قبل حوالي ثلاثة وأربعين عامًا، وتحديدًا في شهر تشرين الثاني – نوفمبر من عام 1977 قامت الدنيا ولم تقعد في مختلف البلدان العربية، كرد فعل على مبادرة الرئيس المصري الراحل محمد انور السادات بزيارة الكيان الصهيوني والقاء خطاب امام الكنيست، حيث مثلت تلك المبادرة الخطوة الاولى في مسيرة التطبيع العربي مع تل ابيب. وفضلا عن مظاهر الرفض الجماهيري العربي لبمادرة السادات وابرام اتفاق كامب ديفيد برعاية الولايات المتحدة الاميركية في اذار-مارس من عام 1979، فإن اغلب الحكومات العربية سارعت الى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، واكثر من ذلك تم نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة الى تونس.
هذا كان الوجه المعلن لصورة التطبيع العربي مع تل ابيب، بيد ان الوجه الاخر المخفي، ربما كان اكثر بشاعة وخنوعا وتذللا واذلالا، وعلى امتداد ستة عقود من الزمن واكثر، كان مسار التطبيع السري يتحرك بوتيرة قد تكون اسرع من مسار التطبيع العلني، حتى وصلنا الى مرحلة ذوبان وتلاشي الحدود والفواصل والحواجز بين المسارين بالكامل. ولعل المفارقات والعجائب كثيرة وكبيرة وفاضحة لمن يتأمل ويتقصى ويبحث.
وفي خطابه أمام الكنيست الاسرائيلي عام 1977، قال السادات، “جئت إليكم اليوم على قدمين ثابتتين، لكي نبني حياة جديدة، لكي نقيم السلام وكلنا على هذه الأرض، أرض الله، كلنا مسلمون ومسيحيون ويهود، نعبد الله ولا نشرك به أحداً، وتعاليم الله ووصاياه هي حب وصدق وطهارة وسلام، ولقد أعلنت أكثر من مرة أن إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة، اعترف بها العالم، وحملت القوَّتان العُظميان أمنها وحماية وجودها، ولما كنّا نريد السلام، فعلاً وحقّاً، فإننا نرحب بأن تعيشوا بيننا، في أمن وسلام، فعلاً وحقّاً”.
وفيما بعد زار رئيس وزراء الكيان الصهيوني في ذلك الحين مناحيم بيغن مصر، وحظي باستقبال وحفاوة غير مسبوقين، تمهيدًا للقاء كامب ديفيد لابرام اتفاق السلام برعاية واشنطن.
وبينما كانت وسائل الاعلام تتداول الكثير من صور ومشاهد العناق والقبلات الحميمة بين السادات وبيغن، كانت آلة القمع الصهيونية تواصل ازهاق أرواح الفلسطينيين وسفك دمائهم واستباحة مدنهم وقراهم وتجريف مزارعهم والاستيلاء على بيوتهم واملاكهم، وكان الموساد قد نجح في اشعال الفتنة الدموية على الاراضي اللبنانية من خلال أدواته وصنائعه هناك.
ومقابل كل ذلك اكتفت الأنظمة والحكومات العربية بالكلام المعسول فقط، ولم تحرك ساكنًا، بيد أنها بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام روح الله الخميني (قدس) في ربيع عام 1979، بادرت الى تبني مواقف سلبية من تلك الثورة ودعم نظام صدام في شن الحرب عليها، رغم ان الامام الخميني سارع الى قطع كل العلاقات مع الكيان الصهيوني واعلانه تقديم الدعم المفتوح للقضية الفلسطينية على خلاف مواقف وسياسات نظام الشاه محمد رضا بهلوي(1941-1979).
والملفت أن الحكومات والأنظمة العربية التي قطعت علاقاتها مع مصر وقاطعتها بعد ابرام اتفاق كامب ديفيد، راحت تعود اليها شيئا فشيئا، ليصطفوا مع بعضهم البعض ويساندوا نظام صدام بالمال والسلاح والرجال ضد ايران، وفقا لتوجيهات واملاءات واشنطن، ناهيك عن ان البوابات الخلفية والسرية لعدد من العواصم العربية كانت قد فتحت ابوابها على مصاريعها للكيان الصهيوني بعناوينه المخابراتية والتجارية والسياسية، بالتزامن مع مجازر صبرا وشاتيلا بقيادة الارهابي ارييل شارون وغيرها من المجازر الدموية، التي ما زالت تمثل شواهد شاخصة على النزعة الاجرامية للكيان الصهيوني والروح الانهزامية لاغلب الحكام العرب.
وبعد اقل من عشرين عاما كانت الخطوة الاخرى في مسار التطبيع المذل قد جاءت من العاصمة الاردنية، التي انتهت الى ابرام اتفاق وادي عربة في السادس والعشرين من تشرين الاول-اكتوبر من عام 1994، وهو مثل نسخة مشابهة الى حد كبير لاتفاق كامب ديفيد، والملفت ان اجواء وظروف ذلك الاتفاق اقترنت بمعارك وحروب كان يخوضها حزب الله اللبناني وقوى المقاومة الفلسطينية ضد جيش الكيان الصهيوني، وبينما كانت تل ابيب تحصل على التنازلات المذلة عبر مفاوضات القاعات المغلقة، كانت تتلقى الهزائم والانكسارات المتتالية في جبهات القتال والمواجهة، سواء في جنوب لبنان او في فلسطين.
وهنا فإن المفارقة المثيرة هي أنه بينما كانت الانظمة والحكومات العربية تلهث وراء التطبيع مع “تل ابيب”، بقيت الشعوب العربية على مواقفها السلبية الرافضة للكيان الصهيوني رغم وجود سفاراته في عواصم بلدانها، كما هو الحال مع القاهرة وعمّان، وبعد أكثر من أربعة عقود، لم نجد مصاديق حقيقية في الشارع العربي للتطبيع، ولم يصبح الاسرائيلي مقبولا على الصعيد الشعبي في أي دولة عربية، ولا العربي متاحا او مقبولا له ان يذهب الى “اسرائيل”، وقد أخفقت كل الدوائر السياسية والمخابراتية والاكاديمية في فك هذه العقدة، وأغلب الظن أنها لن تفلح في فكها مستقبلا، بل على العكس من ذلك، تذهب مجمل المؤشرات والمعطيات الى أن تيار المقاومة للولايات المتحدة الاميركية والكيان الصهيوني توسع وتنامى الى حد كبير خلال العقود الأخيرة الماضية، من خلال الموقع المؤثر للجمهورية الاسلامية الايرانية، والحضور الفاعل في الميدان لقوى الممانعة، واستمرار النهج الصهيوني الأميركي القائم على استخدام القوة والقمع ضد الآخر، والتيقن من أن كل مؤتمرات التطبيع في مدريد وأوسلو و واي بلانتيشن وغيرها انما هي عبث ولهاث وراء السراب!
واذا اقتربنا كثيرًا من الواقع الراهن، سنكتشف أن خطوة التطبيع الاماراتي – البحريني مع الكيان الصهيوني، تستبطن صورًا أكثر اذلالا وبؤسا وسوداوية من صور كامب ديفيد ووادي عربة، وهي تخلو تماما من أي مظهر من مظاهر الكرامة والعزة والقوة التي لا بد أن يتسلح بها كل من يجلس حول طاولة التفاوض اذا كان يبحث فعلًا عن مكاسب حقيقية، لا أن يكتفي بالهرولة والركوع والانبطاح بلا أي ثمن.