بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي |
وكأن قدرنا نحن الفلسطينيين مع الرابع عشر من مايو/آيار باقٍ أبداً، ملتصقٌ بنا سرمداً، ولن ينفك عنا حتماً، ولن يغادر ذاكرتنا ولن يبرح تاريخنا، وسيترك آثاره في أجيالنا ولن يغيب عن مستقبلنا، بل سيبقى مرتبطاً بنا، يرافقنا في قضيتنا ويلون بالدم مسيرتنا، ويميز بالأسى أيامنا، ويبتلي بالمصائب صبرنا، ويمتحن بالنكبات إيماننا، ولن ينساه الفلسطينيون يوماً، ولن تطويه الأيام أبداً.
إذ سيبقى هذا اليوم في حياتنا موسوماً بالدم، ومقروناً بالألم، ومصحوباً بالمعاناة والفقد والحزن، وكلما بهت لون الدم عادت صبغته القانية من جديد، وكلما جف تدفق من الشرايين غزيراً، وجاد به الشبان والشيوخ والرجال، كما النساء والأطفال، في كل السوح والميادين، وفي كل الجبهات والمناسبات، في المقاومة والرباط، وفي المواجهة والاشتباك، كل يقدم ما عنده، ويضحي بما يملك، ما جعل هذا اليوم باقياً فينا، مغروساً في أعماقنا، ومسكوناً في ذاكرتنا، يستدعي من ثناياه كل الآلام والمآسي، والأوجاع والأحزان.
يوم الرابع عشر من مايو/آيار علامةٌ على مآسينا، وشاهدٌ على نكبتنا، ودليلٌ على عجزنا، وهو سبةٌ في جبيننا، وصفحةٌ سوداء في تاريخنا، ولعنةٌ ستبقى تطاردنا، فهو اليوم الذي ضاعت فيه فلسطين، وخسر فيه العرب والمسلمون درة أوطانهم، وعروس بلادهم، وأرض أنبائهم، وموطن رسلهم، وفيه طرد مئات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم وديارهم، وأخرجوا بالقوة من أوطانهم، وجعلوهم في شتات الأرض لاجئين لا وطن لهم، وسكت العالم عن ظلم الوافدين اليهود إلى بلادنا، بل سهلوا لهم الاستيطان في أرضنا، والاستيلاء على حقوقنا والسيطرة على مقدراتنا، حتى كان لهم في هذا اليوم على أرضنا في فلسطين، دولةً أسموها إسرائيل، عاثت في أرضنا فساداً، وصنعت فيها لها كياناً يقوى ويتمدد.
لكن في يوم الرابع عشر من مايو/آيار بعد سبعين يوماً على النكبة، انبرى الفلسطينيون في قطاع غزة، وجلهم من اللاجئين المطرودين من أرضهم، وهم عشرات الآلاف من الشبان والرجال والنساء والولدان، يحملون أرواحهم على أكفهم، ويعرفون أن بعضهم لن يعود إلى بيته إلا شهيداً محمولاً على الأكتاف، أو جريحاً فوق أسرة المستشفيات، ورغم ذلك فقد تدافع الفلسطينيون وانتشروا، وعلى امتداد السياج الفاصل توزعت مجموعاتهم، التي حملت معها سلاح الأمل والرجاء، والثقة واليقين، بأنهم سيجتازون السياج، وسينتزعون الأسلاك، وسيدخلون بلادهم من جديدٍ، رغم أن أغلبهم ولد لاجئاً، وعاش محروماً من بلدته، ولم يتسن له زيارتها أو التعرف عليها، ورغم ذلك فإن حنينهم إليها يزداد، وشوقهم لزيارتها يكبر، ويقينهم باستعادتها وتحريرها من دنس الاحتلال يتعاظم.
رسالةُ الفلسطينيين في قطاع غزة، ومعهم جموع الفلسطينيين جميعاً في الوطن كله وفي الشتات بأجمعه، رسالةٌ واضحةٌ صريحةٌ ومباشرة، رسالةٌ كتبوها بالدم، وسطروها بالمعاناة، وخطوا حروفها بالألم، وأرسلوها إلى العالم كله بأرواحهم، وحملها إلى الكون خيرة شبانهم، وزهرة أبنائهم، من فتيانهم وفتياتهم، وجعلوا لرسالتهم عناوين عديدة، أودعوها صناديق بريدهم ليفتحوها رغماً أنهم، ويعيدوا قراءتها من جديدٍ، ليدركوا المعاني الحقيقية التي قصدها الفلسطينيون بوضوحٍ فيها، وهي رسالةٌ موجهةٌ إلى الفلسطينيين والعرب وإلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة للكيان والمتحالفة معه، وهي في الوقت نفسه رسالة إلى العدو الإسرائيلي نفسه، إذ أنه أكثر المقصودين بها، ولعله أولهم وأكثرهم فهماً لها.
قال الفلسطينيون بدمائهم وخطوا بأرواحهم للعالم أجمع أنهم مصرون على العودة، وأنهم لن يتنازلوا عن حقوقهم في أرضهم ووطنهم، وأن أحداً لن يقوَ على منعهم أو حرمانهم من حقهم المشروع، ولن يفت في عضدهم أو يوهن عزيمتهم ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية من محاولات شطب حق العودة، وإلغاء مؤسسة الأونروا تمهيداً لتفكيها وشطبها، فالحصار والتجويع والحرمان لن يجبر الفلسطينيين على الخضوع والاستسلام، ولن يمنعهم من المطالبة بتحرير وطنهم واستعادة حقوقهم.
ويقول الفلسطينيون بصوت الدم الهادر وبلونه القاني الثائر، أن ما يسمى بصفقة القرن ليست إلا وهماً، وأنها لن تمر ولن تفرض، ولن يجبر الفلسطينيين عليها أحد، وأن ما قام به الرئيس الأمريكي ترامب لن يغير من الحقائق شيئاً، ولن يشطب الحقوق المشروعة، ولن يلغي حق العرب والمسلمين في قدسهم عاصمةً أبديةً موحدة لفلسطين، فنقل السفارة الأمريكية إلى القدس لن تعطي الكيان الصهيوني شرعية الوجود ولا سرمدية البقاء، ولن تطيل في عمره أو تؤخر في زواله، ولن تمنحهم شهادة براءة ولا صك غفران عما ارتكبت من مجازر ومذابح بحق الشعب الفلسطيني، ولن تدفع الفلسطينيين ومعهم الشعوب العربية والإسلامية إلى الاعتراف بهرطقاته وسخافاته، فالقدس مدينة عربية خالصة، وهي عاصمة فلسطين الأبدية والتاريخية.
وقال الفلسطينيون في قطاع غزة ودماؤهم الحارة تنعب من جراحهم، وتتدفق من شرايينهم، وشبابهم يندفع نحو الشهادة بشغف، ويتطلع للمواجهة بشجاعةٍ لا خوف فيها، أنهم يرفضون الحصار، ويصرون على إنهائه وإزالة كل المعوقات من أمامه، وأنهم لن يقبلوا من عدوٍ حصاراً ولا من صديقٍ تضييقاً أو عقاباً، وأنه لا تنازل عن حقهم في فتح كل بوابات القطاع ومعابره، وألا تخضع لاستنسابية الأمن والسياسة، ولا لحسابات الإرهاب وجماعات العنف والتطرف، إذ من حق سكان قطاع غزة ألا يجوعوا ويعروا، وألا يحرموا ويمنعوا، وألا يحبسوا ويحاصروا، وألا يعاقبوا ويهانوا.
إنها رسائل الثائرين وكلمات المقاومين، تصدح من عمق غزة ومن قلب المقاومة، صريحةً مدوية، واضحةً قويةً، وعلى العالم كله أن يسمعها وأن يصغي إليها، وألا يستهين بها أو يستخف بأصحابها، وألا يخذلهم ويتخلى عنهم، فهذا شعبٌ يضحي رجاله ليعيش أهله، ويقتل أبناؤه في سبيل الحرية والكرامة، وحق لمن يدفع دمه ثمناً لكرامته أن يعيش عزيزاً، ولمن بذل روحه أن تتسامى قامات شعبه، وتشمخ إرادتهم وتنتصب قامتهم عزةً وكرامةً، وكبرياءً وشهامة.