قوبل إعلان دونالد ترامب عن الاتفاق على علاقات دبلوماسية ورحلات جوّية مباشرة بين
إسرائيلوالمغرب بالترحيب وبالبهجة وبالشعور بالنصر في صفوف الجمهور الإسرائيلي، ونخبه السياسية والإعلامية والثقافية.في المقابل أحس الشارع الفلسطيني بالخسارة وبالحسرة على تآكل التضامن العربي مع فلسطين، بعد أن سقطت دول عربية الواحدة تلو الأخرى في مهاوي التطبيع مع الاحتلال. وجاءت هذه الخطوة هدية
لإسرائيلوسياساتها التوسّعية العدوانية، وضربة لفلسطين وطموحاتها وحقوقها المشروعة.
هذا التطوّر ليس مكسبًا لإسرائيل والولايات المتحدة فحسب، بل له أبعاد سياسية داخلية في البلدين. ويسعى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته إلى ترك بصمات سياسية إضافية، فيما تبقى له من وقت في البيت الأبيض، ووجد أن «الإنجازات» الوحيدة في الدبلوماسية الخارجية، التي بقيت ممكنة، هي في جرّ دول عربية إضافية إلى التطبيع مع إسرائيل.
وسطّر ترامب، في أيامه الرئاسية الأخيرة، إنجازات في سجل تراثه السياسي، حيث أن ربط الرباط بتل أبيب، بعد أبو ظبي والخرطوم والمنامة، يعتبره رصيدًا له في معركته المقبلة للترشّح في انتخابات 2024. أمّا بنيامين نتنياهو فقد ظهر «بهمّة العرب» قائدًا سياسيًا قادرًا على فعل ما اعتبر مستحيلًا قبل أشهر، حيث أدخل أربع دول عربية إلى حظيرة التطبيع، بدون أن يقدّم أي «تنازل» عن الأرض أو على الأرض. وجاء التطبيع مع المغرب تحديدًا هدية ثمينة لنتنياهو، لأنّه يقوّي دعم الإسرائيليين من أصول مغربية لحزب الليكود، الذي يرأسه، خاصّة في ظل الأزمات التي تعصف به وبحكومته.
لقد حلم الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، في السنوات الأخيرة لاستغلال شعبية المغرب وملك المغرب في صفوف اليهود الإسرائيليين المغاربة، لدعم القضية الفلسطينية، وشُكّل طاقم فلسطيني خاص للعمل على عقد مؤتمر كبير لهم برعاية الملك، لدعم سلام «إسرائيلي ـ فلسطيني» يستند إلى حل الدولتين، أملًا بأن تؤدّي مثل هذه الخطوة إلى تغييرات سياسية في إسرائيل لصالح هذا الحل. لقد بنيت هذه الخطّة على الكثير من السذاجة والأوهام وفشلت قبل أن تبدأ. ويدعم اليهود المغاربة، بغالبيتهم الساحقة، حزبي الليكود وشاس اليمينيين، وكان لهم وزن مهم في صعود بيغين إلى الحكم عام 1977. تعود هذه النزعة اليمينية إلى أسباب عميقة مرتبطة بمكانتهم في الدولة العبرية، وردّة فعلهم الثقافية والسياسية على محاولات صهرهم في الهوية الأشكنازية، التي حملها حزب العمل. ولا يعود دعم اليهود المغاربة لليمين الإسرائيلي إلى حمل ثقافي أو سياسي جاؤوا به من المغرب، بل هو وليد تفاعلات سياسية واجتماعية وثقافية في إسرائيل. ولن يتغيّر هذا التوجه إلا عبر تحولات عميقة في المجتمع الإسرائيلي نفسه. ومن السذاجة الاعتقاد بأن التطبيع العربي سيؤدّي إلى تليين قلوب الإسرائيليين تجاه العرب، وإلى إضعاف النزعات العنصرية، أو إضفاء الاعتدال على مواقفهم السياسية، بكل ما يتعلّق بقضية فلسطين. ما بدأ يحدث ويتطوّر هو أمر مختلف تمامًا، حيث يجري في إسرائيل تقسيم العرب إلى عربين: عرب جيّدون «معنا» وعرب سيئون ضدّنا. وهذا ليس جديدا، فقد صرّح شمعون بيريس، خلال الحرب الثانية على لبنان، بأنّ إسرائيل ليست ضد العالم العربي، متبجحًا بأن العرب معسكرين، معسكر قوى الاعتدال في العالم العربي، ويقف إلى جانب إسرائيل والاثنين معًا ضد معسكر قوى التطرف. ومع التطبيع تزداد الغطرسة الإسرائيلية، حيث يرتفع منسوب الغرور في النفسية السياسية الإسرائيلية، بادعاء أن العناد على الموقف الصهيوني «الحازم» سيدفع العرب إلى اليأس من تغييره وفي نهاية المطاف إلى الرضوخ والقبول بالمصالحة معه.
السياق السياسي لالتحاق المغرب بركب التطبيع هو اتباع سياسة الابتعاد والتراجع في العلاقات مع العالم العربي، سوى السعودية، وتفضيل العلاقات الافريقية والدولية لتحقيق مصالح، يعتقد النظام المغربي، أن العرب قليلو الفائدة فيها، وبالأخص مسألة التنمية الاقتصادية، وقضية الصحراء الغربية. وإنصافًا للحقيقة يجب الإشارة إلى أن المغرب، كدولة، وقع هو أيضًا ضحية لانهيار النظام العربي وتفكك أواصر اللحمة السياسية، في ظل تعزيز هيمنة قوى الثورة المضادة، وترسيخ سياسات الاستبداد، وتعميق التبعية للولايات المتحدة ومعها إسرائيل، إضافة إلى الترويج لفكرة «لتبحث كل دولة عن مصالحها». وعليه يجري تسويق ما يسمّى السلام الإبراهيمي بأنّه يستند إلى مصالح الدول، وإلى مبدأ القرب بين اليهودية والإسلام، الذي له جذور عميقة في المغرب تحديدًا، في تجاهل تام بأن مشكلتنا ليست مع اليهودية، بل مع الصهيونية، وكما قال الشاعر اللبناني وديع البستاني في «ديوان الفلسطينيات» «أجل عابر الأردن كان ابن عمنا ولكننا نرتاب من عابر البحر». وهكذا عبّر البستاني بوضوح عن الفرق بين اليهود والصهاينة، وعلينا أن نحذر من الرضوخ للصهيونية والتغطية على ذلك بادعاء الانفتاح المتسامح على اليهود واليهودية.
السياق السياسي الحالي لا يفسّر التطبيع المغربي، الذي له جذور تاريخية ممتدة منذ الخمسينيات، حين خطت العلاقات المخابراتية بين النظامين الإسرائيلي والمغربي خطواتها الأولى، وبدأ التعاون في تهجير يهود المغرب إلى إسرائيل. تواصل التعاون الأمني بين البلدين في الستينيات، وتبعته، في السبعينيات، محاولات مغربية عديدة للتوسط بين الفلسطينيين وإسرائيل، وكان المغرب وسيطًا للاتصالات الإسرائيلية المصرية عشية زيارة السادات لإسرائيل، واستضاف لقاءات التمهيد للمفاوضات المصرية الإسرائيلية، بين موشيه ديان والدكتور حسن التهامي المبعوث الخاص للرئيس أنور السادات. وبعد اتفاقيات أوسلو جرى إخراج هذه العلاقات إلى العلن، وأقيمت مكاتب اتصال دبلوماسية في الرباط وتل أبيب، وفتح المجال لزيارات إسرائيليين إلى المغرب. وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 جرى تجميد العلاقات الرسمية، وعادت مرة أخرى إلى غير رسمية وبالسر. لقد تواترت الاتصالات المغربية الإسرائيلية، بلا انقطاع، على مدى ستين عامًا مضت، وكانت لها أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية متشعّبة. ولم يأت قرار التطبيع المغربي من فراغ، بل هو استمرار لتلك العلاقات، وقضية الصحراء ليست السبب الحاسم، بدليل أن العلاقات كانت قائمة بلا ذكر للمسألة الصحراوية.
طفت علاقة المخابرات الإسرائيلية في المغرب على السطح، لأول مرة، بعد اغتيال، أحد أهم قادة حركة التحرر في الوطن العربي، المعارض اليساري المهدي بن بركة، واختفاء جثته عام 1965. ونشرت، حينها، مجلة المجلة الإسرائيلية الصفراء «بول» تقريرًا عن تورّط الموساد في عملية الاختطاف، وإخفاء الجثة، تعرض أثره محررو المجلة إلى الاعتقال والمحاكمة السرية والسجن، بتهمة الإضرار بما يسمى «أمن الدولة». ونشرت في السنوات الأخيرة تفاصيل كثيرة عن دور الموساد في قضية بن بركة، ومساهمته في اكتشاف مكان اختبائه، وفي جلبه إلى فرنسا واختطافه والتخلّص من جثته، عبر تذويبها بمواد كيماوية، كما جرى التعامل مع جثة المعارض السعودي جمال خاشقجي، وإذ ساد اعتقاد بأن إسرائيل ساعدت في التخلص من بن بركة، مقابل تسهيل تهجير يهود المغرب إلى إسرائيل، فإن وثائق إسرائيلية تنشر مؤخّرًا تكشف عمق التدخل الإسرائيلي في الدول العربية لصالح القوى المحافظة المعادية للناصرية، استنادًا إلى أن التحرر العربي هو خطر على ما يسمّى الأمن القومي الإسرائيلي.
لعل من أهم أبعاد التطبيع العربي مع إسرائيل هو «التعاون» في مجالات الأمن والمخابرات والتجسس على المعارضين والخصوم، وحتى على كافة المواطنين. ومن أبعاده ايضًا محاربة التيارات السياسية المعادية للصهيونية وإسرائيل، فقد تعاونت إسرائيل مع قوى كثيرة في السودان والمغرب ولبنان والعراق وغيرها لمحاربة المد القومي العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتعاون «الجديد» يهدف إلى محاربة كل من قد يهدد امن إسرائيل من جهة، وإلى عزل وتحجيم كل من يرفض الهيمنة الإسرائيلية والأمريكية. إسرائيل، بطبيعة الحال، تتحرك تبعًا لمصالحها، وليست مستعدة لأن تقدم خدمات مجانية لأحد، حتى لو كان حليفها، وعلى الدول المطبّعة أن تدرك أنّها تساهم في هدم البيت العربي، ولن تجد عند الضيق مأوًى في البيت الإسرائيلي، وما يسمّى «المصالح المشتركة» مع إسرائيل هي أوهام أنظمة مفلسة تخاف من شعوبها، وتستند إلى شرعيّة ودعم من الخارج. لن يستطيع أي تطبيع مع إسرائيل أن يمحو أو يغيّر مكانة القدس وفلسطين في وجدان وضمير الشعب المغربي. وتعود العلاقة المباشرة مع فلسطين إلى مشاركة جنود مغاربة في جيش صلاح الدين، الذي حرر القدس، وبعد أن عادت غالبية الجنود إلى بلادهم في أرجاء العالم العربي والإسلامي، أصر صلاح الدين على بقاء المغاربة في القدس، وأمر بإقامة حي المغاربة في المدينة قائلًا: «أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة». إن ارتباط الشعب المغربي بفلسطين والقدس هو ارتباط تاريخي عميق، تعزّزه مواقف ثابتة لقوى وأحزاب يسارية وإسلامية وقومية تحارب التطبيع وتنتصر لقضية فلسطين، التي تعود إلى مربعها الأول بالرهان على الشعوب لا على الأنظمة، التي تتبع سياسة حماية استبدادها عبر التطبيع.