حطت عشرُ سنوات على أرض الحبيبة تونس مشياً على تضاريس الأحلام، كما لو كانت تقفز بين سهلٍ ووعرٍ، بخطى متعثرة وبطيئة، نزلت فيها حكومات وصعدت أخرى مرارا سلّم الفترة الإنتقاليّة، كان حُلم الشعب التونسي أنيقا أناقة لافتة، وللأسف لم تدركه أبصار الساسة وصناع القرار، فأضحى يتأمله(حلم)بارتباك الفراق والقطيعة، واللهفة والتحدي، عنونتها أحاسيس متضاربة ومتداخلة كان الشارع مَسرحًا لهزاتها الإرتدادية.
تتأهب سنة 2021 للرحيل، وبدأنا نحصي أيامها تدريجيّا، وعشرة أمثالها مضت، تاريخا قريبا يُنعش ذاكرتنا بأحداثه المتنوعة تارة والمعقدة تارة أخرى، ورسخت في أذهاننا أرقاما ومصطلحات وقرارت، تختزل مسيرة سياسيّة متواصلة عاشتها البلاد التونسيّة بحلوها ومرّها، بحركتها وسكونها، بالإسترخائها وتشنجها، كان أبطالها الأحزاب المكوّنة للمشهد السياسي والشخصيّات الناشطة والفاعلة في البلاد، وقد كَشفت قبّة المجلس التأسيسي حدّة التجاذبات السياسيّة بين الفرقاء، وكثرة الإتهمات والتقاذفات بينهم المتجاوزة للحدود، إيضافة إلى التدخلات الساذجة والغير مجدية لبعض النواب والتي جعل منها الشارع التونسي محلّ سخرية وإستهزاء تُتداول على صفحات التواصل الإجتماعي. هذا الأداء الرديء للنخبة والمقزز في بعض ردهاته، وقلّة الحنكة في إتخاذ القرارات المفصليّة التي تخدم الصالح العام، وعدم الإقناع في حواراتهم المطروحة على الرأي العام، وأسلوبهم المافيوزي في إدارة السلطة سيما ملفات الفساد واللوبينغ والإستقواء بالخارج،، أفسدت الحياة السياسية وأسقطت عنصر الثقة والتجاوب بين النخبة المقرِرة وعامة الناس، فتبدد الإطمأنان وأيقض القلق في الحياة اليوميّة لشعب التونسي .و لعمري أنّ هذه الحلقة تمثّل مدماك البناء السياسي في المجتمع، فلا معنى للعمل السياسي الفاقد لتجاوب الشعب، فالنخبة السياسيّة بإفلاسها في تقديم الحلول نظرا لتبنيها لمشاريع سلطة فقط خاوية من كلّ نهضة وتنمية وإصلاح، فصلت نفسها عن تطلعات الشعب وضربت بمطالبه عرض الحائط، لذلك كان من البديهي تأزم الوضع، فكان التصادم بين البرلمان ورئيس الجمهورية الذي رفض الدخول معهم في لعبة التوافقات المغشوشة وهم قد ضنو ذلك سلفا، فعطل تلاعبهم بالحكومات ومصير البلاد ،و جاء يوم 25 جويلية/22 سبتمبر ليعلن عن القرارات الإستثنائية والتي إستحسنتها الغالبية الشعبية وعبرت عن مساندتها في خروج جماهيري غفير وفي عدة مدن تونسية فكانت رسالة مضمونة الوصول لداخل والخارج ترجمتها الشعارات المرفوعة اليوم (3 أكتوبر من سنة 2021) إستفتاء إستفتاء لا عودة إلى الوراء. نحن من منحناكم ثقتنا ونحن من نسحبها.
أمل جديد يطفو فوق الأوضاع ،و طمأنينة تلامس الشعب التونسي فوق قلق إقتصاديّ، وإستراحة من ضوضاء سياسيّة فوق وعرٍ وخوفٍ من إنتاج الفشل مرّة أخرى، هي أيّام تارخيّة تعيشها الدولة التونسيّة ويراقبها الشعب التونسي على إستحياء وهو يهتف “مساندة مشروطة“ ، قدر التاريخ أن تكون فاتحة هذه الأيّام مع بداية تراجع الوباء والسيطرة النسبية عليه، يأمل الكل في أن ننهي بها مرحلة عويصة حملت معها قوافل من الأزمات، عطلت دواليب الحياة، وأنهكت مفاصل الدولة وأضرّت بأمننا القومي.
بغير حاجة إلى فنون التنجيم وقراءة البخت والطالع، نستطيع أن نجزم أن الغد القريب سيولد من رحم هذه الأحداث والوقائع والمجريات، وعليه، فمن بديهيّات الأمور أن تعيد الحكومة الجديدة قراءة هذه الأحداث ومعرفة أسبابها مسبباتها، وأن تتمكن من تشخيص كل إرتدداتها على كلّ المستويات، فإن حجم الإنتظارات التي تأمل فيها الناس من هذا المسار الجديد ،هو بحجم الخذلان الذي أصابهم من المنظومة المجمدة ؛ نعم حكومة السيدة الدكتورة نجلاء بودن بعد تشكلها، أمام عمل تقني بالإمتياز مهمته الأساسيّة إيقاف النزيف الإقتصادي وتفكيك شبكة الفساد من الإقتصاد الريعي إلى الإقتصاد الموازي وإعادت التوازن والثقة بين مؤسسات الدولة والمواطن بتوفير حاجياته وعلى رأسها التشغيل ،و تطهير الفضاء السياسي المشترك من قانون الأحزاب إلى قوانين الإنتخابات، في المقابل على الشعب التونسي أن يرتقي بحسه الإجتماعي، ليكون إيجابيّا في حركته، وأن يعي جيّدا دقة المرحلة وخطورتها، فيبتعد عن ردود الفعل الغير مدروسة، والكلام يشمل بعض “المثقفين “الذين لا يتوانون على التهريج وإثارة الفوضى من منابر الإعلام .
ليس لنا خيار سوى تجاوز هذه الأزمة، فتونس اليوم في حاجة إلى كلّ أبناءها وإلى كلّ مفكريها وسياسيها الشرفاء ومبدعيها، ونحن أمام فرصة تاريخيّة لصناعة مستقبلنا وإثبات إرادتنا والإرتفاع بتونسنا إلى أعلى القمم، ونحفظ الأمانة إلى الأجيال القادمة . “و من لم يرد صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر “هكذا حدّثنا أبو القاسم الشابي .