شكل تاريخ 13 من أيلول سبتمبر 1993، تاريخاً مفصلياً في حياة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، ففي مثل هذا اليوم تمّ التوقيع على اتفاق اوسلو بعد مرحلة نضالية كفاحية طويلة، خاض خلالها الشعب الفلسطيني ومقاومته في الداخل وخارجها، ملاحم بطولية عظيمة، شكل العمل العسكري الفدائي ركيزتها الأساسية، مما أعطى للقضية الفلسطينية زخماً منقطع النظير، وحوّل الشعب الفلسطيني، من شعب لجوء الى شعب له قضية وطنية، ومن فقراء يشكون المظلومية التاريخية التي حلّت بهم والتي كانت تسجلها الأقلام الصحافية العربية والغربية، بامتزاج بين الحبر والدمع، على مأساة شعب بأكمله، إلى قضية تحرّر وطني وشعب جبّار، أدرك مصلحته وحدّد هدفه، وحطم جميع الأغلال التي صنعت لأجله، فأصبحت الكوفية البيضاء المرقطة بالأسود، والبدلة العسكرية، رمزاً للأبطال والروايات الأسطورية، بعد ان جذبوا أنظار العالم بأسره، وأصبحوا مصدر إلهام، لكثير من الحركات الثورية والشعوب الطامحة للتغيير والثورة.
أتت الطفرة الثورية للشعب الفلسطيني، لتشكل محط إعجاب ودهشة، لدى الكثير من الدول الصديقة والداعمة للقضية الوطنية الفلسطينية، ومصدر خيبة أمل وصدمة، لدى الكثير من الأعداء والمتآمرين على هذا الشعب، بعد الإدراك السريع للعامل الحاسم في معركة الوجود الفلسطيني، ومعركة إستعادة المبادرة الميدانية، والانتقال من موقع الدفاع الى موقع الهجوم، ألا وهو عامل الزمن، خاصة بعد الهزائم التي مُنيت بها الجيوش العربية من جهة، وفشل المشروع القومي العربي الذي حملته بعض الأحزاب العربية، أدرك الشعب الفلسطيني بأنّ الانتظار أمام خيم اللجوء، والنظر الى ما وراء الجبال والبحار، وانتظار المخلص الذي سيكفكف دموع آلاف اللاجئين، ويعيد الحق المسلوب الى أصحابه، ليس إلا حلماً وردياً، ومثالية لن تعود على اللاجئين، الا بمزيد من البؤس وخيبات الامل، خاصة أنّ العدو الصهيوني، يعي بشكل جيد خصوصية المعركة التي يخوضها لإنشاء كيانيته ووجوده، مدركاً تمام الادراك أهمية الزمن كسلاح، وآلية استخدام هذا السلاح الفتاك، الذي يشكل دون أدنى شكّ العامل الحاسم والمصيري في معركة الوجود واللاوجود.
شكلت النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948، الضربة القاضية التي سدّدتها الحركة الصهيونية الى الشعب الفلسطيني وفلسطين بجميع مكوّناتها، فكانت نقطة التحوّل الزمني الفلسطيني، من السير الطبيعي في مجرى تطور الشعوب، وحتمية التحرك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي نحو المستقبل، إلى التحرك اللاطبيعي، وانعكاس الزمن الذي سار بمسارين وسرعتين متعاكستين، فقد أصبح الزمن الفلسطيني يسير الى الوراء بوتيرة تحرك بطيئة على الصعيد الفكري والمادي، والزمن الصهيوني الآخذ بالتطور السريع، الفكري والمادي، من العدم نحو الممكن، والذي وصل ذروته في إعلان دولة »إسرائيل»، واعتراف العالم بها، بمؤسساتها وجيشها وبجميع مكوناتها المولودة حديثاً، في حين تحوّلت البيادر والكروم، والجبال والتلال والبيوت القروية والمدنية، وسلسلة الذاكرة الفلسطينية، الى أسطورة مبهمة يتداولها لاجئون في مخيمات شيّدت لاحتواء أحاديث الليل الطويل، وهذا ما دفع بالقيادة الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة، للتحرك الميداني، وأخذ زمام المبادرة الميدانية، لإعادة تصويب عقارب الزمن الفلسطيني في الاتجاه الصحيح، والذي يسمح بإعادة مجاراة سباق الوجود والعدمية بالفعل الميداني، في الإطار والقالب الصحيح، الذي يستطيع أن يشكل الحاضن المادي، لإعادة تصويب مسار الزمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي مثلته منظمة التحرير الفلسطينية، بإعتبارها الكيان السياسي الذي انتشل الشعب الفلسطيني من الضياع والغرق الوجودي، إلى إعادة الاعتراف الكياني والسياسي، بشعب سلبت أرضه وانتهكت جميع حقوقه الوطنية، وهذا ما شكل عملياً وبالمفهوم السياسي، إعادة الخارطة الفلسطينية والزمن الفلسطيني بكلّ ما يمثله على طاولة البحث الدولي، خاصة بعد ان تمكن الشعب الفلسطيني، من صياغة برنامج وطني واضح، يناضل من أجله ويسعى الى تحقيقه بما يخدم أهدافه الوطنية المشروعة.
إلا انّ توقيع إتفاق أوسلو، بين القيادة المتنفذة داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وبين الجانب الاسرائيلي، بعد سلسلة من المحادثات السرية، التي قادها الفريق المفاوض السري، بعيداً عن مراقبة الأعين الوطنية، وبعيداً عن المسار الطبيعي، التي كانت تسير به القضية الوطنية الفلسطينية، أدّى مرة أخرى الى إنزلاق القطار الفلسطيني، عن سكة الزمن الصحيح، بل أعاد معركة الوجود الفلسطيني الى المربع الأول، في تيه خطير ورهان خاطئ على عامل الزمن، خاصة أنّ مؤشرات عوامل القوة كانت تشير وبشكل واضح، من حيث طبيعة امتلاك القوة العسكرية، وطبيعة التحالفات والدعم للعدو الاسرائيلي، والوضع العربي المتردّي، الى التفوّق الصهيوني، في إدارة المعركة الوجودية، وتطويع عامل الزمن لصالح كسب هذه المعركة.
وفي عودة سريعة الى تطوّر مجرى الأحداث منذ عام 1993 وحتى عام 2002، فسوف نلاحظ بشكل ملموس، الاعتماد الصهيوني الكامل، على سياسة الحرب الناعمة التي شنّها على الكيانية الفلسطينية، وعلى الوجود الفلسطيني بشقيه المادي والمعنوي، فقد أدّى ولادة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، والدعم الكبير الذي حظيت به السلطة، الى تآكل دور منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسّساتها الشرعية، التي شكلت طيلة الزمن النضالي الفلسطيني، الإطار الشرعي الوحيد، الذي يمارس من خلاله الشعب الفلسطيني، حياته السياسية المشروعة، كما أدّى الى تذويب هذه المؤسسات، داخل أجهزة السلطة ووزاراتها، حتى أضحت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مجرد لجنة شكلية أشبه بلجنة المنظمات الغير حكومية.
وعلى صعيد الأرض، التي كانت وما زالت المعركة الأكثر خطورة، خاصة في ظلّ تعاظم النشاط الاستيطاني، الذي راح شيئاً فشئاً يفتك الأرض، ويقطع أوصال الدولة المنوي إقامتها، بحيث أنشأت المستوطنات الضخمة على الأراضي الفلسطينية، وتضاعف عدد المستوطنين أكثر من عشرة أضعاف ووصل الى ما يقارب المليون مستوطن، يشكلون جيشاً من المرتزقة الصهاينة، واليد الطولى للجيش الصهيوني المزروعة في قلب الدولة الفلسطينية، بالإضافة لآلاف الحواجز العسكرية، التي تجزّئ الزمن الفلسطيني، وتمنع عملية التطور الطبيعي للمجتع الفلسطيني وإبطائه، ناهيك عن تشييد جدار الفصل العنصري، ومصادرة الثروات الطبيعية ومصادر المياه والتحكم بالمعابر البرية، وبالشؤون المدنية وبأدقّ التفاصيل الحياتية للفلسطيني، وقد أتت جميع هذه التطورات، في ذروة العملية التفاوضية، التي راهن خلالها الجانب الفلسطيني رهاناً فاشلاً مثالياً على عامل الزمن، الذي أدرك العدو مفاصل استغلاله ونقاط القوة الرئيسية فيه، ليسجل كلّ تلك النقاط والأهداف في الشباك الفلسطينية.
لم تتوقف عملية الرهان الفاشلة على الزمن عند حدود أوسلو، ولم تكن جميع تلك التطورات الميدانية، برهاناً حسياً ومادياً على سقوط هذا الرهان الفاشل، بل استمرّ وما زال في حالة استمرار غريبة، دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ تحرك الزمن في الإطار المرسوم له صهيونياً، لا يصبّ على الإطلاق في المصلحة الفلسطينية، بل أصبحت القضية الفلسطينية، وبعد كلّ هذه السنين النضالية، مهدّدة في التصفية الجدية!
لقد راهنت القيادة الرسمية الفلسطينية، على حكومات صهيونية، تشكل بالمفهوم السلطوي شريكاً حقيقياً في صناعة »السلام الشامل والعادل»، بل تعدّى ذلك للرهان على إدارة أميركية جديدة، تشكل »الفانوس السحري» لأحلام اليقظة السلطوية المجردة من جميع نقاط القوة، والتي تعيش حالة من التشرذم والانقسام الداخلي، ولتكون الداعم والراعي الوحيد لعملة السلام المنشودة، إلا انّ واقع التطور والزمن، أثبت فشلاً مدوياً آخر في عقلية الرهان الفاشلة تلك، خاصة أنّ الرهان الأحادي الجانب، كان وما زال سياسة القيادة الرسمية المتبعة.
فمن رابين الى نتنياهو، مروراً بشارون وأولمرت، إصطدمت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بتعنّت إسرائيلي واضح، يرفض التعاطي مع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني كحقوق شرعنتها قرارات الشرعية الدولية، بل عمل بشكل واضح وميداني، على تحطيم فكرة »حلّ الدولتين»، وصولاً الى المشروع التصفوي الجديد المعروف بـ »صفقة القرن»، الذي صاغته الإدارة الأميركية الجديدة، لتصفية جميع الحقوق الوطنية الفلسطينية، لصالح »دولة إسرائيل الكبرى»، وتحطيم الحلم الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، بعاصمتها القدس، وتحقيق عودة اللاجئين وفقاً للقرار الاممي 194، والتي روهن عليها رهان الجياد الأصيلة من قبل السلطة الفلسطينية.
واليوم تقع قرارات الإجماع الوطني الفلسطيني، المتمثلة بقرارات المجلس المركزي بدوراته 27-28-29 ، وما نتج عن اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، ضحية استمرار سياسية الرهان على عامل الزمن الفاشل، والتي تؤدّي اللجان المختصة دوراً سلبيا في بعض نقاطها، بعد ان وجدت خدمة لعملية الرهان تلك، بهدف تمييع مفاعيل هذه القرارات الملزمة، خوفاً من الوصول الى وضعية الاشتباك المباشر مع الاحتلال، والتي ستكون بطبيعة الحال، النتيجة الحتمية لتطبيق قرار سحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، ووقف كافة أشكال التنسيق الأمني مع الاحتلال، والتنصّل من بروتوكول باريس الاقتصادي، وتطوير المقاومة الشعبية بكافة أشكالها، واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإنجاز حكومة الوحدة التي تنهي مسلسل الانقسام الدامي، الذي لعب العدو الصهيوني بحنكة عليه مستخدماً عامل الزمن إياه.
وبعد كلّ هذه التطورات السياسية والخطيرة على الساحة الفلسطينية، هل ما زالت عقلية الرهان الفاشلة على الزمن، قائمة في استراتيجية العمل السياسي السلطوي؟
بعد جولتين من الصراع الانتخابي، الذي شهده الكنيست الاسرائيلي، ومع تعقد المشهد السياسي في »إسرائيل»، خاصة مع بروز منافسين جدّيين، لرئيس الوزراء الحالي، رئيس حزب الليكود بنيامين نتنياهو، والذي يواجه تهماً كبيرة في الفساد، دفعت به قدُماً نحو القضاء وربما السجن، ومع اقتراب الانتخابات الأميركية، يتطلب من قيادة السلطة الفلسطينية، الرهان هذه المرة على الشعب الفلسطيني، وعلى عامل القوة والزمن الفلسطيني، بصرف النظر عن إمكانيات التغيير السياسي على الصعيد الإسرائيلي، أم على الصعيد الأميركي، فالزمن الفلسطيني، محكوم بعناصر القوة الفلسطينية، والتقدّم نحو إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني، يكون في تعزيز عناصر القوة الفلسطينية، والتي تتمثل بترجمة جميع القرارات، التي اتخذها المجلس المركزي والوطني، وطي صفحة الرهان على سياسية المفاوضات العبثية وإعلان اتفاق أوسلو اتفاقاً ميتاً، وتمليك الشعب الفلسطيني، من سلاح الوحدة الوطنية، الذي يستطيع من خلاله قلب معادلة الزمن الصهيوني، وإعادة قلب المسار نحو تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وتحقيق جميع الحقوق الوطنية، وما عدا ذلك لن يكون إلا رهاناً خاسراً، في سباق يعاني فيه الجواد الفلسطيني والفارس مرضاً عضالاً، على حدّ سواء…
*إعلامي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين لبنان
الوسومالانتخابات الرئاسية الامريكية الكنيست اوسلو جهاد سليمان عزل ترامب
شاهد أيضاً
الاقتصاد العالمي والسياسة الاقتصادية الترامبية…بقلم أ.د. حيان أحمد سلمان
تشهد الأسواق العالمية حالياً حالة عدم اليقين بعد انتخاب المرشح الأمريكي دونالد ترامب لرئاسة أمريكا …