تصدير: جاء ضيفان لأعرابي، فاختلى بالأول وسأله عن صاحبه فقال إنه كلب ابن كلب، ثم اختلى بالثاني فقال إن صاحبه حمار ابن حمار، وعند العشاء قدم الأعرابي للأول حزمة قش وللثاني كومة عظام…ولما رأى الحيرة بادية على ضَيْفيه قال: “مِمَّ تعجبكما..ألم تقل أن صاحبك كلب ابن كلب..وأنت قلت أن صاحبك حمار ابن حمار…فهذا طعامكما”.
تعلمنا في دروس النحو والبلاغة أنه “اذا التقى ساكنان يحذف ما سبق”، غير أنه في السياسة من الواجب علينا حذف كليهما…السابق واللاحق، إذ هما ساكنان عما ينفع البلاد والعباد، متحركان في ما لا يجدي ولا يسمن ولا يغني من جوع الا بقدر ما يدر عليهما من منافع ومزايا وبروز وظهور وتكاثر في الأنصار وتفاخر بالأتباع ممن تستهويهم الإثارة وتشغلهم العبارة عن الإنارة، وكلما تدنى مستوى خطابهم الا وتلقفها “الهمج الرعاع أتباع كل ناعق” بالتهليل والتقدير وكأنهم جاؤوا “بما لم تستطعه الأوائل”، وهم أبعد ما يكون عن مشاغل البلاد التي عمّها الفساد وأضحت على شفير الهاوية تنحدر حينا بعد حين أسفل سافلين.
فما قام به بعض النواب من عربدة ومشاغبات وشطحات داخل البرلمان وخارجه لا يمكن اعتبارها مجرد أعمال معزولة تحكمها الانفعالات وتمليها الضرورات وتبررها ردود الأفعال، إذ لا معنى للاعتقاد بالمصادفة والاتفاق ويقيننا أنه باطل ما هم فيه ومتبّر ما كانوا يعملون، إذ لو كنا حقا، كما يزعمون زورا وبهتانا، نستظل بدولة القانون والمؤسسات، لبادر الجميع بتفعيل تقرير محكمة المحاسبات حول الانتخابات التشريعية 2019، التي أثبتت بالوثائق وبيّنت بالمعطيات الموضوعية والأدلة الدامغة اعتماد عديد القائمات والمرشحين وأعضاء المجلس الحالي طرقا ملتوية وغير قانونية للوصول إلى البرلمان وإلى السلطة.
ولا خلاف في أن هذه الانتهاكات “ترقى إلى مستوى الجريمة الانتخابية”، ما من شأنه أن يُفضي إلى الحكم بنزع صفة النائب عن عشرات أعضاء المجلس الحاليين، فضلًا عن عقوبات أخرى يضبطها القانون وينطق بها القضاء، فما بُني على باطل فهو باطل، وكان بالإمكان نزع الشرعية عن عشرات الأعضاء المتحيلين وغير النزهاء، لأن المجلس النيابي في شكله الحالي عار على الشعب التونسي الذي رأى ويرى وسيرى العجب العجاب من هؤلاء النواب.
إن قرار تجميد أشغال مجلس النواب، يأتي في تساوق مع المطالب الشعبية التي ضاقت ذرعا بما يجري تحت قبة البرلمان، من هرج ومرج وتطاول على الدستور والصلاحيات الممنوحة للنواب التي تنكّر أغلبهم للأغراض التي انتخب لأجلها والأطراف التي منحتهم أصواتها، حتى بات صيتهم في الحضيض وذكرهم يبعث على التقزز والقرف والإشمئزاز.
كما أنه لا معنى “لحصانة” تمنح الفاسدين والمعتدين والمحتالين حماية من التتبع وإنفاذ القانون فيهم، أو صكا على بياض لفعل ما يشتهون بلا حسيب ولا رقيب ولا رادع لهم، إذ أن الأصل في الأشياء أن “السلطة” الممنوحة لهم كانت بتفويض من ناخبين بناء على وعود وبرامج ومواقف، وعليه يكون لصاحب التفويض الحق في سحبه متى تبيّن له أن “وكيله” لم يلتزم بالعهود وبنود الإتفاق، كما هو الشأن في أعرق الديمقراطيات، حيث أن القانون يخوّل للناخبين مساءلة وحتى عزل النائب أو المسؤول إذا أخل بواجباته وأخلف وعوده….حتى لا تنقلب الديمقراطية ومبادئ الحرية والمساواة من حلم الى كابوس مثلما صوّرت رواية “مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل ”جميع الحيوانات متساوية، لكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرهم“.