من بين المسائل التي اختلقها البعض بحق سيرة نساء أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ما دعاني اليوم للكتابة عن تلك الإشكالات التي أحدثوها، بسبب سوء فهم من بعضهم، ومغالاة تتعارض مع حقائق هذا البيت الطاهر من البعض الآخر، وفي نظر هؤلاء وهؤلاء انتصارا لهم، تبريرا لما اعتقدوه وهْمًا، جاريا مجرى الحقيقة عند هؤلاء الطاهرين عليهم السلام، مسألة حجب نسوة الطهر والعفاف والدين، عن الظهور والخروج إلى شؤونهم في مجتمعاتهم، كأنّ ذلك محرّم عليهم ممنوعين عنه مطلقا، خوفا من أنظار غير المحترمين من الناس.
ونحن إذا بحثنا في هذه المسألة، وجدنا أمثلة كثيرة عن نشاط الطاهرات سلام الله عليهن، في مجتمع قد يختلف في عقيدته وتفكيره وتعامله مع مجتمعاتنا الحالية، لكنّه لا يصل حدّ التباين، لأنّ التركيبة الإيمانية واحدة، المؤمنون وهم قلّة، والمنافقون وهم أكثر من ذلك، والمشركون ولا يخلو منهم زمان ولا مكان، ولا يمكن في ظل وجود هذا الخليط العقائدي الإجتماعي، أن يُميّز هذا الفريق من الآخر، دون الوقوع في إشتباه ما.
واعتبار كلام مولاتنا زينب عليها السلام في مجلس ابن زياد ويزيد تقليلا من مقامها، أو رؤيتها أسيرة مُساقة قسرا بين جيش الشام، إلى دور الظلمة إهانة لها، هو ضرب من الإعتقاد الخاطئ تماما، فقد شاء الله أن يراهم على تلك الحال، زيادة لهم في الأجر، وإقامة للحجة على خصومهم، بحيث لا يبقى لهم معذرة يعتذرونها يوم الحساب، والمواقف التي وقفتها عقيلة بني هاشم عليها السلام، هي مواقف الإسلام في دفاع أهله عنه، مواقف عزّ وإباء وأنفة، عميت عين تراها بغير هذا اللإعتبار.
الصورة النمطيّة المكذوبة التي نقلوها عن السيدة زينب عليها السلام بكونها لا تتحرك الا بركب من رجال محارمها كأبيها وأخوتها الحسن والحسين عليهما السلام وأبو الفضل العباس رضوان الله عليه كما في هذه الرواية: (حدث يحيى المازني قال: كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصا ولا سمعت لها صوتا، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله تخرج ليلا، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين ( ع ) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين ( ع ) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن ( ع ) مرة عن ذلك فقال (ع) أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب( (1)
وزاد بعضهم ( وخلفها سيد الغيرة والحمية أبو الفضل العباس يمسح اثار نعليها، وقد سُئل عن ذلك فقال: إني أكره أن يرى الناس أثر قدم زينب على الأرض. وليت شعري ما هذا الذي لُفّتْ به سيرة البيت الطاهر من تعقيد ينمّ عن عقدة ملفقه يتبرأ منها الله وملائكته ومؤمني رسله وأتباع أهل بيته الصّادقين، وما هكذا تكون سيرتهم العطرة التي هي قدوة سير أتباعهم من النساء والرجال، لكن هل وعى الناقل الكذّاب أن السيدة زينب لم تكن تمشي حافية حتى يمحي العباس أثر قدمها، ولأي سبب وآثار الاقدام عديدة وليس هناك من يهتمّ بالنظر اليها فبئس العقول إذا تحجرت وتكلّست وبئس المصدّق لترّهات يجبُ أن ينزّه الموالون لأهل البيت عن السقوط في فخاخها المليئة بالعقد الضّارة.
والرّوايتان لم يذكرهما أحد في المصادر المعتمدة، وهي لمن يعقل، ملفقة بشكل مفضوح، يترفّع عنه أهل بيت الحكمة، في تصرفاتهم وعيشهم بين الناس، فيكفي بدل هذه الرواية وهو المعمول به عادة، أن يرافق زينب عليها السلام أحد محارمها حتى يفي بالغرض، وهي سليلة بيت جدير بالإحترام والتقدير، فلا يجرؤ أحد على الاقتراب منها في أي شأن من شؤونها، والرّواية تكشف لنا عقدة مختلقها، الذي أراد أن يقنعنا بها أن المرأة عورة، لا يجب أن تقاد في قضاء شأن لها الا بتلك الصورة.
لقد مرّت أمها فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام بمواقف مشابهة لها، عندما غصب زوجها علي حقّه في الحكومة، فقد جاء في كتاب الإمامة والسياسة أنّ عليا خرج (كرم الله وجهه) يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله على دابة ليلا إلى مجالس الأنصار، تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول علي كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وآله في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم. (2)
احتجت على الخليفة الأول في مسجد أبيها، على جملة من القضايا الإستحقاقية التي تخُصّها، غَلبت فيها حجتها على إدّعاء خصمها، وأظهرت من خلالها صواب موقفها من ميراثها نحْلّتِها وسهم ذي القربى من أبيها، وقد خفِي عن نقلةِ هذا الإحتجاج الكبير أنّ هدف سيدة نساء العالمين عليها السلام هو أعمق وأبعد من نيل مطالب خاصّة بها، بل إنّها أرادت أن تقيم الحجة على كذب من حرمها حقوقها، لتبرهن للحضور أنه غير جدير بقيادة الأمّة، واختلاقه أن معاشر الأنبياء لا يورّثون(3) هدمتْهُ بآيات قرآنية أنهم جميعا يتوارثون شأنهم في ذلك شأنه بقية الناس (4)
( … سبحان الله، ما كان أبي رسول الله(ص) عن كتاب الله صادفاً ولا لأحكامه مخالفاً ! بل كان يتّبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً يقول:«يرثني ويرث من آل يعقوب»، ويقول: «وورث سليمان داود»، فبيّن الله عز وجل في ما وزع من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علّة المبطلين، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين، كلاّ، بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون…) (5)
ويأتي اصطحاب الإمام الحسين زوجاته واخته ونساء أهل بيته عليهم السلام، في رحلته إلى العراق، في إطار إيمانه بما أعدّه الله له ولأهل بيته عليهم السلام، وهو يعلم يقينا بأنه مقتول هو ورجال بيته وخلّص أصحابه، وأنّ نساءه سيصبحن أسيرات جيش البغي والظلم الأموي، ومضى على أمره ذلك الذي تقرّر في بطن الغيب، لم يقدّم شيئا ولم يؤخّر شيئا كما قال: شاء الله أن يراهن سبابا، وهو مقتول منحور الرقبة ومحزوز الرأس.
حجب نساء البيت النبوي لم يكن بالعقلية التي اظهرت بها داعش نساءها، بل كان في اطار إسلامي، يمنع الإختلاط في جلسات مع الرجال الأغراب فقط، فلا يتعارض ذلك من مشاركة المرأة شركاءها في العيش خارج البيت، ومقاسمة نظرائها في الحياة الإجتماعية، والإدعاء عليهن بالحجب المطلق، أمر في غاية الخطورة، بكونه يشجع على سلب المرأة حقها، في المساهمة في بناء مجتمعها، ليس تربويا فقط في البيت، بل وأيضا في سائر أوجه الحياة خارجه.
هذا ولم تكن المرأة المسلمة مقصيّة عن أعسر الأعمال كالمشاركة في الغزوات فقد كانت تعالج جرحى المسلمين خلف صفوفهم، جاء في حديث أنس بن مالك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بأم سليم ونساء من الأنصار، ليسقين ويداوين الجرحى.(6) وقال ابن مسعود: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين.(7)
أمّا بالنسبة للحوراء زينب عليها السلام، فقد كانت شامخة كالطود العالي، عندما أطلت على كربلاء، وإن غيبتها سحب التنكر والغدر، وهي ترقب أعز ما عندها في أهل بيتها، يجودون بأرواحهم دون دين جدهم، وهي في تلك المواقف الصعبة، بين مناجية لربها عند كل روح تصعد إليه، مردّدة : اللهم تقبل منا هذا القربان.(8) لم تنزوي في خيمتها ولا هدأت من حركتها بين ساحة المعركة وردّ اطفال أفزعتهم همجية قوم قالوا بأنهم مسلمون، ولكن أي إسلام ذلك الذي سمح لهم باقتراف أبشع جريمة، في تاريخ الإنسانية المليء بالجرائم.
تحير فيها المعادي واعتز بشخصها الموالي، وكيف لا يكون ذلك محيرا عندما برزت في كربلاء، وكربلاء لمن عرف فصولها الدامية الحزينة كلها لها، كتبتها بحبر الصبر محتسبة كل شهيد إرتقى وكل مهجة حرّى أصابها سهم أو ضربة سيف أوطعنة رمح، إن أنّتْ لم يُسمع لها صوت، وإن بكتْ لم يخرج دمعها من مقلتيها- فيشمت فيها العدوّ تبجّحا بدناءة أفعاله- بل أعتقد وهي سليلة شجرة نسب، فاق منتسبوها بقية الناس رقّة وأحاسيسا، أن دمعها إدّخرته في قلبها محتملة كل تلك المصائب، لتنزله بعيدا عن أعين الأعداء فلا يرون منها الا ما يزيد من شعورهم بالذنب والخطأ الفادح الذي ارتكبوه، ولقد بكى الامام الحسين عليه السلام على هؤلاء القوم أسفا على ما مضوا عليه وما سيؤول بهم ذلك إلى عقوبة الله ونقمته.
لقبها من لقبها بأم المصائب وكناها من كناها بجبل الصبر.. هي عقيلة بني هاشم زينب الكبرى بنت فاطمة وعلي عليها السلام، ذهبت في التاريخ مثلا لسيدة فريدة في مواقفها، متميزة عنهن في مقابلة البلوى والمصيبة وإن اشتدّت بصبر عجيب، لم أرى له شبها على مدى خمسة عشرة قرنا، هي مثال من خديجة وفاطمة عليهما السلام، لم تنل منها الدنيا شيئا، بقدر ما أخجلت هي الدنيا وأهلها يوم عاشوراء، وشتان بين من طالت أنجم السماء، ثابتة على مبادئ جدها وأبيها وأمّها وأخويها، وبين من سقط إلى أسفل الأرضين بقبح مساوئه، رغم قربهم من أفضل خلق الله، فلم يتزودوا منه بما ينجيه يوم المآب، وكل اناء بما فيه يرشح.
في حياة نساء أهل البيت عليهم السلام لم يكن حجب النساء بالمنطق القسري السلبي قانونا سائدا أو تربية اسلامية معتمدة عند هؤلاء الأطهار، بما توفّر لنا من الروايات التي شهد فيها أجيالهم، حركة نسوية ظاهرة من أجل اقامة حق وإبطال باطل، فمؤازرة السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومؤازرة فاطمة لعلي عليهما السلام، ومؤازرة زينب للحسين عليهما السلام، يثبتان مجال حركة المرأة في الإسلام، خارج البيت في السلم وفي الحرب، وما دون ذلك من مزايدات البعض، هو تزمّت وتحجّر من البعض، لا يؤدّيان لبناء كيان نسويّ فاعل، في مجتمع يتحرّك كله نحو هدف الإرتقاء به، ليكون مثالا لبقية المجتمعات، التي كانت تعامل المرأة عموما كبضاعة أو جزءا ناقصا، غير ذي فائدة كأنه عورة، وهذا ما علق في أذهان البعض، من كون صوت المرأة عورة، وهو تصوّر أبعد كما يكون عن مراد الدين الإسلامي، من كون دور المرأة إيجابي في مجتمعها.
لقد عاش أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمعاتهم بانفتاح مشروع ودون تعقيدات من شأنها أن تؤثر على سلطتهم المعنوية في الأمّة لقد كانوا أمثلة للقرآن الكريم والسيرة النبوية العطرة، يعودون المرضى، ويشاركون الأمّة أحزانها وأفراحها، عسرها ويسرها، لم يحجزهم شيء عن ذلك، سوى ما أقدم عليه الظالمون، من ضرب حصار عليهم، في محاولة لقطع صلاتهم بباقي المسلمين، فبئس ما افتُرِي به عليهم من المتشدّقين باتّباعهم، وهم أبعد ما يكونون عنهم، بل أراهم عقبة في طريق معرفتهم والالتزام بنهجهم، الذي هو النّبع الصافي للإسلام المحمدي الأصيل.
في ذكرى شهادة بطلة كربلاء وإني لأراها شهيدة تلك الواقعة كنتيجة بعدها، جريحة القلب فيها، جرحا لم يندمل بقية عمره الذي قصُرَ بعد الواقعة، وظل ينزف حتى ارتقت إلى بارئها، متظلّمة من أمة قتلت خير أهل الأرض، قد جمعت حزنها وشكواها، ليوم ينفع فيه الصادقين بصدقهم.
المراجع
1 – حياة زينب الكبرى جعفر الربعي النقدي ص 22
2 – الإمامة والسياسة ابن قتيبةج1 ص 29، شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد ج6ص 13 / موسوعة الامام علي في الكتاب والسنة والتاريخ محمد الري شهري ج3ص50
3 – رواية يتيمة تفرد بها الخليفة الأول قال فيها: ان رسول الله قال: لا نورث ما تركنا صدقة .جامع احاديث البخاري كتاب الخمس ج4ص79ح3092 وكتاب المغازي باب حديث بني النضير ج5ص90ح4035 و4241/ مسلم كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء ج5 ص151 ح1757 وص 153 ح1759…
4 – كشف الغمّة الإربلي ج 2 ص 198/ الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 253
5 – بحار الأنوار المجلسي ج8ص113
6 – سنن أبي داود كتاب الجهاد باب في النساء يغزون ج3ص30ح2531
7 – مسند أحمد مسند عبد الله بن مسعود ج7ص418ح4414
8 – حياة الإمام الحسين السيد باقر شريف القرشي ص301