تاريخ العرب لمن لم يقرأ فصوله – وإن كان لا يخلو من تحريف – مليء بالتجاوزات الدينية والأخلاقية، حرّكتها آلية لا تعرف من الدين الأخلاق شيئا تقريبا، ولست مبالغا هنا في وصف حالة لبست العرب منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، لم ينفع في تغييرها ظهور نبي بينهم هو أفضل الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنّ قريش التي ملأ تنمّرها ودهاؤها الحجاز قد انتشر وباءها في الآفاق، لتصطبغ به شعوب تعرّبت من الغزو الذي لحقها.
أقولها بكل أسف، إن المقدس لم يعد له مكان في القلوب عموما – باستثناء خواصّ العرب الذين بقي المقدّس عندهم قائما بذاته ودافعوا عنه بكل ما أوتوا من قوة ويقين – فمنذ القرن الأول، استبيح البيت الحرام، ومدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهك القرآن واستبيح بأحكامه ولم ينقضي ذلك القرن بما حمله من عظائم الخطوب، واستمرّ الحال من قرن إلى قرن ومن بلد إلى بلد، كأني بهم يتنافسون أيّهم يأتي بموبقة أكبر من غيره.
اليوم نلاحظ بكل مرارة – على الرّغم من وضوح كثير من الأشياء – كيف يصرّ العرب المسلمون، على مواصلة نفس نهج الإستهانة بالقيم والمقدسات، كأنّها لم تعد تعني عامّتهم في شيء، وما تركته حكومات الظلم والبغي والجور من إكراهات مفروضة عليهم، باتباع ما كانت تراه مناسبا لها من أحكام، مفارقة في تنفيذها بين الغني والفقير، والوجيه والوضيع، مضافا إليه ما دسّه الاستعمار الغربي في أجيالنا لامن ثقافة بعيدة عن قيمنا الإسلامية، في جوهرها رفض الظلم ومواجهته بكل سبيل، أساس أخلاقي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتغيّر.
مبدأ كونوا للمظلوم عونا وللظالم خصما، أصبح معكوسا لدى حكامنا في عصرنا هذا، الملقّب بزمن ثورات الربيع العربي، فإذا حكام الظلم والجور ينعمون بالتأييد لجرائمهم، وهم بنظر عميان القلوب من عبيد الدولار مظلومين منتهكي الحرمات، مدافعون عن المقدسات، بينما ضحاياهم ظلمة معتدون، مستحقون ما هم فيه من انتهاكات واقعة عليهم، في أشكال مختلفة من العدوان العسكري المتناهي في إجرامه، والحصار الإقتصادي الخانق، والتشويه الإعلامي المتواصل، ومثال ذلك واقع على اليمن وأهله في التحالف العدواني القائم عليه، ولم نرى دولة باستثناء إيران وسوريا – على وجه الخصوص – واقفتين إلى جانب الشعب اليمني ماديا ومعنويا، يؤازرانه في مواجهة العدوان الغاشم عليه، أمّا بقية الأنظمة العربية فهي إن لم تكن قد دعمت تحالف العدوان على اليمن بالرّجال وشاركته في جرائمه، فهي معه سياسيا وإعلاميا، في إدانة حالات دفاع اليمنيين عن أرضهم وشعبهم وخياراتهم الثورية، كأنّما القيمة الإنسانية لليمن لا تساوي شيئا أمام غطرسة قوى تحالف العدوان عليه.
وأيّ جامعة عربية هذه التي تكيل بمكيالين، وما أفرزته مكاييلها منذ أنشأت، وما يدعونا للتساؤل إن كانت نشأتها بدافع استعماري، ومن غير المستبعد ذلك؟ عقيم لم تلد حرّا ولا حرّة، قد أفضى بها العمر إلى أرذله، سبع وسبعون عاما من السّلبية المقيتة، مجالسها لم تنتج منه خير أبدا، فلا اجتماعات وزراء خارجيتها وداخليته، ولا قِمَمُ حكامها أفلحت في تقديم شيء في صالح العرب وقضاياهم العالقة، بل حتى الحديثة منها كالقضية اليمنية، زادتها الجامعة ودولها المجتمعة حولها تعقيدا وسوءً، وباطل كل ما تمخض عنها بشأنها، أمّا فلسطين فقد قدّمتها الجامعة قرباناـ مقابل وهْمٍ التطبيع مع الكيان الصهيوني اللقيط، معتبرة أنّ حلّ الدّولتين بنظر أغلب أعضائها حلّا مجزيا ومنصفا للشعب الفلسطيني، وهو عين الخذلان فيها.
تمادي الكيان الصهيوني في عربدته وإجرامه بحق الشعب الفلسطيني قتلا وأسرا وانتهاكات حقوق، شجّعته المواقف السلبية للحكام العرب وجامعتهم، فلو كانوا حقيقة مع فلسطين وقضيتها المستحقة، لما تمادى الكيان الغاصب في غيه واستهتاره بالمواثيق الدولية، وكأنّي بحكام العرب قد تنصّلوا من مبدئية تبني القضية، إلى مجاراة الأمر الواقع والقبول به، سيما وأنه وُجِدَ في الفلسطينيين، من قبل بمبدأ حلّ الدولتين من خونة الداخل.
في الباطل تنخرط الدول العربية مؤازرة تحالف العدوان على اليمن، وتلوذ بالصمت أمام أي انتهاك لأرضه وشعبه، كما تلوذ بالصمت أمام القتل اليومي للفلسطينيين بدم بارد، تماما كالأعمى والأبكم والأصمّ، عندما تنتهك الأراضي السورية من طرف الكيان الصهيوني، فتستهدف مدارج مطار دمشق المدني الدّولي، فلا يرتفع منها صوت يندّد، ويقف إلى جانب سوريا في مواجهة عدوان سافر، وجد صمتا دوليا مطبقا، وسكوتا عربيا مريبا، فتمادى في غيّه، ولا ندري ما ستحمله الأيام من أحداث بعد هذا العدوان، وإن كنتُ من الذين يتفاءلون خيرا بما وقع، فربّ ضارة نافعة، قد تأتي بما لا يتوقعه أحد، ثقة وإيمانا بالله سبحانه في نصر أوليائه، ووعده الذي سوف يتحقّق، وإنْ تحالف ضدّه حكام العرب ومعهم الغرب بصهاينته.
لذلك أقول للمرابطين على خطوط التماس مع الأعداء استبشروا خيرا، فما يستبطنه الزمن في المستقبل هو الوعد الإلهي، وعدا صادقا غير مكذوب، وإن الثبات على المبادئ والدفاع عنها بالمُهج الحرّى، قد أفرز رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهؤلاء سوف لن يخذلهم ربّهم، وسيكونون من ورثة أرضه قسطا وعدلا كما أخبر بذلك، يومها لن تكون هناك جامعة عربية تتداول قضايانا بالبهتان والإثم، ولا إتحاد مغرب عربي أقامه عنوانا وشعارا من لا يريدونه واقعا، ولا مسميات ضحكوا بها على شعوبنا، ليفعلوا بها أفاعيلهم في البغي والظلم، يومها ستكون كلمة الله هي العليا، وأولياءه هم الغالبون والمنتصرون.
وما بين العمالة للغرب والصهيونية يمضى حكام العرب في مؤامراتهم ضد بلدانهم وقضاياهم، في ثنائية الكيل بمكيالين مجحفين، مكيال الخيانة ومكيال العمالة، وتمضي الشعوب في مقاومتها ونضالها على منهاج الدّفاع عن قِيَمها، مؤمنة بعدالة قضاياها، صابرة محتسبة معاناتها، ليوم تحقق فيه مبتغاها من النصر وإنّ غدا لناظره لقريب.
الشعوب العربية تعلم جيّدا، وحسب ما مرّ عليها من تاريخ سيء الذّكر، أن تلك المسمّيات باطلة وغير نافعة لهم، لم تنبع من عزمهم وإرادتهم، لا دور لهم فيها منذ تأسست، ولا أمل من أن يحصل لهم منها خير، لذلك فإنّهم سيقبرونها عندما تتاح لهم أوّل فرصة، لتطوى مع جملة تاريخنا السّيّء نهائيا بلا رجعة، تذكّروا فقط أيّها الحكام العابثون بمصائر شعوبهم، انّ هذه الشعوب ليست غبيّة ولا حمقاء، تدرك جيدا أن أغلبكم خونة عملاء وسفهاء، ستلعنكم كما لعنت من كان قبلكم، كما لُعِن فرعون وهامان وجنودهما، شركاء فيما اقترفت أيديهم من باطل.