قال الله تعالى :” وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين” ( الذاريات، الآية 55)، نأمل أن يأخذ العملاء والمنافقين وبعض التّائهين في “الأزقّة المُظْلِمة” من أبناء أمّتنا من الحالة السورية الدّروس والعبر وتعيد لهم رُشْدهم ولو بعد حين!
في الحقيقة هذا النص كنت قد نشرته منذ ست سنوات بإحدى الصّحف الورقية التونسية عام 2013 عندما ظن الجميع أنّ الدّولة السورية قد سقطت، وأعيد نشره كما هو، بمناسبة هزيمة القوى الاستعمارية الغربية وحلفائها الأعراب والأتراك والمنظمات الإرهابية وخروجهم ذليلين من شمال سوريا “قلعة العروبة”(اليوم 17 أكتوبر 2019) بعد ثماني سنوات من الحرب الإرهابية التي لم يشهد التاريخ مثيلا لها في مستوى قوة العتاد العسكري والتّعبئة الإرهابية والدّعاية الإعلامية السّخيفة التي لم تنطل إلا على السّفاء وتجار الدّين.
إنّ المتابع لتسارع الأحداث والتحوّلات التي يشهدها وطننا العربي منذ عقدين من الزّمن، وما يتعرّض له من عدوان استعماري غربي وإمبريالي وصهيوني في ظلّ هيمنة القطب الواحد، يدرك دون أدنى شك أن هدفه الاستراتيجي هو مزيد من التخريب وإحكام القبضة الاستعمارية على أرضنا العربية، ومن ثمّ تصفية كل القوى القومية والأنظمة العربية الوطنية التي تقف عقبة أمام تحقيق مشروع “الشّرق الأوسط الجديد”. فبالأمس القريب كانت الحرب على العراق، ومن قبله كانت الهجمة على حركات المقاومة العربية في لبنان وفلسطين ومازالت متواصلة، ثم الحرب على ليبيا وتقسيم السّودان والحرب على اليمن. واليوم، يتكثّف التسويق لهذا العدوان على سوريا باعتبارها آخر ما بقي لنا من “قلاع” للدفاع عن شرف أمتنا العربية باسم “حقوق الإنسان” وغيرها من الأكاذيب التي صمت بها آذاننا القنوات التلفزية وامتلأت بها المعجمية السّياسية الاستعمارية الغربية.
في هذه اللّحظة التاريخية يجب على شرفاء هذه الأمة، وهم قليلون، أن يقفوا وقفة موضوعية وبعيدا عن العماء الأيديولوجي الذي أصاب بعضهم، والمزايدات السّياسية أن يجيبوا عن السّؤال البسيط التّالي: من هم أصدقاء أمتنا العربيّة ومن هم أعداؤها؟
لم يعد خافيا على أحد أنّ الخطر الحقيقي للاستعمار الغربي والصهيوني “الدّاعشي” الجديد هو أنّه استعمار أشد بطشا من سابقه، وأكثر قوة ووقاحة من أمس. فلم تعد هذه الدّول الاستعمارية تطلب من عملائها من الحكام العرب ومن بعض الأحزاب الرجعية بتلبية أشياء محدّدة، بل أصبحت تملي عليهم شروطها المجحفة من موقع “الآمر” و”النّاهي” وعبر مختلف الآليات الاقتصادية والثقافية والعسكرية والإعلامية. والخطر لا يكمن في ما هو ماثل أمامنا من وقائع وأحداث، بل في ما هو مخفي ، وما هو مخفي هو الإسراع بتحقيق مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي لن يتحقّق إلا عبر إذكاء نار الفتنة الداخلية ومزيد تفكيك النسيج الاجتماعي والثقافي للأمة العربية، وتحت مسميات وشعارات مختلفة :دينية أحيانا، وحقوقية و”إنسانية” أحيانا أخرى.
لقد تكثّفت الحملات الإعلامية والعسكرية على سوريا منذ سنوات مع بداية “ثورة الخريف الصهيوني” من أجل طمس حقيقة الصراع الدولي الدائر في المنطقة، وإشغال المواطن العربي عن قضاياه المصيرية، وتغيير مساره الطبيعي في مواجهة أعدائه الحقيقيين عبر إثارة الفتن الطائفية والمذهبية إلى أن وصلت هذه الحملة الوقحة إلى مداها بأن يتم الدّعوة، بشكل علني ودون خجل من شعوبها، ومن قبل قادة بعض الدول العربية والقوى السياسية الرجعية والعميلة (الإسلامية والليبرالية والصهيونية) إلى التّحالف مع الكيان الصهيوني من أجل القضاء على سوريا ومن ورائها المقاومة العربية في لبنان وفلسطين وفرض أكذوبة مشروع “السّلام” مع هذا العدو.
ومن المؤسف أن سياسة الغرب الاستعمارية التي لا تؤهله على الإطلاق، مهما كانت الدواعي والمبرّرات التي يتخذها في هذه الحرب، من أن يرعى أيّ مشروع سياسي في الوطن العربي. كما أنّه ليس من المنطقي أن تنطلي على المواطن العربي كذبة بعض الأنظمة العربية العميلة وخاصة الخليجية، والتي وصفت المقاومة في فلسطين ولبنان بأنها إرهاب في الحرب الصهيونية على لبنان (سنة 2006) وفلسطين(سنة 2008 ). وتنظر إلى الحرب على سوريا اليوم، بأنها من أجل حقوق الإنسان العربي !
فهذه الحملة الغربية التي تشن سرا وعلانية، وفي تحالف استراتيجي مع قوى الرجعية العربية، أحزابا وحكومات، أدركت أن سوريا تُمثّل “الثّقب الأسود” في بناء مشروع “الشرق الأوسط الجديد” والذي لن يتحقّق إلا من خلال ضمان أمن “إسرائيل” وهو الهدف الرئيسي الذي ظلت كل الدّول الاستعمارية ( خاصة انقلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية) وفيّة له منذ قيام هذه الدّولة في فلسطين (1948) وحتى الآن. وانطلاقا من التحالف “المقدس” بين الحركة الصهيونية وهذه الأنظمة والأحزاب الإخوانية والليبرالية، فإنّها لن تتردّد في مزيد الضغط على عملائها العرب من أجل إملاء شروطها. ولعلّ ما يجري من مفاوضات وتطبيع بين بعض أنظمة هذه الدّول و”إسرائيل” خير دليل على أنّ الهدف الرئيسي من الحرب على سوريا هو دفع العرب “طواعية” إلى التّفريط في ما تبقى من فلسطين إلى العدو الصهيوني من أجل أن يتحقق مشروع الشرق الأوسط الجديد وضمان تفوق العدو الصهيوني في الوطن العربي.
منذ أحداث 11سبتمبر 2001 بدأت الولايات المتّحدة الأمريكية مع “جورج بوش الابن” تسارع في انجاز مشروعها في الهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية، والسيطرة على مواردها المادية ونشر قواعدها العسكرية، بل والإسراع في تحويل “دولة إسرائيل” إلى “قاطرة إقليمية” لدعم هيمنتها وضمان مصالحها الإستراتيجيّة في الوطن العربي.
هناك حقائق تاريخية لا يستطيع أحد أن ينكرها وهي:
1ـ لم يكن أمام الدّول العربية الموالية للغرب الاستعماري سوى القبول بكل الشّروط التي تحدّدها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها عند وضع سياساتها من أجل استدامة هذه الهيمنة وحتى تضمن حكوماتها البقاء في الحكم.
2ـ إنّ مراكز القرار الأمريكية تعرف أنّ النظم التسلّطية الموالية لها هي التي سوف تقوم بخدمتها وتضمن حماية مصالحها. وبالتّالي، فإنّ الدّفاع عن استقرار هذه الأنظمة العميلة لها يمثّل الهاجس الأول للأمن الغربي و”الإسرائيلي” في الوطن العربي.
3ـ يذهب عديد المحللّين السّياسيين الغربيين إلى القول بأنّ “الحركات الإسلامية” تمثّل أقوى الحركات ولاء للمشروع الصهيوـ أمريكي في الوطن العربي. وبالتالي لابدّ من دعمها حتى تتمكّن من السّلطة لأنّها ستكون في الأمد القريب ملزمة بتحقيق جميع مصالح الغرب والقبول بالحلول الوسط وتقديم كل التّنازلات باعتبارها في الأصل تعتبر كلّها حركات معتدلة ومطواعة للغرب، كما إنهّا ليست لها برامج سياسية أو اقتصادية محدّدة.
عندما نقف عند هذه الحقائق وغيرها، نستطيع أن نعرف الخلفيات الحقيقة لـ”التهديد” باتخاذ القرار “المتهوّر” للولايات المتحدة وحلفائها في الاعتداء المباشر على سوريا. ويؤشر هذا التهويل والوعد والوعيد على تجليات الفشل العسكري والإرهابي والأزمة السياسية التي تمر بها المنظمات الإرهابية في تحقيق أهدافها في سوريا.
نعتقد أنّ اندفاع الولايات المتحدة وحلفائها إلى الحملات الإعلامية والمسرحيات في اتخاذ أي قرار في توقيته، والذي لا علاقة له بكذبة الأسلحة الكيميائية، ولا علاقة له بحماية الشعب العربي في سوريا أو من أجل الدفاع عن حقوقه فإنّه ليس إلا إحدى تجليات المؤامرة العربيةـ الصهيونية من أجل تحقيق المشروع الصهيوني وبناء دولة “إسرائيل الكبرى”.
لهذا نؤكّد ما يلي:
1ـ إنّ كل من يبارك أو يساند أو يشارك أو يؤيد أيّ هذا اعتداء على سوريا، سواء كان حزبا أو منظمة أو فردا، فإنّه يبارك ويساند ويؤيد في الوقت نفسه أهداف الامبريالية والحركة الصهيونية في الوطن العربي، سواء كان هذا الموقف عن وعي أو عن غير وعي لا فرق عندنا في هذا.
2ـ إنّ الحكومات والأحزاب والمنظمات الرجعية التي ارتضت بهذا الاعتداء يحوَلها إلى أداة لتنفيذ المصالح الأمريكية والحركة الصهيونية، باعتبارها سقطت في أوّل امتحان وأصبحت تمثّل بوقا للدّعاية لها وطرفا في تدويل قضايا أمّتنا الداخلية، ممّا يعني انخراطها المباشر والعلني في بناء مشروع “الشرق الأوسط الكبير” ومن ثم قبولها الصريح بدولة “إسرائيل” وبالولاء للاستعمار وبالعداء لمصالح الشعب العربي. ولهذا، أصبحت طرفا رئيسا في هذا الاعتداء ويجب مقاومتها.
4ـ إنّ هذه الحرب التي اتخذت من الأرض السورية “قلعة الصمود والمقاومة” مسرحا لها، أضرت بالقضية الفلسطينية أكثر ممّا أضرت بسوريا، حتى ولو نظرنا إليه وفق المنطق الإقليمي والرجعي. فالحالة السورية تذكّرنا بالحروب “الإسرائيلية” على لبنان سنة 2006 ( باسم القضاء على حزب الله) وعلى فلسطين منذ 1987 ( من أجل القضاء على حركات المقاومة الفلسطينية) عندما اتّهمت بعض الدّول العربية وخاصة الخليجية، حركات المقاومة ” بالمغامرة غير المحسوبة” وبالإضرار بالمصالح العربية، وحمّلتها المسؤولية الكاملة عما يتعرض له الشّعبان في لبنان وفي فلسطين ( غزة) من مجازر من قبل العدو الصّهيوني، وكأنّه كان على هذه الحركات المقاومة للاحتلال أن لا تقاوم وأن تقبل بواقع الهزيمة الذي تسعى دولة إسرائيل إلى فرضه في المنطقة العربية والإسلامية. وبالتالي، فإنّه على الشّعب العربي أن يقبل، ورغمًا عنه، بمعادلة المصالح العربية المزعومة، وكما يُقرّرها هؤلاء الزّعماء في “الخيانة” المأزومين والمتخاذلين الذين مازالوا يرعبون الشّعب ويحرمونه من مجرد التفكير في الثّورة أو حتى في مجرد معارضة بعض سياساتهم.
فالأنظمة وكلّ الأحزاب والمنظّمات التي أيّدت أيّ اعتداء على أي شبر من أرضنا العربية أصبحت أكثر خطرا على مصلحة الأمة من بني صهيون ذاتهم. وبالتّالي، فليس من حقّها أن تتحدّث باسم الشّعب العربي أو عن حقوق الإنسان أو أن تتبنى هموم هذا الشّعب في أي قطر عربي، لأنّها لا تعنيها مصالحه أو حقوقه مادامت عاجزة عن حماية ثروات بلدانها من السّلب والنّهب الدولي المنظم. والثورة العربية ليست في حاجة إلى رؤساء حكومات أو أحزاب ومنظمات عميلة كانت ومازالت ” وفيّة ” لتحقيق مخططات الأعداء، بل إنّ الثورة العربية في حاجة إلى حركات سياسية واجتماعية تُؤْمن بأنّ الثّورة تبدأ أولاً بـ ” تحرير” الإنسان العربي من الاستبداد والقمع والفقر والتخلف حتى يتمكّن من استرداد كرامته والتخلص من جميع أشكال التبعية والاستعمار.