بقلم: فوزي حساينية – كاتب جزائري |
سنقول ونظل نردد ُ القول، ولن نمل من ذلك أبدا : أننا لا نملكُ في المنطقة المغاربية أي بديل حقيقي عن مشروع أو عن فكرة الوحدة المغاربية، وكل تفكير سياسي في أي من البلدان المغاربية، لا يضع فكرة الوحدة المغاربية في قلب اهتماماته الفكرية، وصميم انشغاله بمستقبل المنطقة، سيكون تفكيرا عقيما عابرا سريع التلَّف، وقليل الجدوى- وضار- عند استهلاكه..
ومن هنا وعلى أساس هذه الحقيقة الراسخة رسوخ جبال الأطلس فإننا مطالبون بالعمل على إدانة كل التوجهات المشبوهة التي وبحجة الخصوصية، والديمقراطية وحرية التعبير ، تريد أن تستغل الظروف الراهنة في بعض الدول المغاربية لتروج لــ” الفيدرالية ” والتي هي عبارة عن مشروع مُبطن للتقسيم والتفتيت، بل وحتَّى هنا في الجزائر يوجد من يعمل بكل الوسائل المتاحة على نشر هذه الفكرة التي لا تنتمي أبدا إلى موروثنا السياسي الفاعل في الضمير الوطني و التي تُسمى الفيدرالية ! وبالنسبة لبعض الجزائريين الذين يحاولون الترويج للفيدرالية ، ولكي نختصر مسافة الطريق وعبء الجدل أقول لهم : عندما تتمكنون من إقناع فرنسا بأن تتحول إلى دولة فيدرالية سيكون عندئذ من الممكن أن نفتح النقاش، لنثبت لكم أن الفيدرالية لا تصلح إطلاقا للجزائر، ولسنا في حاجة إليها أصلا.
فالفيدرالية كما يعرف الجميع ظهرت أول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية، كأداة لتوحيد الولايات الأمريكية ، ومعالجة مخاوف الولايات الصغيرة من هيمنة الولايات الكبيرة على مصالحها ومستقبلها، لذلك كانت الفيدرالية ، أداة تُوفق بين ضرورة تجمُّع هذه الولايات لمواجهة الخطر الإنجليزي من جهة، ومن جهة أخرى إسْكات مخاوف الولايات الصغيرة من قوة ونفوذ الولايات الكبيرة، الفيدرالية إذا في السيِّاق الأمريكي كانت حلاّ لمشكلة التشرذم ، ووسيلة لتوفير إطار دستوري لتوحيد جهود الولايات الأمريكية في مواجهة التحديات الخارجية، لكن مع مرور الزمن، وتوالي التحديات تعاظمت صلاحيات الحكومة الفيدرالية بشكل متصاعد على حساب صلاحيات الولايات، فقد كان من الضروري تدعيم وحدة القيادة وتعزيز صلاحياتها ليتمكن الإتحاد الفيدرالي الأمريكي من مواصلة طريقه إلى المستقبل بنجاح، وهو ما ينطبق أيضا على كندا وألمانيا والبرازيل وسويسرا وغيرها من الدول التي كانت الفيدرالية بالنسبة لها هي الأداة المثلى للتوحيد السياسي وصمام الأمان إزاء شتى التحديات،مع بعض الاختلافات في التطبيق الميداني لفلسفة الحكم الفيدرالي حسب التجارب الوحدوية لهذه الدول وتبعا لاختلاف السياقات التاريخية والتقلبات السياسية والاجتماعية.
– وعليه يمكن قبول بل ويجب قبول الفيدرالية عندما تكون أداة تساعد على توحيد الدول المغاربية الحالية، وإيجاد أطر دستورية وسياسية لتوحيد الجهود، والتقليل من الاختلافات والتناقضات الراهنة، أما ما يسعى إليه البعض من الترويج للفيدرالية داخل هذا البلد المغاربي أو ذاك، فتلك مساعي شريرة يجب التصدي لها وإحباطها بكل وسيلة ممكنة، خاصة على الصعيد الفكري، وهو أخطر صعيد يعمل عليه دعاة التقسيم تحت غطاء الفيدرالية، إذ تعج مواقع التواصل الاجتماعي، والعديد من المواقع الإلكترونية، بحملات مُوجهة ومركزة تروج للفيدرالية بكونها وسيلة ناجعة لتحقيق التقدم وتجاوز مختلف المشاكل، في محاولات مستمرة لإيجاد شريحة اجتماعية تقبل هذا الطرح تحت تأثير الأوهام المغلوطة المُروج لها، ولذلك وجب الحذر من هذه الواقع ، والرد عليها وتفنيد إدعاءاتها الباطلة تاريخيا وسياسيا واجتماعيا.
– إذن، الفيدرالية كأداة للتوحيد في المنطقة المغاربية، وتجاوز أوضاع التجزئة الراهنة مرحب بها، فإذا استطاعت الدول المغاربية الست أن تتفق على الطريق الفيدرالي كأداة للبناء المغاربي فسيكون هذا الاتفاق عملا عظيما، أما الفيدرالية التي يريد البعض فرضها على مستوى الأقطار المغاربية كل قطر على حدة- كما سبقت الإشارة – لتقسيم هذا البلد المغاربي أو ذاك فهي عمل عدواني لا يمكن أن ينجح إلا في ظل الغزو والهيمنة الأجنبية أو التواطئآت الداخلية، كما حدث في العراق، أو كما يحاول الأمريكيون أن يفعلوا في الشمال السوري منذ سنوات، إذ ليس مصادفة أن أهم شيء ركز عليه الأمريكيون بعد حل الجيش العراقي هو فرض الدستور الفيدرالي المهلهل على العراقيين، كما أنه ليس دون تخطيط بعيد المدى يسعى الأمريكيون إلى فصل الشمال السوري تحت مسمى الفيدرالية الخاصة بالأكراد.
وأحب في سياق هذا الحديث المُقتضب أن ألفت النظر إلى أهمية الإنجاز التاريخي العظيم الذي حققه أجدادنا على مدار قرون متتالية عندما تمكنوا من أن يضمنوا لنا وطنا موحدا وبسيطا من الناحية الدستورية، فالجزائري اليوم وفي أي نقطة كانت من التراب الوطني يشعر أنه في وطنه ولا يوجد ما يحول بينه وبين هذا الشعور الثمين، وهذا الإنجاز الذي تحقق في الجزائر و في سائر البلاد المغاربية عجزت عن الوصول إليه دول كثيرة في القارة الأوربية كما في خارج القارة الأوربية فمثلا في إسبانيا تكثر المناطق ذات الحكم الذاتي، كما أن الانقسام الذي تعاني منه بلجيكا معروف، وحتى في الدول الأوربية التي تعد من أقدم القوميات التي نجحت في بناء وحدتها السياسية توجد مشاكل عديدة كما في فرنسا( مشكلة كورسيكا، النورماندي ) وانجلترا ( اسكتلندا، أيرلندا ) أما خارج القارة العجوز فالأمثلة كثيرة ومعبرة.
والخلاصة، أن التفكير السياسي الذي نحتاج إليه هو ذاك النوع من التفكير الذي يساهم في التمهيد لتجاوز أوضاع التجزئة السياسية الراهنة في المنطقة المغاربية، ولسنا في حاجة إلى من لا يملكون إلا أفكارا متخلفة وبدائية عن تقسيم ما يجبُ أن نعمل على توحيده ثم يزعمون من بعد ذلك أنهم ديمقراطيون حداثيون متحررون.