يقول قاموس المعاني باللغة العربية إن (عجقة) “كلمة عامية تعني ازدحام واختلاط وتداخل مع ضجيج وعدم وضوح” وهذا هو الحال في قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتر مربع أي ما نسبته 1.33% فقط من مساحة فلسطين، وتعتبر مدينة غزة أكبر مدن القطاع وثاني أكبر مدن فلسطين بعد مدينة القدس حيث تُذكر غزة في أقدم الوثائق التاريخية الفرعونية التي تعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام، وقد جاء في أحد الكتب الدينية اليهودية وهو “سفر الملوك الأول” الذي يعود لعهد سليمان كما يزعم الصهاينة: إن حدود مملكة اليهود تنتهي عند حدود مدينة غزة التي لم تدخل أبداً ضمن مملكة اليهود، وظلت بعد ذلك ملكاً للفلسطينيين (الملوك الأول 24:4) ومنذ ذلك التاريخ وغزة ملعونة عند اليهود.
قطاع غزة تلك المنطقة الصغيرة من جنوب فلسطين الفقير بموارده الطبيعية، يشهد عجقة واختلاط وعدم وضوح في كل شيء ليس فقط في عدد سكانه الذي يتجاوز 2 مليون نسمة بل في كل مناحي الحياة، حتى لم يعد في الإمكان تصنيفه إن كان مدينة أو قرية أو مخيم كبير، وما إن كان محررا أم خاضعا للاحتلال؟ وما إن كان جزءاً من أراضي السلطة الفلسطينية ودولة فلسطين أم مستقلا بذاته وخاضع لسلطة حماس؟ وهل ما زال محاصرا أم تم تفكيك الحصار بعد فتح حدود مصر ومعبر إيرز وتدفق العمال على إسرائيل؟ وما إن كان مجتمعه فلاحي أم صناعي أم خدماتي أو ارتزاقي يعيش على المنح والمساعدات الخارجية؟ وما إن كان ساحة حرب ومواجهة مع الاحتلال أم تجاوز مرحلة الحرب والصراع بعد توقيع الهدنة مع إسرائيل؟
عجقة غزة تتجاوز الجغرافيا والديمغرافيا إلى عجقة سياسية، في غزة عجقة في السلاح والصواريخ والأنفاق، وعجقة في الأحزاب والفصائل من وطنية وإسلامية، مسلحة وغير مسلحة، معتدلة ومتطرفة، في غزة تشتغل كل الأجندات العربية والإقليمية والدولية، إسرائيل وأمريكا والأوروبيون ووكالة الغوث وإيران وقطر وتركيا ومصر والأردن وكل من له مشروع سياسي يحاول تمريره باستغلال الفضية الفلسطينية وفقر وبؤس أهالي غزة وغياب مرجعية وطنية ذات سلطة سيادية.
في غزة عجقة الجهات المانحة والمال السياسي دون حسيب أو رقيب، في غزة فقر مدقع يتعايش مع غنى فاحش لأغنياء السلطة الحاكمة وأغنياء المقاومة والجهاد وأغنياء الانقسام. في غزة وطنية متأصلة واستعداد للنضال والاستشهاد في سبيل الله والوطن ولا تخلو عائلة من وجع فقدان شهيد أو أسير أو معاناة جريح وفيها أيضا جواسيس وعملاء ومرتزقة وبلطجية. في غزة ينتشر كل ما يخطر على بال من مواد مخدرة وبضائع مهربة وبضائع غسيل الأموال. في غزة فيلات بالحجر القدسي مزودة بمسابح لا تنقطع عنها المياه أو الكهرباء وفنادق وشاليهات وشواطئ مخصصة لطبقة معينة من الناس تتحاور مع بيوت من الصفيح بدون ماء وكهرباء ، في غزة عجقة مطاعم وكافيهات ومواصلات ووسائل نقل حيث يتزاحم ويتلاطم في شوارعها الضيقة المارة مع عربات الكارو والموتسكلات وسيارات الشحن وسيارات توزيع المياه وسيارات الأجرة من كل الأعمار والأجيال وقطعان الأغنام والكلاب الشاردة، مع سيارات فارهة يتجاوز ثمن بعضها 100 ألف دولار وقد لا تجد مثيلاً لها في البلدان المجاورة.
في غزة مياه شرب ومياه بحر ملوثة وهواء ملوث وبضائع فاسدة وأفكار مشوهة وسلوكيات غير حضارية وبعيدة كل البعد عن قيم وثقافة الثورة والنضال وعن قيم المجتمع الفلسطيني التي طالما افتخرنا بها وكانت محل احترام كل العالم.
في غزة عجقة عاطلين عن العمل المتزاحمين للسفر عبر معبر رفح أو للتسجيل في الشؤون المدنية ووزارة عمل حماس للعمل في إسرائيل، أو التسجيل للحصول على فيزا لتركيا أو فرصة لركوب سفن الموت سعيا لجنة متوهمة في أوروبا. في غزة عجقة وتداخل بين سلاح العائلات وسلاح البلطجية وسلاح الفصائل.
في غزة عجقة أفكار وثقافات وأيديولوجيات وانتماءات عشائرية ومناطقية حتى بالكاد أن تتعرف على هويتها الوطنية الجامعة. في غزة عجقة جوامع تحمل أسماء صحابة أو أسماء من بناها بماله الخاص ولا يهم إن كان مال حلال أو حرام. في غزة عجقة مدارس حكومية ومدارس وكالة ومدارس خاصة وعجقة جامعات ومعاهد لا تتناسب المخرجات التعليمية والتربوية مع ما هو مخطط ومأمول من النظام التعليمي وأهدافه. في غزة عجقة كهرباء حيث يتعايش الناس مع نظام 8 ساعات كهرباء و8 بدونها ووسط كل ذلك عجقة مولدات الكهرباء من كل نوع: كهرباء البلدية وكهرباء شركات خاصة ومولدات خاصة بقدرات مختلفة مع كل أنواع الكشافات واللدات حتى بات الغزيون متخصصون بشؤون الكهرباء.
في غزة عجقة اذاعات وقنوات فضائية ووكالات أنباء ومكاتب إعلامية ومراسلون وصحفيون ومحللون سياسيون وامنيون واستراتيجيون وعجقة شيوخ ورجال (دين) يفتون في كل شيء وإن جادلتهم عليك أن تستسلم لغوغائيتهم وديماغوجيتهم وتنسحب بهدوء، حتى يجوز القول بأن كل غزي صغيرا أو كبيرا جاهلا أو متعلما يرى نفسه سياسيا منذ مولده ومفتيا دينيا تمتد جذوره للصحابة وأبن تيمية والطبري وأبن حنبل.
في قطاع غزة عجقة مؤسسات مجتمع مدني/أهلي حيث يتجاوز عددها رسميا الألف مركز، فلا يخلو شارع من مؤسسة أو جمعية أو مركز دراسات أو منظمة حقوقية أو مؤسسة تحفيظ القرآن أو مركز ثقافي أو مؤسسة نسوية أو متخصصة بالديمقراطية والتنمية أو للمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة الخ، وأغلبها أبعد ما يكون عن المجتمع المدني الحقيقي حيث تيتمي كثير من هذه المؤسسات لأحزاب سياسية أو ممولة خارجيا لتنفيذ أجندة الجهات المانحة، بالإضافة إلى أن المخرجات، وهو حال المجتمع على كافة المستويات، لا تتناسب البتة مع ما يتلقاه المجتمع المدني من أموال خارجية دون حسيب أو رقيب ومع الهدف الذي وجدت من أجله.
عجقة غزة باتت قاتلة للحياة والكرامة والهوية الوطنية، وطاردة لعقولها حيث الآلاف من الكفاءات العلمية بكل التخصصات هاجرت من غزة، وطاردة لشبابها حيث التقديرات بأن خوالي ثلاثمائة ألف هاجروا من القطاع في ظل سلطة حماس بعد أن كان القطاع جاذب للكفاءات ولرؤوس الأموال، مما أدى لشويه البنية الاجتماعية/ الاقتصادية وكادت تتلاشى الطبقة الوسطي التي دائما يتم التعويل عليها لنهضة المجتمع وتطوره وتأسيس دولة المواطنة والديمقراطية.
من الصعب أن تعرف كيف يتدبر الناس أمور حياتهم اليومية وكيف تستمر الحياة والأخطر من ذلك لا أحد يستطيع التكهن بمستقبل القطاع وسط عجقة الشعارات الديماغوجية التي تعد الناس بجنة موعودة سماوية أو أرضية، وأنهي بقصة أقرب للنكتة قالها لي صديق ليبي في الثمانينات أثناء إحدى زياراتي لطرابلس حيث قال بأن صحفي إيطالي حضر لليبيا لعمل تقرير حول ليبيا في الوقت الذي ألغى فيه القذافي الوزارات والسجون وكل ما هو رسمي، ثم انقطعت أخبار هذا الصحفي وبعد طول بحث وجدوه أمام مسجد بلباس رث وقد أطلق لحيته ويحمل مسبحة كبيرة وعندما سألوه عما جرى له قال: كنت ملحدا وعندما جئت لليبيا ورأيت كيف تسير الأمور أمنت بوجود الله لأنه لا يمكن للحياة أن تستمر في ليبيا إلا بقدرة قادر. وفي غزة صحيح أن كل شيء بإرادة الله ولكن غزة تسير بإرادة الجهات الخارجية التي تريد لغزة هذا المصير المأساوي وتدفع بها نحو المجهول.
ومع ذلك وكلما غادرت القطاع لأسبوع أو اثنين إلا شعرت بالحنين للعودة للقطاع لأنه مسقط الرأس ولأنه في غزة فقط تشعر أنك في جزء من أرض الوطن.
Ibrahemibrach1@gmail.com