تبلغ موازنة السجون في الولايات المتحدة، سنوياً، ما يقرب من 80 مليار دولار (أ ف ب )
في حين يربط البعض الانتفاضة الأميركية بالمؤسسة الأمنية وعملها المشوب غالباً بممارسات عنصرية عنيفة، فإن مطلب إصلاح هذه المؤسسة لا يبدو، بنظرة أشمل، غير واجهة وعنوان لواقع العنصرية الأكثر تعقيداً. واقع يشكّل حلقة فاعلة ومنتجة من حلقات نظام الإمبراطورية، لا حالة اجتماعية وحقوقية هامشية فحسب، تماماً كما كانت العبودية، في الأساس، واحدة من أدوات الإنتاج الرأسمالي، في مستعمرات الرجل الأبيض الجديدة، يوم كان يُشحن الأفارقة للاستعباد حيث يعملون بالمجان، موفرين بناءً مزدهراً لهذه المستعمرات. ورث التمييزُ العنصري العبوديةَ الصريحة. وفي العقود الماضية، تحديداً المرحلة الممتدة من 1964 – بعد إقرار الحقوق المدنية ومن ثم مجيء ريتشارد نيكسون بسياسة «القانون والنظام» التي يرفع شعارها اليوم دونالد ترامب – إلى زمننا الراهن، بقي الكثير من هذا الإرث حياً، وأعيد تشكيله بصورة لا تبدو من الخارج صارخة الفجاجة، ليس فقط لعدم إلغاء نصوص العبودية مع التعديل الـ13، ولا لما ترسّب من أفكار تفوّق العرق الأبيض، بل إن طوراً من أطوار العبودية المقنّعة قد أخذ مكانه في العقود الأخيرة، تماماً كوراثة الفصل العنصري للاستعباد الشامل. هذا الطور من «العبودية الحديثة» يجعل التمييز، المقنّع منه والصريح، مشابهاً في أحيان كثيرة للأهمية «الرأسمالية» لاستعباد الأفارقة سابقاً، حين نرى أنه يُترجم اليوم على شكل أكبر سجون في التاريخ (قرابة 2,5 مليون سجين، هم ربع المسجونين حول العالم، في بلد يشكّل 5% فقط من سكان الكوكب)، تعدّ منجماً للدولة والشركات العملاقة والمتوسطة عبر خصخصة السجون وخدماتها، وكذلك أداة للإنتاج والصناعات الثقيلة والعادية بكلف زهيدة، من خلال تسخير السجناء وتشغيلهم. مفهوم «الاستعمار الداخلي» يظهر في «مجمع السجن الصناعي» (PIC) بأوضح تجلّياته، ليشرح كيف أن أقلية الـ14% أو مجتمع السود القابع في دوامة التهميش والتهشيم، بفعل مقصود، لا يزال يأخذ الكثير من موقعه ودوره القديمين، وإن بصورة مموّهة، وعلى نحو يكاد يشابه نظرية مؤامرة متخيّلة، لولا أنه واقع غير مخفي، مثبت بالأرقام ودورة أرباح بعشرات المليارات من الدولارات. ولعل الصدفة الساخرة في الأمر أن هذا الاستعمار الداخلي يقوم أحياناً بتغذية الاستعمار الخارجي بنحو مباشر، حين يمدّه بالصناعات العسكرية المختلفة. وفي خضم كل هذه المفارقات، يحافظ النظام الأميركي على بنائه الطبقي بهذه الأدوات المتوحّشة الآخذة في الازدهار كما سنرى، لا التراجع، رغم المآسي الاجتماعية والإنسانية الناجمة عن السجون وما ترتبه على السجناء من صعوبة اندماج لاحقة في مجتمعاتهم في ظل القوانين الصارمة التي تحرمهم من الحقوق المدنية (العمل، الدراسة، الانتخابات،…)، قبل أن يصطدم اليوم بانفجار شعبي أشعله مقتل جورج فلويد، ليزاد الوعي حول هذه القضايا ويصير التركيز على ضرورة الحل الجذري للواقع، يبدأ بأداء الشرطة ولا ينتهي بالسجون ومصانعها.
التعديل الـ13
جُرِّمت العبودية دستورياً. باستثناء المجرمين، مَنح «التعديل الـ13» الحرية لكلّ الأميركيين. «لا استعباد إلزامياً، إلا للمدانين بجريمة»، أو حالما يُدان أحدهم بجريمة، يصبح عبداً من جديد، لأنّ التعديل يسمح بالعمل القسري إذا كان على شكل عقوبةٍ تُفرض على «المجرمين».
جُرِّم – واقعاً – الشكل الأكثر بشاعة للعبودية، إفساحاً في المجال لولادة أشكال أخرى. سيتبيّن، بمرور الزمن، أنّا أصبحنا أمام شكلٍ مقونن للعبودية، غذّته حملات استمرَّت على مدى عقود – ولا تزال – ضدّ مجتمعات السود، وغيرهم مِن غير البيض. «باستثناء المجرمين»؛ كانت تلك ثغرة قانونيّة، نفذ إليها أكثر المتضرّرين من إلغاء نظام العبودية. نظامٌ اقتصاديّ ترَك انهياره، في نهاية الحرب الأهلية الأميركية (1865)، اقتصادَ الجنوب في حالة عجز. أصبح، بموجب التعديل، أربعة ملايين «عبدٍ» هم جزء لا يتجزّأ مِن نظام الإنتاج الاقتصادي في الجنوب الأميركي، أحراراً. ماذا سيحلّ بهؤلاء؟ وكيف سيُعاد بناء الاقتصاد؟ الإجابة كانت سهلةً وواضحة: استغلال الثغرة القانونية. أُطلق العنان للاعتقالات الجماعية، بما شكَّل أول طفرة في نظام سجون أميركا. اعتقالات كانت تجري لأيّ سبب، ومن دون سبب أحياناً. الحاجة إلى توفير اليد العاملة لإعادة بناء اقتصاد منهار، دفعت إلى اختراع نظام عبودية مقنّع، أخذ أشكالاً مختلفة باختلاف الحقب الزمنية، تارةً بـ«الحرب على الجريمة»، وطوراً بتحديد تلك الجريمة (المخدرات)، لتبرير حملات الاضطهاد ضدّ أقليّة السود. ساهم الإعلام، إلى حدٍّ كبير، في تزخيم تلك الحملات، وتوجّه الأسلوب الخطابي السائد في تلك الحقبة، نحو هدفٍ محدَّد: أولوية شيطنة مَن ليسوا بيضاً.
«الحبس الجماعي»
«العدالة التي تتأخر طويلاً، هي عدالة لا تتحقّق» (مارتن لوثر كينغ).
حين أصبحت مرفوضة ممارسة الإرهاب بشكلٍ علني (الإعدامات التي جرت مِن دون محاكمة بين حقبَتي إعادة إعمار البلد بعد الحرب الأهلية، والحرب العالمية الثانية، وقتلُ آلاف الأميركيين السود)، طُرح إجراءٌ لقوننة الاضطهاد، عبر إنشاء نظام فصل عنصريّ أبدي، عرف بـ«قوانين جيم كرو». قوانين خفضت مِن منزلة الأميركيين السود إلى مستوى مواطنين دائمين من الدرجة الثانية. لم يتغيَّر الكثير، إلى حين تشكُّل حركة الحقوق المدنية، ولاحقاً توقيع الرئيس الأميركي، ليندون جونسون، قانون الحقوق المدنية، جنباً إلى جنب قانون الحقّ في التصويت، في الثاني من تموز/ يوليو 1964. وفي الوقت الذي بدأت فيه الحركة تكتسب زخماً، ارتفع معدّل الجريمة في البلاد، وأصبح سهلاً اتهامها بالمساهمة في زيادة معدلات الجريمة.
ميّز القرن العشرين ثبات أعداد السجناء في الولايات المتحدة. لكن ذلك سيتغيّر في السبعينيات، لتتحدَّد معالم هذه الفترة بما سيصطلح على تسميته «الحبس الجماعي».
«الحرب على المخدرات» و«الاستراتيجية الجنوبية»
بلغ تعداد السجناء في عام 1970: 375,292 سجيناً. في حقبة ريتشارد نيكسون (1969 – 1974)، أصبحت الجريمة مرادفة للعرق. «إن كان هناك مجال يصحّ فيه استخدام كلمة حرب، فهو الحرب على الجريمة». لم يفوّت نيكسون فرصةً من دون الإشارة إلى ضرورة احترام القانون، وفرض الأمن. ولأنّ حرباً شاملة ضدّ «الأشرار» باتت ضرورية، قرّر مضاعفة الإنفاق الفدرالي على قوى حفظ النظام المحلية. التركيز على الجريمة دون سواها، وفرض «الأمن والنظام»، لم يكونا إلا جزءاً من رد الفعل على حركة الحقوق المدنية. لكن الجريمة لن تصبح جريمة، ما لم يجرِ توجيهها نحو هدفٍ محدّد: «الحرب على المخدرات».
بدأت حقبة «الحرب على المخدرات» حين قرّرت أميركا التعامل مع الإدمان كمشكلة جرمية، بدلاً من كونه مشكلة صحية، لينتهي الأمر بمئات الآلاف في السجون، بتهمة حيازة الماريوانا. حربُ نيكسون استدعت أن يصبح «الأمن والنظام» جزءاً لا يتجزّأ ممَّا سيصبح «الاستراتيجية الجنوبية». أقرّ جون أيرليشمان، مستشار جونسون للشؤون الداخلية، بأن الحرب على المخدرات هدفت إلى وضع السود في السجن. «حملة نيكسون لعام 1968 وفترته الرئاسية بعدها، كان لهما عدوان: اليساريون المناهضون للحرب والسود. كنّا نعلم أنه لا يمكن تجريم مناهضة الحرب أو السود. لكن بجعل الرأي العام يربط بين الوجوديين (Hippies) والماريوانا من جهة، والسود والهيروين من جهة ثانية، يمكننا إثارة الفوضى في مجتمعاتهم. ويمكننا اعتقال قادتهم ومداهمة منازلهم وإيقاف اجتماعاتهم، وشيطنتهم ليلة بعد أخرى في نشرات أخبار المساء. هل كنّا نعلم أننا نكذب في شأن المخدرات؟ بالطبع كنّا نعلم».
تبلغ نسبة الرجال السود 40.2% من السجناء في أميركا
بحلول عام 1980، بلغ تعداد السجناء 513,900. أحدث انتخاب رونالد ريغان (1981 – 1989) تغييراً جذرياً، من جوانب عديدة. وإذا كان نيكسون أوّل من سوّق لـ«الحرب على المخدرات»، فإن ريغان حوّل تلك الحرب الكلاميّة إلى حربٍ فعلية بعد عام من تولّيه منصبه. وفي ظلّ الصعوبات الاقتصادية التي كانت تواجه البلاد، شقّ الغزو طريقه في مجتمعات السود، وفكّك العائلات وفرّقها بعضها عن بعض، ليختفي جزء كبير منها في السجون، ولفترات طويلة جداً.
خصّص ريغان ملايين الدولارات للسجون ومراكز الاعتقالات، لتتحوّل فترته إلى حقبة «الحبس الجماعي»، و«الحرب على المخدرات» إلى حربٍ على مجتمعات السود والأميركيين اللاتينيين. حربٌ شرّدت أجيالاً، وبدأت تتحوّل إلى ما يشبه «الإبادة العرقية»، والتعبير للكاتبة وناشطة الحقوق المدنية، ميشيل ألكسندر. طُبّقت استراتيجية نيكسون الجنوبية مباشرة بعد حركة الحقوق المدنية، حين عزف على وتر الخوف مِن الجريمة والأمن والنظام، للفوز في الانتخابات. أما ريغان، فوعد بتخفيضات ضريبية للأثرياء، وبرمي جميع متعاطي الكراك الرخيص (أغلبهم من السود) في السجون، وهما أمران دمّرا مجتمعات ذوي البشرة الداكنة، لكنّهما كانا فعّالين في الحصول على أصوات الجنوب، بينما كان يتم تجاهل متعاطي الكوكايين، مخدّر الطبقة الثرية.
العنصرية مادة انتخابية: كلينتون يبني السجون
بين عامي 1985 و1990، ارتفع عدد السجناء من 759,100 إلى 1,179,200 سجين. بالنظر إلى الطريقة التي هزم فيها الديموقراطيون في الأعوام 1980، و1984، و1988، تولّد شعور بينهم بأن عليهم تبنّي موقف يميل أكثر إلى الوسط. أصبح من المستحيل أن يترشّح سياسي يعتمد موقفاً ضعيفاً إزاء الجريمة. وإن فعل، فلن يحظى بأفضلية بين الناخبين التوّاقين إلى المحاسبة، محاسبة «آخر» لا يشبههم. رغبة بيل كلينتون (1993 – 2001) الجارفة في مضاهاة أقرانه من المحافظين، جعلته يذهب بعيداً جداً. سعى إلى التعامل مع بلدٍ «لا يزال يعيش في حقبة ريغان عملياً»، كما يضعها المعلّق الإخباري فان جونز. تكرّرت المعزوفة ذاتها لدى التطرّق إلى الجريمة وما تمثّله من خطر على المجتمع الأميركي. في عهده، أُقرَّ قانون عرف بـ«قانون 3 جرائم وستسجن مدى الحياة» في كاليفورنيا (اعترف كلينتون، متأخراً جداً، بأنّ القانون كان خطأً)، أي في حالة إدانة شخص بارتكاب جريمته الثالثة، فإنه سيقضي بقية حياته في السحن. قانون أُلحق بآخر: «العقوبة الحقيقية»، ويفرض قضاء المجرمين 85% مِن محكوميتهم. ثم اقترح الكونغرس مشروع قانون فدرالياً حول الجريمة عام 1994 بقيمة 30 مليار دولار، موجّه خصوصاً نحو قيام قوات حفظ النظام بعمليات الاعتقال. مشروع قانون الجريمة الشاملة هذا، كان مسؤولاً عن توسُّع هائل في نظام السجون. فكلينتون لم يكتف بزيادة التمويل لبناء السجون، بل وضع 100 ألف شرطي في الشارع. ما فعله ريغان وقبله نيكسون، لا يُقارَن سوءاً بما فعله كلينتون، لأنّ الأخير شيّد البنية التحتية لما آلت إليه صناعة السجون، لترتفع أعداد المعتقلين – السود منهم خصوصاً – بشكل هائل، ويقفز تعداد السجناء في عام 2000 إلى 2,015,300، من بينهم 878,400 سجيناً من السود.
إمبراطورية «مجمع السجن الصناعي»
على مرّ التاريخ الأميركي، تمّت السيطرة على حياة السود عبر أنظمة سيطرة عرقية واجتماعية، بدا أحياناً أنها تتلاشى، قبل أن تعود وتظهر بأشكال مختلفة تتناسب مع احتياجات الزمن وضوابطه. بعد انهيار العبودية، خُلق نظام عُرف بـ«تأجير المُدان». شكلٌ جديد للعبودية انتهى، لتحلّ محلّه قوانين «جيم كرو»، التي انهارت بدورها بعد عقود ليتشكَّل نظام جديد ثانيةً في أميركا؛ نظام حبسٍ جماعيّ، جرّد ملايين السود من الحقوق التي يفترض أنهم حازوها، بموجب قوانين الحقوق المدنية. لكن الحبس الجماعي واكتظاظ السجون، يمكن التعامل معهما أحياناً كفرصة. ازدهرت صناعة السجون كثيراً، إلى درجةٍ أصبح من الصعب جداً لجمها؛ فهي، فضلاً عن كونها تدرّ أموالاً هائلة للقطاع الخاص ومِن ورائه الدولة، تكتسب دعماً قلّ نظيره مِن قِبَل مشرّعين ومتنفذين.
أعقب الحرب على المخدرات ووضع قوانين الجريمة الصارمة موضع التنفيذ، ظهور سجون القطاع الخاص، لمواكبة التزايد المطّرد في أعداد السجناء. تشكَّلت ظاهرة «مجمع السجون الصناعي» (PIC)، استناداً إلى إرث العبودية. ظاهرةٌ تحوّلت معها السجون إلى صناعة خاصة تحقّق أرباحاً طائلة، بفضل وفود مِن السجناء مُدَّت بها السجون، بعدما أمّنت قوانين الجريمة أعداد النزلاء اللازمة لشغلها. تمّ إنشاء سجون الشركات بتوقيع عقود مع حكومات الولايات، تتعهّد الأخيرة بموجبها بإبقاء أسرة السجن جميعها أو 90% منها مشغولة، أو أنها ستضطرّ إلى دفع المال للشركات، في حال «التقصير». «الكوتا»، أو الحدّ الأدنى لعدد أسرّة السجون المشغولة، أدّت إلى احتجاز ما يقرب من 2.3 مليون شخص (655 شخصاً من بين كل 100 ألف نسمة) بحلول نهاية عام 2016، وفقاً لتقرير صدر عام 2018 عن «مكتب إحصاءات العدالة» التابع لوزارة العدل الأميركية. هذا الرقم جعل الولايات المتحدة تتصدّر دول العالم من حيث عدد نزلاء السجون (25% من سجناء العالم) الذين يتوزعون على: 1,833 (سجون الولايات)، و110 سجون فيدرالية، و1,772 سجناً للأحداث، و3134 سجناً محلياً، و218 مركزاً لاحتجاز المهاجرين، و80 سجناً يديره الهنود، فضلاً عن السجون العسكرية، ومراكز الالتزام المدني، والمصحّات النفسية وسجون المستعمرات الأميركية. وفي بلدٍ تبلغ نسبة الرجال السود فيه 6.5% من إجمالي السكان، تبلغ نسبتهم 40.2% من السجناء الذين يقضي 14% منهم عقوبة السجن مدى الحياة، وهو رقم مرتفع جداً.
حتى عام 1979، كان محظوراً على القطاع الخاص العمل في السجون، لتجنُّب المنافسة. لكن إطلاق «برنامج شهادة تحسين صناعة السجون» (PIECP) و«مجلس التبادل التشريعي الأميركي» (أليك)، وقانون صناعة السجون في ذلك العام، ساهموا جميعاً في تنمية «مجمع السجون الصناعي». أجاز البرنامج الاتحادي نقل البضائع المُصنَّعة في السجون عبر خطوط إنتاج تابعة للدولة، بادّعاء أنه يسمح للسجناء، بكسب أجور السوق. وبين عامي 1980 و1994، قفزت أرباح صناعة السجون من 392 مليون دولار، إلى 1.31 مليار دولار. وارتفع إنفاق الدولة على السجون بين عامي 1984 و2000 بشكل كبير، بعدما زاد عدد السجناء بين عامي 1970 و2005، بنسبة 700%، وفق أرقام «اتحاد الحريات المدنية الأميركية»، حتى باتت الموازنة التي تنفقها الدولة على السجون، سنوياً، ما يقرب من 80 مليار دولار (أكثر من ما ينفق على التعليم)، وفقاً لتقرير صادر عن «مبادرة سياسة السجون» في 2019.
وصل عدد السجناء في نهاية 2016 إلى 2.3 مليون شخص، أو ربع سجناء العالم
أصبحت السجون الخاصة تجارة مربحة مع «سي سي إيه»، أوّل شركة سجون خاصة في أميركا، بدأت عملها عام 1983، بتوقيع عقود مع الولايات. ولحماية استثمارات شريكتها، تعهّدت الولايات بإبقاء السجون ممتلئة. في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، تفوّقت صناعة السجون على أيّ صناعة أخرى في تاريخ أميركا. كانت نموذجاً مضمون النجاح. تبيّن ذلك عبر دور «سي سي إيه» في «أليك»، لتمرير سلسلة مشاريع قوانين. غدت الشركة بفضل التشريعات التي عملت عليها «أليك» رائدة في مجال صناعة السجون الخاصة، فضلاً عن دورها في صياغة سياسة الجريمة في البلاد. تعتبر المؤسسات المالية، حالياً، من أكبر المستثمرين في السجون الخاصة، بما في ذلك «وِلز فارغو» Wells Fargo (تستثمر حوالى 6 ملايين دولار في «سي سي إيه»)، و«جنرال إلكتريك»، و«فيدلتي إنفستمنتس»، و«بنك أوف أميركا»، و«فانغارد غروب».
يشير «مجمع السجون الصناعي» إلى نظام الحبس الجماعي، والشركات التي تستفيد منه. من شركة «سيكيوراس تكنولوجيز» التي تزود خدمات هاتفية، والتي ربحت 114 مليون دولار في 2016، إلى «أيرامارك»، وهي من أكبر مورّدي خدمات الطعام (اتّهمت في أكثر من ولاية بوجود ديدان في الطعام الذي قدمته)، وليس انتهاءً بـ«كوايزون هيلث كير» التي تنال عقوداً بملايين الدولارات في 28 ولاية مختلفة. الشراكات بين صناعات الإصلاح والشركات الخاصة، جزء يزدهر بسرعة من صناعة تقدَّر بمليارات الدولارات في أميركا. يحدث هذا في المجالات كافة.؛ من صناعة ملابس الرياضة والأزياء الموحدة، إلى «مايكروسوفت» و«بوينغ». ويعتبر السجناء الفدراليون مساهمين رئيسيين في الصناعات العسكرية الأميركية، إذ يجري استغلالهم مقابل 23 سنتاً فقط في الساعة الواحدة، للمساهمة في صناعات كبرى شركات الأسلحة، مثل «رايثيون» و«لوكهيد مارتن»، إلى جانب صناعة نظم التوجيه لأنظمة صواريخ «باتريوت»، وتجميع الخوذ العسكرية، والإمدادات العسكرية الأخرى. استغلالٌ تغذّي أميركا من جرائه استعمارها الخارجي، عبر استعمار آخر، داخلي يجري في سجونها الممتدة على طول البلاد.
دور منظمة «أليك»
«أليك» أو ما يعرف بمنظمة «مجلس التبادل التشريعي الأميركي» هي مجموعة ضغط سياسية تشكَّلت عبر شراكة فريدة من نوعها بين المشرّعين الأميركيين وأصحاب الشركات ومجتمع الأعمال، للمساهمة في تنمية صناعة السجون، وإيجاد ما سيعرف بـ«مجمع السجون الصناعي». يتألف أعضاء «المنظمة غير الحزبية»، كما تعرّف نفسها، من حوالى ربع المشرّعين في كل ولاية، والمساهمين والسياسيين. تحت مظلّتها، وبفضل شراكاتها مع سجون القطاع الخاص وعلاقاتها مع المشرّعين، فرضت «أليك» قوانين كثيرة ساهمت في اكتظاظ السجون، وعمالة السجناء لاحقاً. وفي اجتماعات فريق عمل المنظمة، يصوّت أعضاء الشركات الضاغطة سِرّاً على مشاريع قوانين، شأنهم في ذلك شأن المشرّعين، الذين يسنّون القوانين في ما بعد.
يفيد كلّ مشروع قانون تقدِّمه «أليك» إحدى الشركات المموّلة، مثل: «إكسون موبيل»، و«تايم وارنر كيبل»، و«وولمارت»، و«ستايت فارم»، و«فيديكس»، و«شل»، و«ماكدونالدز»، و«كوكا كولا»، و«جونسون آند جونسون»… وغيرها الكثير. أفادت «وولمارت»، العضو القديم في المجلس، مثلاً، من إقرار قانون «دافع عن أرضك» (2005/ فلوريدا) والذي يمكن الشخص بموجبه الدفاع عن نفسه أو الآخرين إذا شعر بتهديد وشيك أو حتّى متخيّل، لكونه وفّر بيئة ازدهرت فيها مبيعات السلاح، حين كانت الشركة تعدُّ الأكبر في مجال بيع البنادق في أميركا، والرصاص بالتجزئة في العالم.
كل التشريعات، من قانون «3 جرائم» إلى «قوانين الحد الأدنى من الأحكام الإجبارية»، و«دافع عن أرضك»، إلى باقي القوانين التي تقدِّم تدفقاً ثابتاً من السجناء لدرّ أرباح ستكون من نصيب مالكي الأسهم، لعبت «أليك» دوراً في «إقناع» المشرّعين باعتمادها.
ترامب… عهد «الازدهار»
«أنا مرشح القانون والنظام… في أيام الماضي الجميل ما كان هذا ليحدث… كانوا يخرجونهم على نقالة… لا تأخذكم بهم رحمة»، يقول المرشح دونالد ترامب، في 2016، رداً على طرد محتجين سود ضد العنصرية من مهرجانه الانتخابي، جرى في أجواء استقطاب إثر تصاعد العنف بين الشرطة والسود في دالاس. «الماضي الجميل»، تلك إشارة إلى أيام الاضطهاد العنصري والممارسات التي كانت سائدة ضد السود، إبان التفرقة، أما «القانون والنظام» فهو علامة الاضطهاد الفارقة في المراحل اللاحقة بلبوس حفظ الأمن. صحيح أن الرئيس الأميركي لا يتحمّل مسؤولية المسألة العنصرية المعاصرة وتراكماتها، رغم خطابه العنصري الصريح في أكثر من محطّة، لكن دوره في «الاضطهاد المقنّع» أو «العبودية الحديثة» لا يقتصر على تبنّي الخطاب العنصري واللعب عليه وتغذيته وإشعال هذا الاحتقان بتصريحاته المستفزة، بل كان لديه دور عملي فاعل برز سريعاً منذ اللحظة الأولى لدخوله البيت الأبيض.
وقع تخادم متبادل بين ترامب الذي يؤيد خصخصة السجون، والشركات التي تقدّم خدمات للسجون. دعمت هذه الشركات ترامب في حملته الانتخابية بأموال طائلة، ووجدت في خطابه المعادي للمهاجرين والسود باباً مغرياً لزيادة الأرباح كلما ازداد السجناء. وبالفعل، فقد حفظ ترامب الجميل لهذه الشركات، ولوحظ سريعاً، عقب دخوله البيت الأبيض، كيف ازدادت عقود هذه الشركات ومثيلاتها، وازدهرت أعمالها، كما ازدهرت السجون الخاصة بشكل عام، بعد فترة من التراجع الطفيف. من هذه الشركات، شركتان كبيرتان تستحوذان على أكثر من نصف العقود لبناء السجون الخاصة وتوسيعها بعائدات بلغت في 2016 حوالى 3.5 مليارات دولار، وهما «كور سيفيك» Core Civic و«جي إي أو غروب» GEO Group. وتؤكد «مبادرة المساواة في العدالة» أنه حتى الشركات الصغيرة مثل «إل سي إس كوريكشيونال سيرفيسيز» LCS Correctional Services و«إيميرلاند كوريكشيونز» Emerald Corrections، تبرّعتا لحملة ترامب، وتتمتّعان بعقود لبناء العديد من السجون ومراكز الاعتقال في أنحاء متعددة من الولايات المتحدة.
يذكر أن باراك أوباما حاول التخفيف من دور السجون الخاصة، على وقع شكاوى من فضائحها الكثيرة، قبل أن يأتي ترامب ويعيد الازدهار لاستثمار السجون وتتوسّع بشكل أشمل مع ازدياد ملاحقة المهاجرين على الحدود.
خليل كوثراني، ملاك حمود: الأخبار