كان بإمكان إيران الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية التي أقامها الشاه سنة 1948 مع كيان إسرائيل، وإبقاء سفارته في طهران مفتوحة تعمل بحرّية، كما هي شأن السفارة الصهيونية بأنقرة (تركيا)، تطوّر بشكل متصاعد إلى تبادل تجاري الكبير، وغرف مشتركة، وتعاون أمني والعسكري متواصل، حتى زمن أردوغان وحزب التنمية والعدالة، لولا أن الثورة التي أطاحت بنظام الشاه، كان لها توجّه إسلاميّ حقيقي، وضع قيادتها في سلّم أولوياتهم، القطع الكامل والنهائي مع قوى الإستكبار العالمي، وأداتهم الصهيونية المتغلغلة في المنطقة، وما تشكله في نشاطها الخبيث من خطر محدقٍ بشعوبها.
إدراك ووعي القيادة الإسلامية الإيرانية بأن الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين والقدس، أبعد هدفا من احتلال قطعة أرض إسلامية صغيرة، وإن كان موقعها هام واستراتيجي، فحلم الصهيونية العالمية، يتجاوز حتى مقالتهم العقائدية للدولة العبرية من النيل إلى الفرات، لتثبيت كيان مهيمن على كامل المنطقة الإسلامية، حقيقة أدركها الإمام الخميني رحمه الله، فحذّر منها شعبه، ومن وصلته مقالته من الشعوب الإسلامية:
(لقد أشرت من قبل، إلى أن الحكومة الإسرائيلية الغاصبة، تشكل خطراً كبيراً على الإسلام ودول المسلمين، بسبب الأهداف التي تسعى اليها، وأخشى أن تضيع الفرصة للوقوف بوجهها، إذا أمهلها المسلمون.. ولما كان الخطر موجها إلى الإسلام، فإن على الدول الإسلامية خاصة والمسلمين عامة، أن يقضوا على جرثومة الفساد هذه بأي نحو كان..) (1)
لكن تحذيرات ودعوات الإمام الخميني رضوان الله عليه المتكررة، للوقوف بصدق وقوّة إلى جانب مقاومة الشعب الفلسطيني، وإسناده بالأموال والخبرات والأسلحة، لم تجد آذانا صاغية منذ فجر ثورته الاسلامية، (على الأمّة الإسلامية، وانطلاقاً من واجبها الإنساني، وبموجب القيم العقلية والإسلامية، أن لا تتورع عن تقديم أيّة تضحية، من أجل اجتثاث ربيبة الإستعمار هذه، وأن تساعد المقاتلين في جبهات الحرب مع اسرائيل مادياً ومعنوياً، وكذلك عن طريق التبرع بالدم والأدوية والمؤن والسلاح) (2)
ودعوة الإمام الخميني رضوان الله عليه إلى معاداة جرثومة الفساد هذه نابعة من مبدإ البراءة من أعداء الاسلام (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله)(3)
(لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (4) ومن منطلق قرآني بحت دعا إلى تحريم أي علاقة مع هذا الكيان، باعتباره عدوّا متأصّلا في عداوته للإسلام والمسلمين فقال: ( لا تعقدوا
أحلاف الأخوة والمودّة مع إسرائيل عدوة الإسلام والمسلمين، والمشردة لأكثر من مليون مسلم بريء.. لا تجرحوا مشاعر المسلمين.. لا تفتحوا الطريق أمام إسرائيل وأعوانها الخونة، للدخول إلى اسواق المسلمين، ولا تعرضوا اقتصاد البلاد إلى الخطر، من أجل إسرائيل وعملائها..)(5)
ورغم كل توصيات الإمام الخميني رضوان الله عليه، مضى حكام العرب والمسلمين سرّا وعلانية، نحو التطبيع مع هذا الكيان المحتل الغاصب، وبعد أن تعرّت عورات علاقاتهم تماما، أصبح التطبيع معه قائما على قدم وساق، يغازل من تبقى متردّدا، أيمضي فيه علنا بعد ترويض شعبه، أم يبقي على سرّيته خوفا من تداعياته، والحكام الذين سقط عنهم الحياء يأتون بالموبقات كلّها، ولا حياة لمن تنادي.
هذا التغلغل الصهيوني في البلاد العربية والإسلامية، ليس وليد هذه السنوات الأخيرة، وإنما هو قديم قدم اعتراف بعضهم بالكيان الصهيوني، ونشوء فكرة حلّ الدولتين، والأرض مقابل السلام، والمفاوضات التي فتحت أبوابها منظمة التحرير الفلسطينية، التي فقدت شرف تاريخ مقاومة عدوّها، لتنخرط في مسار عبثي لم يقدّم شيئا للفلسطينيين، وأتاح من جانب آخر لدور مخابراتي صهيوني كبير في البلدان العربية والإسلامية، إزداد تمدّدا بعد (ثورات الربيع العربي) في البلدان المستهدفة، وبصمات الموساد الصهيوني بدت واضحة، في نشاطات عملائه في تونس، باغتيال الشهيد محمد الزواري، وفي إيران باغتيال الشهيد فخري زادة، ولئن أطنب الكاتب (إيغور سوبوتين) في مقاله الذي نشره بصحيفة (نيزافيسيمايا غازيتا)، حول تغلغل خطير للموساد في إيران، فإن جانبا مما كتبه يصبّ في خانة تهويل حصيلة متوقعة بالنسبة لنظام اسلامي محارب من قوى استكبارية متصهينة.
وجاء فيه:
(بات تسلل الموساد إلى البنية التحتية الإيرانية مصدر قلق للإيرانيين، وقد تركت صدى كبيرا المقابلة التي أجراها وزير الاستخبارات والأمن القومي الإيراني السابق علي يونسي على بوابة جمران أواخر الشهر الماضي، وشدد خلالها على أن عناصر الاستخبارات الإسرائيلية، اخترقوا العديد من هياكل الدولة في الجمهورية الإسلامية، ما يعني أن على العديد من المسؤولين في طهران، حسب قوله، أن يقلقوا على سلامتهم.
وما يدفع أيضا إلى الحديث عن ضعف البنية التحتية الاستراتيجية الإيرانية مقابلة أجرتها، في يونيو، القناة الإسرائيلية الثانية عشرة مع الرئيس السابق للموساد يوسي كوهين. فقد كشف خلالها علنا عن بعض تفاصيل العمليات الإسرائيلية ضد طهران، بما في ذلك السرقة الفاضحة للأرشيف النووي في يناير 2018.)
وأعرب كوهين عن ثقته بأن على إسرائيل في بعض الأحيان أن تبرهن لإيران على الموارد والقدرات الموجودة تحت تصرفها لتحذير “نظام آيات الله” من بعض الأعمال في المنطقة. يتناقض هذا بشكل حاد مع نهج سلفه تامير باردو، الذي عارض بشدة إذلال الخصم، حتى لو كان خصما لا يساوم مثل طهران. والآن، يرأس الموساد ديفيد بارنيا، الذي لم يُعرف بعد منهجه حيال أعمال التخريب على الأراضي الإيرانية، لكن هناك شكوكا بصعوبة تغيير مسار المواجهة بين إسرائيل وإيران.(6)
وما جاء في مقال الكاتب الروسي من معلومات، ظاهرها يبدو صحيحا، لكنه في الواقع مموّه ومبالغ فيه، فليس النظام الإسلامي – بقوة هياكله الإستخبارية – من يقع اختراقه واستباحته كما صوّر لنا (سوبوتين)، ولا كما سعى إلى إشاعته الكيان الصهيوني، عبر تصريحات رئيس المخابرات السابق للكيان (يوسي كوهين) بقوّة وفعالية الإختراق، خصوصا ما تعلّق بسرقة الأرشيف النووي الإيراني، فإذا كانت دعوى الكيان في سعي إيران لامتلاك سلاح نووي، فلماذا لم يظهروها من خلال الأرشيف الذي إدّعوا سرقته، فتكون حجتهم في ذلك غير قابلة للتشكيك، أو حتى الرّدّ عليها من جانب إيران، هنا يبدو التهويل في مسالة الإختراق المخابراتي الصهيوني في إيران مبالغ فيه، ومن باب الحرب الناعمة التي ما فتئت تُشن عليها.
وكان على الكاتب أن يكون منصفا، فيلتفت إلى أنّ ايران لها أيضا أجهزتها الاستخبراتية العاملة في عمق الكيان الصهيوني، ويدها ليست قصيرة بحيث تكون عاجزة عن ايجاد من يقدّم لها المعلومات التي تهمّها في مواجهة هذا الكيان، فقد أُدين (غونين سيغيف)، الذي شغل منصب وزير الطاقة الإسرائيلي في وقت سابق، بالتخابر لصالح إيران، ما يجعله في مواجهة حكم بالسجن يصل إلى 11 سنة.(7)
جدير بالذكر أن الشعب الإيراني يتشكل من أعراق متعددة، أغلبها ملتزم بوطنيّته، مدافع عنها بكل عزيز ونفيس عليه، لكنه مع ذلك يوجد من استهوتهم الدينا، وعبثت بهم أطماعها، فلم يترددوا في إلقاء أنفسهم في مستنقع خيانة البلد، خصوصا أولئك الذين لم يؤمنوا يوما بنظام الحكم الاسلامي، (نظام ولاية الفقيه العادل)، ويعتقدون محاربته بأي شكل وتحت أي عنوان، لإثخانه بالجراح أمرا لا بدّ منه.
ومن عرف الثورة الإسلامية الإيرانية عن قرب، واطّلع على مبادئها المُعلنة منذ انتصارها الذي حققه الشعب الإيراني، وتابع سياسة نظامه الخارجية، يدرك جيّدا مبدئية هذا النظام في الإلتزام بقوانينه وأهدافه التي خطط للوصول اليها، وفي مقدّمتها هدف زوال الكيان الصهيوني من على أرض فلسطين، وهو هدف لم تسعى ايران لإخفائه بل أظهرته منذ البداية، ودعت بقية الدول الاسلامية الى التعاون من أجل تحقيقه وتخليص الشعب الفلسطيني من أسوأ استعمار عرفه العرب، ومن الطبيعي في هذا الملفّ، أن تنشأ عداوة، وتقوم حرب بمختلف الوسائل، بين الكيان الصهيوني والنظام الإسلامي، بدأت مؤشراتها تلوح في الأفق، ومنها الحرب الإعلامية والإستخباراتية التي تسبق عادة الحرب العسكرية، وإيران مدركة لذلك كله، لم تتوانى يوما في الدفاع عن نظامها وأهدافها، وان حصلت بعض الاختراقات فهي قابلة للمعالجة وانهاء تكرارها، وحرصها على تامين داخلها من عناصر الشرّ وعملاء الغرب والصهيونية شديد من خلال تعزيز وسائلها الرقابية التقنية منها والبشرية، ولا أدلّ على ما ذكرت من نجاحاتها في كشف شبكات التجسس واحتوائها على مدى السنوات الماضية.
ويخطئ من يعتقد أن المواجهة بين ايران والكيان الصهيوني الغاصب لم تبدأ بعد، وهو يرى بدايتها في الهجمات السيبرانية والبحرية والاستخبارية، النظام الاسلامي مدرك ما ينتظره من عدوّ لدود، وهو مجتهد تماما في مواجهته، عُدّته في ذلك إيمان شعبه بمبادئه وأهدافه، وسعيه الدؤوب من أجل كسب سبق التكنولوجيا المدنية والعسكرية لتحقيق النصر عليه، وابناؤه يعملون على واجهات متعددة لبلوغ الكفاية في ذلك.
المصادر
1 و2و5– مقتطفات من أقوال مفجر الثورة الإسلامية والإمام الخامنئي حول الصهيونية و الإستعمار العالمي http://www.taghribnews.com/ar/report/400689/
3 – سورة المجادلة الآية 22
4 – سورة المائدة الآية 82
6 – المخابرات الإسرائيلية تمد جذورها في إيران https://arabic.rt.com/press/1248548-
7 – وزير إسرائيلي سابق يعترف بالتجسس لصالح إيران لتفادي تهمة “الخيانة”
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-46807097