صار لدى «الإخونج» هوس حقيقي بكل ما يتعلق بالأتراك، وهذا الهوس موروث منذ التأسيس على يد حسن البنا، لكنه تضاعف مع وصول حزب «العدالة والتنمية» للسلطة في تركيا عام 2002، ومع مباركة القوى الغربية لقيام أنقرة بدور راعي مصالحها في المنطقة تحت لافتة «العثمانية الجديدة» التي بدأت فعلاً مع تورغوت أوزال، وهو الذي حكم أنقرة رئيس وزراء ثم رئيساً عشر سنوات بداية من 1983، وكان موالياً كلية للمصالح الغربية، وتبنى نهجاً صريحاً لخصخصة الاقتصاد وفتح الأبواب للاستثمار الغربي، وساند القتال ضد السوفييت في أفغانستان بتحريض أمريكي، ثم دعم تخريب وتفكيك يوغوسلافيا، ووقف عملياً في صف الحرب على العراق عام 1991، وفتح قاعدة الانجرليك أمام الجيش الأمريكي ليفرض حظراً جوياً في شمال العراق، ومهّد سياسياً لوصول حزب «العدالة والتنمية» للحكم.
الآن أصبحت اللغة التركية لدى الشخص «الإخونجي» أهم من اللغة العربية، وتاريخ الأتراك منذ أن كانوا قبائل في آسيا الوسطى أهم من عموم تاريخ الأقطار العربية، حتى الكذب لتلفيق تاريخ أسطوري موهوم لبعض القادة الترك صار «حلالاً وله ما يبرره»!، والمسلسلات والأفلام التي طالما حرّموها باستخدام النصوص الدينية، وسَخِروا من الفنانين المشتغلين فيها صارت محلّ ترحيب فقط لأنها تركيّة وتالياً تروّج للسياحة هناك من الباطن، وتمنح أنقرة قوة ناعمة، حتى الملامح الشكلية التي تميز أبناء الوطن العربي صارت مكروهة لديهم لمصلحة الملامح التركية، في ممارسة عنصرية صريحة!.
يمكنك أن تتابع الآن أي صفحة على «الفيس بوك» ستجد «الإخونج» متربصين ضد أي شخص يسيء إلى الأتراك، ولو بناء على مشاجرة حصلت بينه وبين تركي في خمّارة!
هذه شوفينية حقيقية، لكنها من درجة أكثر انحطاطاً وحقارة، لذا تمكن تسميتها «شوفينية العبيد».
فالشوفينية تعني أن يغالي ويتطرف الفرد في اعتزازه بأهله وقومه، ويتملكه الغرور، ويعادي مختلف الأمم، ويرفض التحالف مع أحد، ويطلب السيادة على الجميع، لكن «الإخونج» لا يمارسون التعصب والمغالاة لمصلحة أهلهم وقومهم ولغتهم وتاريخهم.. إلخ، إنما لمصلحة غيرهم كأنهم عبيد يدافعون عن غرور أسيادهم، فلا هم سلِموا من مرض الشوفينية، ولا هم تورطوا فيه كما يفترض له أن يكون!. وكما يقول رفيق عربي من تونس: «لنفترض- مجرد افتراض سجالي- أننا جارينا الإخونج في دعوتهم الأسطورية للخلافة، فهل يقبلون بأن يكون الخليفة عربياً، وأن يتسيّد على الأتراك، وأن تكون الأناضول محض ولاية تتبع عاصمة عربية؟!». ما يستحق هنا لفت الأنظار إليه أن هذا الانبطاح «الإخونجي» قد ضاعف من غرور قطاع «معتبر» من الأتراك، وجعلهم أكثر تعالياً وأنانية واستئساداً، وهذا منطقي فمن المستحيل أن يحترم الإنسان من هو ليس له بندّ، و«الإخونج» لا يريدون تحالفاً ببن العرب والأتراك، بل رضوخاً من العرب للأتراك، وهيمنة من أنقرة على الوطن العربي كله. لكن الغريب حقاً أن «الإخونج» كانوا قد أدمنوا لعقود- تحديداً منذ الخمسينيات فلاحقاً- بث دعاية تدور عن ذمّ اعتزاز العرب بعروبتهم، وعدّوا هذا الأمر «من بقايا الجاهلية»!، ولفّقوا ووظّفوا الموروث الديني لخدمة أغراضهم، ثم اكتشفنا أن هدفهم لم يكن سوى نفي ثقة العربي بذاته ليقبل هيمنة التركي أو غيره عليه.. وعلى أي حال لم يعد ثمة شك في أن هجوم «الإخونج» على العروبة في العقود الستة الأخيرة، كان بتحريض سياسي خارجي، ولم يكن بدافع أيديولوجي مجرّد، وأنهم طالما كذبوا على الناس طوال تلك العقود، وشوّشوا على السياق الذي تأتي فيه الدعوة للعروبة، وكان هدفهم أن يُسقطوا الفارق بين الاعتزاز بالانتماء القومي في سياقه التقدمي التضامني مع مختلف شعوب العالم المنهوب المقاوم، وبين التعصّب الشوفيني الهادف لقهر الأمم الأخرى وامتطاء ظهور أبنائها، وكذلك أن يُذوّبوا الفارق بين الدعوة القومية عندما تأتي في سياق التجميع ولمّ الشمل وحيازة القوة وتحقيق مكاسب أكبر للطبقات الشعبية، وبين تلك الدعوة عندما تأتي في سياق غرضه التفتيت والتمزيق والإضعاف ولمصلحة هيمنة قوى أجنبية غربية ناهبة.
*كاتب من مصر