صحيح – ولو اعتبارا جغرافيا – أن افريقية هي أساسا تونس والجزائر وقسم من المغرب، قد اعتنقت قبائلها البربرية قديما المذهب المالكي، وتمسّكوا به من تلقاء أنفسهم، قناعة منهم أنه الأصلح والأصحّ بالإتباع، علما وأنّ مالك بن أنس عاش ما بين (93/179 هـ) ولم ينتقل إلى إفريقية أبدا – حتى نقول أنّه اجتهاد شخصيّ منه- بل لم يخرج من المدينة يثرب تقريبا إلا إلى الحج، أو بطلب من الخليفة العبّاسي إلى بغداد، الذي أمره بأن يكتب كتاب فقه يواطئ عليه الناس، فامتثل ملك للمنصور العباسي، وكتب كتابا سماه الموطأ (1) مع أنّ المذهب المالكي لم يكن وحده على الساحة الإسلامية أوائل زمن العباسيين، فقد كانت المدينة – وهي منبع الإسلام رواية وفقها وكلاما – تزخر بمئات الفقهاء والحفاظ، الذين كانوا في مرتبة شيوخ مالك، بل لقد كان أساتذتهم من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مقدّمين على الجميع مكانة وشرفا وعلما، مقصد تقاة الأمّة وطلاب علوم الإسلام، الغير ملوّثة بهوى السلطان، كالإمامين محمد بن علي الملقّب بباقر العلوم(2)، وابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام(3)، عنهما أخذوا معالم دينهم، ولم يتفسّحوا في مجالس علم الشيوخ الآخرين، إلّا من بعد ورودهم على مجلسيهما العامّ في المسجد النبويّ، والخاص في بيتهما بيت الصّفوة الطاهرة عليهم السلام.
لم تكن تلك المكانة العلمية المرموقة التي أثبتها أئمة أهل البيت عليهم السلام، لتروق للأمويين والعباسيين، فكلاهما كان خلفاؤهما يعتبرونهم خصماء وغرماء لهم، فلم يتردّدوا يوما في أذيّتهم ومحاربتهم ومحاصرتهم وتحذير رعاياهم منهم، بل لقد أصدروا أحكاما قاسية على من اتخذهم قدوة، وكثبت عليه أنه مواليا لهم، يكفي أن نُلقي نظرة على كتاب الشيعة والحاكمون(4)، لتقف على مدى تسلّط وظلم خلفاء الدولتين بحق الإثنين معا، الأئمة الهداة وأتباعهم، لذلك لم يكن من السهل على القادم إلى يثرب للتفقه في الدين من تلقاء نفسه، سلك طريق البيت النبوي، مع وجود عيون الوشاة وجلاوزة العباسيين، حتى خلال فترة السماح التي أعقبت سقوط الدولة الأموية، ورأى فيها الغاصبون الجدد للحكم، طريقا لطمأنة الناس، بأنهم سيُطلقون الحريات، ويحكمون بالعدل، باسم أهل البيت عليهم السلام، خلاف ما جناه الأمويون، كلن هيهات أن يفعلوا ذلك، وفاقد الشّيء لا يعطيه.
ليس من الأمانة العلمية في شيء، أن يتغاضى البحاثة عند دراستهم لظهور الإسلام في افريقية، عن عامل مهمّ كان سببا رئيسيا في انتشار مذاهب معينة على حساب أخرى، بواسطة السلطان وأساليبه المخادعة، بإرغام أتباعه على اعتناقها، ترغيبا لهم في نيل جوائزه وحوز رضاه، ولم تخرج بعثة طلبة علم في قافلة قصد الحجاز، التي يرسلونها كل سنة لتلقي الفقه والرواية من شيوخ زكّاهم العبّاسيون، إلا بترتيب من السلطان نفسه، لسد شغور في وظيفة الوزارة أو القضاء أو التعليم في مسجدي القيروان والزيتونة، ولم يأتي فقه أبي حنيفة ولا فقه مالك ولا آراء المعتزلة إلا من هذا الباب.
قال ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان، مذهب أبي حنيفة ، فإنّه لمّا وُلّيَ القضاء أبو يوسف ( صاحب أبي حنيفة) كانت القضاة من قِبَلِهِ، من أقصى المشرق، إلى أقصى عملِ إفريقية، فكان لا يولّي إلّا أصحابه، والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا في الأندلس، فإنّ يحي بن يحي كان مكينا عند السلطان، مقبول القول في القضاة، وكان لا يولّي قاض في اقطار الأندلس إلّا بمشورته واختياره، ولا يشير إلّا بأصحابه، ومن كان على مذهبه – والناس سرّاع إلى الدّنيا – فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به.(5)\
ومن هذا المنطلق، تنافس الناس على نيل حظوة السلطان وطلب الدنيا، فلم يحيدوا عن الهدفين، كما لم يكن وجود أئمة أهل البيت عليهم السلام بالمدينة مجهولا غير معلوم، وهو أشهر من نار على علم، وقد أخذ عنهم القاصي والداني من أحرار الرّجال، لكن تَبِعاتُ حضور مجالسهم كانت خطيرة، وثقيلة على من رام ذلك، فلم يتحمّلها سوى قليل من الناس، لذلك تجنّبهم من تجنب واقطع عنهم من انقطع خوفا من العقوبة.
لكن عندما نجد في متناولنا نصوصا عديدة، كشفت لنا أن المذهب الخارجي كان نسبيا السّابق إلى إفريقية – ظاهرا باعتبار انّ هناك دلائل على سبق غيره- بعد فرار عبد الله بن أباض(6) من معركة النهروان، فتسمى الخوارج في إفريقية بالأباضية بإفريقية نسبة إليه، ومنه بدأ نشر الفكر الخارجي بين البربر، مع أنّ وضع الخوارج لم يكن جيّدا زمنا طويلا، فقد عاشوا تحت تهديد عدوين لدودين، السلطان الغاشم، وأتباعه المستبيحين له بالتكفير، بينما نجد أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد أوصى أتباعه، بأن يكفوا أيديهم عنهم بقوله: (لا تقتلوا الخوارج من بعدي، فليس الذي طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه) (7)
يقصد به أوّلا الخوارج الذين طلبوا الحقّ بقولهم: لا حكم الا لله. فأخطأوا بالخروج عليه، وإشارة منه إلى معاوية وأتباعه،، الذين طلبوا الباطل بمحاربته، وهو وليّ أمور المسلمين فأصابوه.
كما أنّ المذهب الحنفي كان أسبق من المالكي، في ظهوره بإفريقية وتعبّد أهلها به، وتزامنا في فترة قصيرة كان هناك مذهب الإعتزال، الذي اتخذه بعض خلفاء بني العباس مذهبا رسميا لهم، وحملوا الناس على التعبّد به، ندرك جيّدا أن هذه المذاهب جميعها، لم تكن لتنتشر من تلقاء الناس، ويختار منها أهل إفريقية المذهب المالكي دون غيره، من دون قوة قاهرة حملتهم على إتّباعه، وهذا ما حصل زمن الأغالبة، انطباقا على المثل المعروف: (الناس على دين ملوكهم)، حيث كان الناس يتعايشون حنفية ومعتزلة ومالكية حسب ميول أمراء بني الأغلب، والتي كانت تبعا لرغبات خلفاء بني العباس في بغداد، مركز السلطة الفعلية شرقا وغربا، وإن ظهر استقلال الأغالبة عن السلطة المركزية، فإنّ الدعاء للعبّاسيين على منابر الجمعات لم يتوقف،(8) حتى سقوط آخر أمير أغلبي سنة 296 هجرية، وهو زيادة الله الثالث.
فكيف لعاقل بعد هذا، أن يصدّق أنّ سكان إفريقية اختاروا مذهب مالك بمحض إرادتهم، وأجمعوا أمرهم على العمل به، وتركوا ما سواه من مذاهب؟ وقد تبيّن لنا من بعد بحث مستفيض، أن دور السلطان كان أساسيا، في حمل سكان إفريقية على اتباع مذهبه، ونبذ ما سواه من مذاهب، ودعوى حصر الإسلام في مذهب واحد أو عدد من المذاهب، هي دعوى سلطانية رُكّبت في عقول أتباع السلطان وأدوات سلطته، قلّما كانت متسامحة مع من إتبع غير المذهب الرّسمي للدولة، لذلك فإنّني لا أستبعد في هذه الحال فرضيّة تغليب مذهب على آخر بقوّة السلطان العبّاسي الباطشة، وتصفية ما سواه بقطع عطاءات أتباعه من بيت المال، واللجوء بدافع تعصّب مقيت إلى التحريض على ارتكاب مجازر طائفية، بحق من رفضوا تغيير مذاهبهم استجابة لهوى السلطان.
حتى المذهبين المزكّيين سلطانيا – الحنفي والمالكي – لم يسلم أتباعهما من معارك كلامية نشبت بينهما، بدأها فقهاء الفريقين لتسفر في النهاية على استعمال العنف، سقط بسببه ضحايا من الفريقين. (9) تعلق المذهبين الحنفي والمالكي بالسلطان العبّاسي وتوابعه، أتاح لهما أسباب الإنتشار بين سكان إفريقية، رغم أن غالبيتهم كانوا حسموا أمرهم، بالتشيع للأئمة الهداة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ذكر ذلك ابن عذاري المرّاكشي بقوله: (وكانت إفريقية كلها والقيروان على مذهب الشيعة، وعلى خلاف السنة والجماعة. (10)
سؤال يجب أن يُطْرح لمن استعمل عقله وترك اتباع الموروث دون حجة وبيان، أيه أصوب اتباع أئمة علت أسهمها في مجالات العلم والتقوى والشّرف، أم إتّباع رأي رآه العبّاسيون انحرافا منهم عن بيت اصطفاه الله بالنبوّة وتوّجه بالإمامة علت حجّتهم على من سواهم؟ فإن أنبأك قلبك واشار إلى هذا البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا كما كان يشير إليه النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ عقلك سيؤكّد ما ذهب إليه قلبك بما توفّر من دلائل عالية المضامين.
المراجع
1 –كتاب التعليق الممجد للكنوي ج1ص14/ تاريخ التشريع الاسلامي مناع القطان ص 150/
2 – الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام الملقّب بباقر العلوم (57/114 هـ ) دوّن الذّهبي في وصف الإمام الباقر قوله: (كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤود والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلاً للخلافة) سير أعلام النبلاء الذهبي ج4ص402
3 – الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الملقب بالصادق (83/148هـ) قال مالك بن أنس: (اختلفت إلى جعفر بن محمد زمانا، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّيا، وإما صائما، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث عن رسول الله إلا على طهارة، ولا يتكلّم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العباد والزهّاد الذين يخشون الله، وما رأت عين، ولا سمعت أُذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا.) تهذيب التهذيب ابن حجر العسقلاني ج 2 ص 104
4 – كتاب الشيعة والحاكمون الشيخ محمد جواد مغنية متوفر على النت بصيغة PDF
5 – نفح الطيب أحمد المقري التلمساني ج6ص20
6 – عبد الله بن أباض المقاعسي المرّي التميمي من بني مرّة بن عبيد بن مقاعس(ت76هـ) رأس الاباضيّة وإليه نسبتهم ، وقد عاصر معاوية وعاش إلى أواخر أيّام عبد الملك بن مروان. تاريخ الطبري ج4 ص438
7 – موسوعة الإمام علي في الكتاب والسنة والتاريخ محمد الري شهري ج6ص306
8 – قادة الفتح الاسلامي محمود شيت خطاب ص222/ دراسات في تاريخ المغرب والاندلس أحمد مختار العبادي ص 169
9 – القيروان عبر العصور الحبيب الجنحاني ص29
10 – البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ج1ص268