يقول سمير أمين في كتابه «مئتا عام على ولادة ماركس» إن الرأسمالية المعاصرة بلغت مرحلة الشيخوخة، وإن النظام الرأسمالي لم يعد قادراً على التغلب على أزمته الدائمة، لكننا تعلمنا عبر التاريخ أن الأزمة جزء من بنية النظام الرأسمالي نفسه، وأن هذا النظام استغل أزماته لتثوير نفسه من الداخل، والانتقال من مرحلة إلى أخرى داخل بنية النظام الرأسمالي نفسه.
أستطيع القول: إن النظام الرأسمالي مرّ بالمراحل اللاكانية الثلاث (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي جاك لاكان) فالمرحلة الحقيقية سادت منذ بداية الرأسمالية وتمثلت بالشركات الاحتكارية المملوكة من الأوليغارشية الرأسمالية بشكل مباشر والمرحلة الثانية كانت المرحلة الرمزية، إذ تولت مجالس إدارة لم تشترط في عضويتها ملكية جزء من رأس المال، لكنها تمثل مصالح المالكين (حاملي الأسهم) حيث تتفاوت القوى داخل مجالس الإدارة بالنصيب الذي تمثله من رأس المال. المرحلة الثالثة هي المتخيل (الافتراضي) وترافقت مع الرأسمالية المالية، والأسواق والعملات الافتراضية.
ترافق الانتقال من كل مرحلة إلى أخرى بأزمة عالمية كبرى، فالانتقال من الحقيقي إلى الرمزي احتاج حرباً عالمية (الحرب العالمية الثانية) وكذلك الانتقال من المرحلة الرمزية إلى المرحلة المتخيلة انطلق بقوة بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية، ليصل مداه بعد انهيار «النمور الآسيوية» عام 1997.
مع بداية القرن الحادي والعشرين، كان الانطباع السائد لدى الرأسمالية أن نظامها هو «نهاية التاريخ» وأن القوى المناهضة للرأسمالية «لم تعد قادرة على الوقوف في وجهها». هذه القناعة دفعت منّظري الرأسمالية البارزين من أمثال ميلتون فريدمان إلى إعادة تعريف دور الأزمة في بنية النظام الرأسمالي، من حيث إنها فرصة لإعادة توجيه اقتصاد السوق وتزويده بآليات جديدة لضبط نفسه، وإزالة المزيد من القيود الحكومية المفروضة عليه. انطلق اقتصاديو السوق الحر يبشرون بعقيدتهم الجديدة، في حين تولت الجيوش معاقبة كل من يرفض الانسياق إلى النمط العالمي الجديد المسمى «الليبرالية الجديدة».
تمت معاقبة سلوبودان ميلوسوفيتش في صربيا عام 1999 تحت شعار حقوق الإنسان، لكن المفاوض الرئيس في الوفد الأميركي ونائب وزير الخارجية آنذاك ستروب تالبوت، قال في كتابه «درب الصدام: حلف شمالي الأطلسي وروسيا»: بينما كانت دول المنطقة تسعى إلى إصلاح اقتصاداتها والتخفيف من التوترات الإثنية وتعزيز المجتمع المدني، كان يبدو أن بلغراد تشتهي السير في الاتجاه المعاكس. ليس مفاجئاً إذاً، أن الأمر انتهى بمواجهة بين حلف شمالي الأطلسي ويوغسلافيا.
في عام 2003 اختيرت العراق لتكون «أنموذجاً» للشرق الأوسط. لم تكن فكرة «الأنموذج» خرافة أو نوعاً من نظرية المؤامرة، فهذه الفكرة تبناها الكثير من «مثقفي» الرأسمالية وعلى رأسهم ميلتون فريدمان (مرة أخرى) وشاركه النظرية نفسها جوشوا مورافيشك- أحد مثقفي معهد المشروع الأميركي- الذي توقع أن ينتج من غزو العراق «تسونامي ديمقراطي ليبرالي يجتاح العالم العربي وإيران» أما المحافظ المتشدد مايكل ليدين- المستشار في إدارة بوش الابن- فقد رأى أنها «حرب لإعادة تشكيل العالم».. لم يكن الخيار عشوائياً، فقد تناقش مسؤولو الإدارة الأميركية في خيارات متعددة منها سورية، ومصر، وإيران، لكن كفة العراق رجحت لعوامل كثيرة منها الضعف الاقتصادي والعسكري نتيجة الحرب والعقوبات، والسخط الشعبي على النظام الحاكم، وكذلك الخبرة بالأرض العراقية ووجود علاقات مع بعض الأطراف الداخلية العراقية بعد حرب الخليج 1991.
جاء عام 2005 ليمنح النظام الرأسمالي فرصة جديدة لتقديم «أنموذج» جديد في المنطقة. خاصة بعد رفض سورية شروط الإدارة الأميركية التي حملها كولن باول عام 2003. بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، بدت الظروف مواتية للانفراد بسورية وتحويلها إلى عراق جديد وبعد عودة الجيش العربي السوري من لبنان عقب إنجاز مهامه القومية في مساعدة هذا البلد الشقيق، أطلقت الرأسمالية حرباً ضد المقاومة اللبنانية في تموز 2006، جاءت نتائج تلك الحرب معاكسة لأماني القوى الرأسمالية، بل إنها منحت كلاً من سورية وإيران موقعاً أقوى من خلال خلق محور جديد، سماه الإعلام «محور طهران – دمشق – الضاحية الجنوبية»، وهو المحور الذي سيصبح بدءاً من آذار 2017 محور المقاومة.
لم يكن النظام الرأسمالي ليتجاوز نتائج هزيمته في لبنان، لولا الكارثة التي حلت به مع نهايات عام 2007 وبداية 2008. جاء الانهيار المالي ليخلق أزمة غير قابلة للحل، وغير قابلة في الوقت نفسه للتحول إلى فرصة أو أداة لتثوير الرأسمالية ودفعها نحو الأمام… لقد أسقط في يد الجميع، وبدت الرأسمالية من دون مستقبل. تلك اللحظة التقطها سمير أمين عندما كتب «الرأسمالية المعاصرة بلغت مرحلة الشيخوخة».
لم يكن متوقعاً أن ترفع الرأسمالية الرايات البيضاء، وهو ما لم يحدث، لقد تفتقت العقلية الرأسمالية عن حل مبتكر في ظل انعدام الآفاق المستقبلية، وذلك بالاستدارة نحو الماضي، واستعادة الرأسمالية التقليدية القائمة على صناعة البضائع وبيعها واصطدم هذا الخيار بالاقتصادات الصاعدة في العالم، وبضعف قدرة الرأسمالية على استعادة سيطرتها على أسواق التقنية والاتصالات، وفقدانها السيولة النقدية، لكن الرأسمالية استفادت من عاملين مهمين:
العامل الأول: تقاعس اليسار العالمي عن التحرك واستغلال الأزمة وطرح نفسه وبرامجه بديلاً للنظام الرأسمالي. لقد كمنت مشكلة اليسار في عدم وجود البرنامج البديل. لقد انخرط اليسار في النظام الرأسمالي وأصبحت برامجه جزءاً من برامج هذا النظام. لم يمتلك اليسار برنامجاً قابلاً للتنفيذ، أو بالمصطلح الرأسمالي برنامجاً «يعمل». لقد ركن اليسار إلى فكرتين ساذجتين؛ الأولى هي استحالة انهيار النظام الرأسمالي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لغياب القوة القادرة على هزيمته وتدميره، والفكرة الثانية كانت ركون اليسار إلى أن المعجزة إن حدثت وانهار النظام الرأسمالي فإن الحتمية التاريخية تقول إن العالم الرأسمالي، عند انهياره، سيسقط في حضن اليسار والاشتراكية.
العامل الثاني: القوة العسكرية، فالعالم الحقيقي الذي تشكل أثناء غياب الرأسمالية وانشغالها بعالمها الافتراضي، أصبح عالماً منتجاً لكل أنواع البضائع، وتحول مركزان من مراكز الرأسمالية؛ أوروبا وأميركا، إلى أكبر مستوردين للبضائع من الاقتصادات الناشئة، لذلك كان لا بد من إعادة تشكيل العالم بالقوة.
هاجمت الرأسمالية العالم مستخدمة أقوى أسلحتها، وأعتى جيوشها. لم يكن هدف الحرب السيطرة على الدول، ولكن تدميرها، وتحويلها إلى دول فاشلة غير قادرة على الإنتاج والتحكم باقتصاداتها لتستورد من المركز الرأسمالي حصراً وبشروطه. برغم الجرائم والمجازر البشعة التي ارتكبتها الرأسمالية في أماكن مختلفة من العالم، فإنها لم تستطع حسم المعركة، الدائرة على الأرض، لمصلحتها، فما زال معظم الدول الأوروبية يعاني الإفلاس، وما زال ميزان الإنتاج يميل لمصلحة القوى الاقتصادية الصاعدة. لم تأتِ المقاومة من النقيض الإيديولوجي للرأسمالية، ولكن من رأسماليات صاعدة قائمة على مبادئ الرأسمالية التقليدية (إنتاج البضاعة وبيعها) تحاول الحلول مكان الرأسمالية العجوز، لتبدأ دورة حياة الرأسمالية من جديد.
تغيب قوى اليسار تماماً عن ساحة الصراع الحقيقي، وهي إن حضرت فهي منخرطة تماماً في الحروب التي صنعتها الرأسمالية العالمية للخروج من أزمتها. ينخرط هذا اليسار بكليته في الاحتجاجات الجماهيرية التي يطلق عليها جزافاً صفة الثورة، ويناضل تحت لواء مطالب ليبرالية، تتمثل في الديمقراطية، والانتخابات الشفافة، وحرية الرأي، ولا يطرح هذا اليسار برنامجه الجذري للتغيير، بل إنه يقف في الصف المعادي للقوى والأطراف التي تواجه الهيمنة الرأسمالية في الميدان. لم يعد اليسار يمتلك ذلك الوعي الكوني الذي مكّنه ذات زمن من فرض برنامجه على العالم. يسار اليوم يحبس نفسه في قمقم المحلية، باحثاً عن الجماهيرية، رابطاً نفسه بقضايا فرعية فئوية، غائباً، بإرادته، عن القضايا الكلية.
لسنا قريبين، بعد، من هزيمة الرأسمالية، لكن الفرصة اليوم تبدو أفضل من أي وقت مضى خلال العقود الأربعة الماضية.. كل ما على اليسار فعله هو امتلاك وعي كوني، وترجمته لبرامج قابلة للتنفيذ، بعيداً عن الإنشاء والعبارات الحماسية، والخروج إلى ميادين مواجهة الرأسمالية، والتحالف مع القوى التي تخوض المعركة، فهل نفوت هذه الفرصة أم نستغلها؟