تبدو مفاوضات الملفّ النووي الطويلة والمضنية التي تخوضها إيران، من أجل استعادة حقوقها النووية السلمية كاملة، بعدما توصّلت إلى اتفاق نهائي أبرمته سنة 2015 مع المجموعة 5+1، خرجت منه أمريكا سريعا، في أول عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، استجابة لرغبة الحكومة الصهيونية وادّعاءاتها الكاذبة، من أجل زيادة الضغط الأمريكي على إيران، لإدخال عناصر أخرى في الإتفاق، تشمل الصواريخ البالستية، وتحديد مداياتها، بما لا يشكل خطرا – حسب إدّعائهم – على حلفاء أمريكا، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني.
وفي حين يعبّر الغربيون في كل مناسبة عن سقف محدد لمفاوضاتهم، بمنظار يرون فيه استحالة بقاء المفاوضات مع إيران دون حاجز زمني، كأنّ لهم الفضل في اعطائها فرصة الإستجابة لمطالبهم، ترى الحكومة الإيرانية أن ما قدّمته من تنازل، لا يضر استراتيجيتها ومصالحها، تعبيرا منها عن حسن نيّتها، وبراءة مشروعها النووي من أي شبهة عسكرية، كل ذلك كان كاف ليقنع الدول الغربية بمدنية مشروعها، وسلامته من تداخل برنامج مخالف فيه، ولكن بقيت القناعة بذلك مشروطة برضى الكيان الصهيوني، وهذا لن يحصل طبعا.
لذلك فإنّ هذه الجولة تُعْتَبَرُ مفصلية في نتيجتها، إنّ بدت المسودّة التي قدّمتها إيران، وجيهة بنظر الدول الغربية ومقنعة للأمريكيين، وهو ما تأمله إيران وروسيا والصين، ولا أعتقد أن الأوروبيين وخصوصا ألمانيا وفرنسا، لا يرغبان في إنهاء الإشكالات العالقة بخصوص الملفّ، والمرتبط أساسا بحلحلة الموقف الأمريكي، وإعادته مجددا للإلتزام ببنود الملف الذي خرج منه الأمريكان بلا مبرّر مقنع.
تجربة إيران مع ما قام به الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الذي تعطل على عهده تخصيب اليورانيوم أكثر من سنتين، دون أن يحصل على نتيجة مقابل ذلك، وفي عهد الرئيس المنتهية ولايته الشيخ روحاني، كتب مرشد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي في تغريدة له على تويتر : يجب على الآخرين الإستفادة من تجارب حكومة الرئيس روحاني، وإحداها تجنب الثقة بالغرب، في هذه الحكومة، اتضح أن الثقة بالغرب لا تنفع. إنهم لا يساعدون في شيء، بل يوجهون الضربات حيث يستطيعون .أينما لم يوجهوا ضربة، لم يكن لديهم القدرة على ذلك.(1) بمعنى أنه لا يجب الإعتماد على الغرب ولا الثقة بهم، مهما عبّروا وقدّموا.
لقد انتهت الجولة الماضية من المفاوضات يوم 18/12/2021 على تقدّم نسبي وتفاؤل بحصول اتفاق في الجولة القادمة (هذه الجولة) فقد «أوجدت نظرة إيجابية نسبياً لنجاح الجهود الدبلوماسية». وأشارت أيضاً إلى أن إيران ومجموعة «4+1» توصلتا إلى مسودة جديدة، تأخذ «وجهات النظر» الإيرانية بعين الإعتبار، على أن تكون أساساً لـ«المشاورات» المقبلة. وأضافت: «يجب أن نرى هل تتّبع الدول الأوروبية وأميركا مقاربة بنّاءة بعد العودة من العواصم، لكي يتم التوصل إلى اتفاق على المدى القصير؟».(2)
وفيما قال مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، إن أولوية واشنطن في ملف إيران هي الحد من برنامجها النووي من خلال إحياء الاتفاق النووي، حيث بمجرد عودة القيود المنصوص عليها في الاتفاقية، ستكون الولايات المتحدة في وضع أفضل لمعالجة المخاوف الأخرى، بما في ذلك برنامج طهران الصاروخي وأنشطتها الإقليمية، وفقا لـ”العربية”.(3)
إصرار الأمريكيين على توسعة المفاوضات مع إيران لتشمل مواضيع وقضايا أخرى من بينها برنامجها ودورها الإقليمي، المقصود منه دفعها للتخلي عن مشروعها المقاوم للاستكبار والصهيونية في المنطقة، ورؤيتها الواضحة لحل القضية الفلسطينية، المتمثل في العمل على إنهاء الوجود الصهيوني على أرض فلسطين.
لقد أصبح واضحا ما تريده أمريكا، وهو إخضاع إيران لشروطها المجحفة، في مقابل ما تريده إيران من نتيجة تريد الحصول عليها، ضمانا لحقوق شعبها الطّامح إلى التقدّم في برنامج بلاده النووي السلمي، لتتمكن من استغلال الطاقة النووية، في تطوير مجالات عيش شعبها وخدمة اقتصادها، وهذا حقّ من حقوقها لا يمكن أن تسلبه منها أمريكا، مهما شددت في عقوباتها، وقد فعلت ذلك، لكن محاولاتها تلك باءت بالفشل.
في ظل مماطلة الدول الأوروبية في تنفيذ التزاماتها، نتيجة عجزها كسر حاجز العقوبات الأمريكية وخشيتها بدورها من أن تتعرض مصالحها في الخارج للعقوبات، اتخذت ايران سبيل الضغط من أجل وضع الدول الغربية أمام الأمر الواقع، فأعلنت عن سلسلة إجراءات أحادية للتخلي عن التزاماتها المتعلقة بالملف من جانب واحد، ردّا على الدول الغربية التي لم تنفّذ شيئا من تعهّداتها تجاه إيران
في هذا الإطار أعلن مرشد الثورة الاسلامية الإيرانية: “نحن مصمّمون على امتلاك القدرات النووية بما يتلاءم مع حاجات البلاد، ولذلك سقف إيران للتخصيب لن يكون 20 بالمئة، وسنتصرف (وصولا) إلى أي مستوى نحتاج إليه وتتطلبه البلاد، مثلا من أجل المحرك النووي أو أعمال أخرى، يمكن أن نذهب إلى تخصيب بنسبة 60 بالمئة”، وذلك وفق ما جاء في بيان نشره موقعه الإلكتروني الرسمي…أضاف “الجمهورية الإسلامية لن تتراجع في المسألة النووية، وستمضي بقوة على مسار ما تحتاج إليه البلاد اليوم وغدا”.(4)
محاولات امريكا ومن يقف وراءها، للضغط على إيران واجبارها على التنازل على حقوقها النووية السلمية المشروعة، مع قناعتهم بأن انشطتها سليمة من أي تداخل عسكري، لكن الجبناء وعديمي الضمير عادة ما يهربون من الحقيقة إلى وهم صنعته آلتهم الدعائية لتضليل الرأي العام العالمي، فما حققته الدعاية إلى حدّ اليوم لم يؤثر في الداخل الايراني الذي ظل متماسكا وصلبا وعنيدا، مما سيجبر الأطراف المواجهة لإيران على النزول عند حقوقها، أو ارتكاب حماقة عسكرية قد تنهي الوجود العسكري الأمريكي ومعه الكيان الصهيوني من المنطقة، والاستكبار الأمريكي قد يدفع الى الحمق وتكون نتيجته كارثية، ومن احتمل الحل العسكري، عليه أن يتحمّل تبعات ذلك، وليست إيران اليوم بحال من يوكل لحمها، دون أن تردّ الصاع صاعين.
المراجع
1 – إيران: خامنئي يعتبر أن تجربة روحاني مع القوى الكبرى تؤكد أن “الثقة بالغرب لا تنفع” https://www.france24.com/ar/A7/20210728
2 – مفاوضات فيينا تنتهي باتفاق على مسودة عمل للجولة المقبلة
https://aawsat.com/home/article/3365136/
3 – إحياء الاتفاق النووي أولا… هل تنازلت أمريكا عن شروط تضمين باليستي إيران في مباحثات فيينا؟
https://arabic.sputniknews.com/20211103/1050618710.html
4 – خامنئي يؤكد استعداد إيران لتخصيب اليورانيوم بنسبة 60% في حال الحاجة
https://www.swissinfo.ch/ara/afp/46390676