بأيّ عنوان لبِس حركة بعض شباب تونس، أفضى بنا إلى مجال خططت له أمريكا وحلفاؤها، ليكون منطلقا لما عرفوه بالربيع العربي، إستدراجا لدول بعينها دون غيرها، ليس لتحريرها من أنظمة دكتاتورية فاسدة، وهي عميلة لها دون شكّ، وخادمة أمينة لمصالحها في تلك البلدان، فإنّ الهدف أصبح جليا اليوم، والمطلوب محو القضية الفلسطينية من حاضر تفكير شعوب المنطقة، لتصبح جميع آمال الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه وحقوقه في خبر كان.
تونس التي كانت رائدة في الدفاع عن قضية أشقائها الفلسطينيين أصبحت مستهدفة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، بأي شكل ممكن بالإستدراج أو بالترهيب أو بالتجويع، وقد وصلنا اليوم بعد عشر سنوات عجاف من السجالات الحزبية، بين فرقاء الوطن وأدعياء نضالاته، بحيث أصبح البرلمان ملتقى للخصومات والمزايدات وابرام الإتفاقات الحزبية الثنائية، وصفقات محاصصات سياسية، آخر من له مصلحة فيها الوطن والمواطن، بل إن البرلمان أصبح وكرا يلجأ إليه الفاسدون، ليتحصنوا به من سيئات ما جنوه بحق البلاد من فساد، واستمر الحال على هذا المنوال متفاقما، إلى أن وصل الأمر الى وضع رديء لا يطاق، وكان لابد من أن يقوم أحد المخلصين بعمل يوقف المهزلة، ويعمل على إصلاح ما أفسده اللاهثون وراء المناصب والمصالح.
من ذلك أن حركة النهضة التي وضع فيها كثير من التونسيين ثقتهم ومنحوها أصواتهم، لم تكن محلّ تلك الثقة، إذ سرعان ما ركبها غرور السلطة فاستغلت مواقعها منها، لتتصرّف كأنّها مالكة دفة التسيير، والحاكمة بأمرها في طول البلاد وعرضها، فارتكبت بذلك أخطاء فادحة لم تكن عفوية، بل مقصودة وموجّهة للخارج، بأنها حزب لم يعد له طابع اسلامي، ومستعدّ للتنازل حتى على ثوابته الأساسية التي قام عليها، وهي نصرة القضية الفلسطينية، والقبول بدلا عن ذلك بالتطبيع، والنزول عند رغبة أمريكا والغرب، في اقامة علاقات كاملة مع الكيان الصهيوني، تشمل جميع المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية.
وتزامنا مع مساعيها الخارجية عملت حركة النهضة على الظهور بمظهر المتسامح في المجتمع التونسي ليس لأجل التسامح وطي صفحة الماضي، كما يتبادر إلى الأذهان، بل لكي تسجّل نقطة لفائدتها، معبّرة عن كونها ليست حركة ثورية استئصالية، بدليل أنها عفت وصفحت عمن ارتكبوا بحق أبنائها جرائم قتل وتعذيب وانتهاك حرمات، فقررت قيادتها ذلك، وأعتقد أن ذلك مقترح شيخ الحركة، للتعبير عن حسن نية سرعان ما ذهبت بها رياح السّفه، بمواقف أخرى كشفت وجها آخر لقيادتها.
لقد اخطأ راشد الغنوشي بتحالفه مع الفاسدين، ورموز النظام البائد، بعدما كان مصرّا على الإسهام في بناء جمهورية جديدة، تختلف تماما مع سابقها، في الحرّية والعدالة الاجتماعية الحقيقيين، لكن الشعب التونسي بما فيه المنتمون لحركة النهضة، تفاجأوا بانقلابه على مبادئ اعلنها بالقطع مع المفسدين، فاذا به يضع يده في يد (نبيل القروي) وحزب قلب تونس ويدافع عن مشاركته في الحكم بعدما كان يتّهمهما بالفساد(1)، ويقوم بتعيين أمين عام حزب التجمّع الدستوري المنحل (محمد الغرياني) ليكون مستشارا له(2)، مما خلق حركة احتجاجية في صلب حزب حركة النهضة، بدأت تكبر وتتوسع من قمة القيادة إلى قواعدها، نتج عنها نشوء معارضات لسياسة رئيسها المتناقضة مع التزاماته ، تلتها استقالات مهمة في صلب قيادات الحركة، كان على راشد الغنوشي أن يستمع إلى ملاحظاتها ونصائحها، ويعطيها ما تستحق من أهمية وعناية، وليس ركوب رأسه فيما اتخذه من قرارات ومواقف.
وحصل ما لم يكن في الحسبان، وجاء تاريخ 25 جويلية ليقطع مع عشرية رأى فيها الشعب التونسي كل سوء وفوضى، عشرية غلبت عليها مظاهر الإستئساد على المناصب، والكذب على الشعب والتلاعب بمصالحه، وكانت الصّدمة بادية على المنتفعين بفترة ما قبل 25 جويلية، فاعلنوا أن الذي حصل هو انقلاب يجب أن يتراجع عنه من نفّذه، وتوعّدوا بالويل والثّبور، ولما وقفوا على أن عددهم لا يرقى ليكون عائقا جدّيا، من شأنه أن يعيد إليهم الكرّة في استغلال مواقعهم في السلطة، ليتحالفوا من جديد مع رموز الفساد، ويواصلوا ما كانوا يرتكبونه بحق الشعب.
راشد الغنوشي الذي كان يحاول جاهدا إدانة الرئيس قيس سعيد، واصفا إجراءاته إنقلابا على الشرعية، ثم عاد بعد ذلك ليصرّح في موقف مغاير لما كان أعلنه من قبل، وقامت بنشره صفحة تابعة لحركة النهضة التونسية، قال فيها إن إجراءات الرئيس قيس سعيد الأسبوع الماضي، يجب أن تتحول إلى فرصة للإصلاح.(3)
ولم يتأخّر انقلاب خطاب راشد في مواقفه، فتحدّت أمام حشد من شباب حركته، بمنطق الواثق من نفسه، بأن البرلمان سيعود كما كان حب من حب وكره من كره(4). وهو تصريح فيه دلالة على مضمونه، تشير إلى أنّ ما تلفظ به، مبني على أساس واحد، وليس تخمينيا أبدا، ولا هو من قبيل استشراف منه للغيب، وإنما يندرج في إطار واحد، هو الإستقواء بالخارج، والتحريض على شرعية الرئيس الرئيس قيس سعيد، وما قام به من قرارات دستورية، تصبّ جميعها في إطار اصلاحي ضروري، في مواجهة حالة خطيرة من تغوّل المفسدين في البلاد، وقد تمكنوا من مفاصل ومراكز السلطة، واستمرار بقاء هؤلاء في صلب الدولة من شأنه أن يعرقل كل عمل لفائدة البلاد والشعب، لجوء رئيس حركة النهضة لقوى خارجية، من أجل ارغامه على التراجع فيما قام به بعد 25 جويلية، ولا يزال مواصلا في اجراءاته الاصلاحية رغم الصعوبات التي تعترضه.
ولا يخفى أن أكثر ما يقلق ويؤرق الشيخ راشد والمتورطين من حركته، هو ملفّ تسفير الشباب التونسي الى بؤر التوتّر ( سوريا والعراق)، فهناك ملفات وأسماء واثباتات لا تقبل التشكيك بتورط قيادات من الحركة في هذا الملف الخطير، وعائق عودة العلاقات بين البلدين تونس وسوريا قد وقع تجاوزه وعودة التبادل الدبلوماسي سيكون في قادم الأيام عندها سيؤخذ الجاني بجريرته ولا مفرّ له من المحاكمة، ومن كان متورطا فليشمر ساقيه للريح، المفسدون يهربون، وعدد منهم قد أفلت من قبضة الأمن، وقد يتلوهم المتورطون في الإرهاب ولن يتأخّر وصول ملفات التحقيق التي تمتلكها الدوائر الأمنية السورية والعراقية إلى تونس، عندها لا ينفع ندم النادمين، بقي سؤال للشيخ راشد الغنوشي يجب أن يُطْرح عليه خصوصا من قرأ كتاباته في التنظير السياسي والاجتماعي، وبعد الذي صدر منه، وهو في موقع السلطة ورئاسة الحركة: أمصلح أنت أم دكتاتور؟ وما هذا التناقض الذي أصبحت تتخبط فيه؟
المراجع
1 – الغنوشي .. أمس نبيل القروي فاسد ومافيا واليوم نريده شريكا في الحكم ولن نقبل بإقصائه
https://aljoraanews-net.cdn.ampproject.org/v/s/aljoraanews.net
2 –https://m.arabi21.com/Story/1309984
3 – الغنوشي: يجب تحويل خطوات الرئيس سعيد إلى فرصة للإصلاح
https://amp-dw-com.cdn.ampproject.org/v/s/amp.dw.com/ar/58761691
الغنوشي يعيّن أمين عام التجمع المنحلّ مستشارا له
4 – الغنوشي: النهضة لن تشارك بحكومة فيها قلب تونس
https://www.aa.com.tr/ar /1651340