الأربعاء , 18 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

“حاضنة الشرق” تعود من جديد…بقلم حازم عواضي

بمنطق الجغرافيا يمثل الشرق و الغرب مجالان حيويان يقسمان العالم، شهدا تطورات و تحولات حضارية كبرى على مر التاريخ، أثرت بصورة كلية على المشهد الحضاري للمشترك الإنساني. كما أنهما مصطلحان تختفي وراءهما الإستراتجيات و السياسات، الفلسفات و الثقافات والتي رسمت خاصيات العلاقة بينهما، فكانت تراوح بين التنافس الى ما بعد حدود الصدام و تثاقف الى درجة الإنصهار. و إن كان الغالب في هذه العلاقة في عصرنا الحديث هو الصراع، فإن تجليات الشد و الجذب بين المجالين ضاربة في عمق التاريخ و هي أحد سيماته التي تشير إلى إسهامات كلا الطرفين في الحضارة الإنسانية من جهة وفي مآسيها من جهة أخرى .

منذ فجر التاريخ أمسك الشرق بمشعل الحضارة وكان ورشة متنوعة، شكلت كيانات حضارية قوية بمقاييس العالم القديم . ولا تزال آثار تلك الحضارات ماثلة إلى اليوم، تتنفس بريق أعين الزوّار و السوّاح و تمدُ عشاق التاريخ و كُتابه مداد أسرارها وريشة عظمتها. فقد أظهرت الحضارة الفرعونية جانبا مما بلغه الشرق القديم من إزدهار وإتقان لفنون المعمار و آلهندسة، فمثلت وحدها ثلث آثار العالم. بينما يكتنز العراق وبلاد ما بين النهرين أقدم الحضارات التي شكلت منطلقا لتطور الحياة البشرية وتَنظُمها، فمن كهف شاندر ما قبل التاريخ مرورا بحيكال السومري وسرجون الأكادي موحد العراق بلاد الرافدين كان المهد، ومن بوابة عشتار تربع الملك حموراي فوق الحدائق المعلقة فوضع الشرائع والقوانين المُنطمة للناس، ثم ظهر على مسرح الشرق القديم الشعب الفينيقي ”سادة البحار الذي نقل إبداعات حضارات هذا الشرق إلى مستوى العالمية بسبب التجارة والإبحار وجعل هذا الإرث في متناول الحضارات الأوروبية القديمة ولا سيما منها الإغريقية. ثم تلاقحت وتنافست الحضارات فيما بينها فظهر الفرس شرق بلاد الرافدين متأثرين بحضارات الساميين والصينيين القدامى اللذين هيمنوا على شرق آسيا ثقافيا بالأدب والموسيقى وفنون الدفاع عن النفس والدين، مشكلين بذلك القيم والفلسفة الآسيوية فظهرت الكونفوشسية والزرادشتية وغيرها من المعتقدات…ومرت العصور وإنكفأ الشرق وغرق في الأساطير وتعطلت القدرة على الإبداع لتفسح المجال لروما وأثينا فطوروا الأدب والعلوم … وجاءت حقبة الإسلام لتبرز أهمية حركة الأنبياء وتأثيرها في هذا الشرق العظيم والعالم من جهاته الأربع وقادت هذا التراكم الحضاري لتؤكد على عمق الثقافات الشرقية التي خدمت المشترك الحضاري الإنساني.
وتلك الحضارات نداولها بين الأمم، سنن التاريخ، تضع الإنسانية في موعد تاريخي جديد تمثل في نهضة فكرية إجتاحت أوروبا إنطلاقا من إيطاليا بين القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر أثمرت ثورة صناعية بأنجلترا 1750ـ1850 تزامنا مع ثورة التنوير في فرنسا 1789ـ1799 ..غيرت مجرى التاريخ و أعطت للغرب كل أدوات السيطرة والريادة على مستوى العالم .
كان ينبغي أن ننتظر نتائج الحرب العالمية الثانية 1939ـ1945 وما ترتب عنها كي يشهد العالم بزوغ نجم أمريكا كقوة ليبرالية رأسمالية ستتزعم الغرب وتنافس الإتحاد السوفياتي الذي تزعم معسكر الشرق بعد الثورة البولشفية 1917. وفي ظل غياب حرب معلنة بين القطبين خيظت حروب الوكالة و الدعاية و التحرش السياسي والإقتصادي بينهما، متزامنة مع تسابق في التسلح والعسكرة والتهديد. و جاءت سنة 1991 و إنتهت الحرب الباردة كما سماها “جورج اورويل” و “إنهار الإتحاد السوفياتي المثخن بالأزمات رغم مبادرتي الإنقاذ البريسترويكا ـ غلاسنوت تاركا الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة، في عالم أحادي القطب.
ذهب العقل الأمريكي بالعالم إلى أقصى حدود الإستغلال متفننا في إستنباط وسائل وطرق الهيمنة المتراوحة بين الصلبة والناعمة، وكان له اليد العليا في إدارة العالم وفرض أسلوبه و إستراتجياته الامبريالية وقد دفع الشرق الفاتورة الأضخم بين الامم كما لم تصمد أوروبا امام هذه العولمة فاختارت الانصهار .

في الأثناء ومنذ سنة 1949 كان “الرئيس ماو” ينسج تفاصيل الجمهورية الصين الشعبية ببأس ثوري شديد، حملت تجربته إخفاقات وتجاوزات، مع إنجازات كبيرة وإصلاحات عميقة، كما إتسمت بإنفجار سكاني رهيب سيجعل من الصين ثقلا ديمغرافيا كبيرا سيكون من أهم مميزات قوتها و حضورها الدولي مستقبلا كدولة عصرية دينامكية ومصنعة. وجاءت سنة 1972 معلنة سياسة إنفتاح الصين نحو العالم إثر إستقبال ماو تسي تونغ لرتشارد نيكسون رئيس أمريكا في بيكين، وقَبْلَها بسنة تم إعادة مقعدها الدائم مع الدول الخمس في الأمم المتحدة .
في العشرية الأخيرة ومنذ 2001 إشتغل الصينيون تدريجيا على تغيير هيكل إقتصاد بلدهم من “المصنع العالمي” إلى قوة عالية تقنية، تصدر رأس المال خارج البلاد مع إشراك أكبر عدد ممكن من الدول، فتأسست مجموعة البريكس سنة 2009 (برازيل ـ روسيا ـ الهند ـ الصين ـ جنوب إفريقيا) ،وحديثا طورت في معاملاتها لتشمل دول ما بعد الاتحاد السوفياتي وجنوب شرق آسيا وجنوب آسيا وشرق أفريقيا، ولم تعد تقتصر معاملاتها التجارية على الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة…وبدأت تظهر معالم تغيّر في الخارطة الإقتصادية للعالم ووجدت بعض الدول مقاربة تخفف من سطوة العولمة التي تتحكم بخيوطها الإدارة الأمريكية، كما صمدت بعض الدول الأخرى أمام العقوبات و التحرش الغربي عليها.

بدأ الربيع العربي كحلم تَنْفَذُ عبره الشعوب العربية للحرية ثم الإزدهار، لكنه سرعان ما إنقلب إلى كابوس أسقط دولا بعينها في دوامة الإرهاب الموجّه والإستنزاف الطويل، المدعوم غربيا والممول خليجيا، بغية إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على شكل كونتينات ضعيفة على عدد القوميات والإثنيات. كان هذا مخططا أمريكيا صهيونيا إصطدم بصخرة الشام و أسقطه محور المقاومة، صمود سوريا في الحرب الكونية التي شُنت عليها كان بمثابة منعرج تاريخي، دفع بروسيا بوتين للعودة الى الأضواء العالمية كقوة عسكرية مناهضة للهيمنة الأمريكية، كما أخرج الصين من قمقمها ليبرزها كدولة عظمى لها رؤيتها الإستراتجية المنحازة للموقف الروسي، فكان الفيتو المزدوج في مجلس الأمم المتحدة سنة 2012 الرافض للقرارت الأمريكية ـ الأوروبية في ما يخص سوريا، الإشارة الواضحة لهذا المنعرج الذي ينبئ بزوال أحادية القطب ويمهد لإصطفافات جديدة وتوازنات مختلفة على ما عهدناه، تعيد للشرق بريقه ومكانته في عالم متعدد الأقطاب زادت في تعجيل تشكله جائحة كورونا وما تبعها من أحداث أثبتت أن النظام الدولي القائم الذي تقوده أمريكا قد دخل مرحلة العجز وربما الإحتضار، لخصتها أحداث إقتحام الكونغرس الأمريكي الأخيرة في جانفي 2021.

لا نقول سرا ولا نضرب الكف ولا نقرأ قاع الفنجان، حينما نقول أن العالم يتشكل من جديد وكأن الأحداث تقوده إلى مستقر ما، تنكمش فيه الهيمنة المنفردة لصالح التعاون المشترك، الشرق وآسيا ينهضان من جديد بأبواب مفتوحة، أقطاب إقتصادية تشكلت تضم أسواقا مهمة وأقطاب تتشكل تمثل مصادر لإستثمارات كبيرة، البريكس ، الاتحاد الأوراسي، منظمة التعاون الإقتصادي آسيا والمحيط الهادي، منظمة شنغهاي للتعاون …إضافة إلى التعاونات الثنائية أو الثلاثية بين البلدان المتحررة والسيادية كلها تمثل أفاقا جديدة وتطلعات تتجول في مساحة جغرافية كبيرة وغنية وتضم أكثرمن نصف سكان العالم…
كنت قد تساءلت في أحد المقالات السابقة هل يكون للعرب دورا في ضبط نواميس العالم الجديد والإنخراط فيه بتشكيل قطب إقتصادي يعيد هندسة مستقبل الشعوب العربية ويعطيها دورا حضاريا. هذا التساؤل مازال قائما، هو في الحقيقة حلم أو لنقل رؤية ربما تتحقق يوما، أضيف إلى هذا التساؤل شيئا من الواقع، هل ينتبه العرب إلى هذا آلموعد التاريخي و يُنظر إليه بأبعاد إستراتيجية فيتوجهون شرقا؟؟؟….

 

شاهد أيضاً

طوفان الأقصى…المقا ومة خيار الشرفاء…بقلم حازم عواضي

على ملاحم التاريخ نتوقف و لو للحظات و تحت صمود غزة نستظل بالعزة ، وعلى …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024