح على الاطلاق وهو مغلق منذ سنوات. ترويج هذه الاكاذيب يهدف الى إثارة الرأي العام العالمي وتصوير الحكومة في كاراكاس ورئيسها على أنهم مجرمين في محاولة لتبرير الاقدام على التدخل العسكري على غرار ما حدث في ليبيا على سبيل المثال لا الحصر. شيطنة رئيس البلاد والحكومات من قبل الادارات الامريكية وإعلامها الذي ينفث السموم والاكاذيب رايناه في العراق وليبيا وسوريا ولم تعد الشعوب التي رأت ما حل من دمار لهذه البلدان وانتشار المجموعات الارهابية ان تصدق ظهور أمريكا وكانها الحمل الوديع الذي يسعى لمصلحة الشعوب.
وفي النهاية نقول ان فنزويلا لم تكن بحاجة الى كل هذه المعونات التي يتشدق بها البعض لولا الحصار المالي والاقتصادي والتجاري الصارم والمجحف والغير أخلاقي والغير شرعي التي تفرضه الولايات المتحدة ومن جانب واحد وخارج إطار الشرعية الدولية والتصرف بعدوانية وفوقية واستعلاء على فنزويلا ومعاقبة الشعب الفنزويلي لانه ومنذ 1998 ولغاية الان كان يصوت لصالح السيادة والسيطرة على موارده الطبيعية ويدعم الثورة البوليفارية والمكتسبات الذي حققتها للطبقات الفقيرة والتي شكلت الحاضنة الرئيسية الى جانب الجيش الوطني الفنزويلي لهذه الثورة كما اثبتت كل نتائج الانتخابات العامة للان. الولايات المتحدة تريد ان تعاقب هذا الشعب لدعمه المتواصل للخط الذي إنتهجه شافيز في بناء الاشتراكية كما تراها الثورة البوليفارية وهي بهذا تخلق البديل عن النظام الراسمالي والنيوليبرالية الذي يراد إقامتها في امريكا اللاتينية لتكون نظم تابعة للارادة الامريكية.