منذ أن أطلقت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا في شباط 2022, اعتبرت الولايات المتحدة وفريقها الأطلسي – الغربي أن موسكو وقعت في الفخ الذي نُصب لها في أوكرانيا منذ عام 2014, وانطلقت حرب الوكالة والأصالة المقنعة على روسيا, وسط تحالف الناتو ودول الإتحاد الأوروبي وبريطانيا ودول البلقان وغيرها, لخلق فرصة “تدمير روسيا, والإقتصاد الروسي” – بحسب ما صرحت به ليز تراس رئيسة وزاء بريطانيا اّنذاك, وتقدم المهاجمون عبر الخطوات والمراحل التنفيذية المعدة سلفاً, تمثلت بإغراق القوات الروسية بحرب استنزاف عسكري, يقابله دعم قوات كييف وتزويدها بكافة أنواع الأسلحة النوعية, بالإضافة إلى تطبيق حصار سياسي وإعلامي ومالي وإقتصادي على الدولة الروسية, شمل أيضاً حصارها من كافة الجوانب بما في ذلك تشويه سمعتها وإنجازاتها التاريخية, وإرثها الحضاري والثقافي والفني وحتى الرياضي, ترافق كل ذلك مع إطلاق حملة سرقة أصول الأموال الروسية, وإطلاق حزم العقوبات المالية والإقتصادية المتتالية التي بدت وكأنها بلا أسقف وبلا نهاية.
وبعد مضي 28 شهراً للحرب على روسيا وجد الأوروبيين أنفسهم محاصرين بأزماتٍ اقتصادية وأزمة طاقة حادة, تضاف إلى أزماتهم الداخلية التي تضاعفت بفضل سير حكوماتهم وراء مصالح الولايات المتحدة على حسابهم, كما يحصل الاّن في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وغيرها, ناهيك عن الدعم المالي الكبير الذي اُجبرت تلك الحكومات على ضخه يومياً في خزائن حكومة أوكرانيا لضمان استمرار الحرب “الكارثية”, فضلاً عن تكاليف شحنات الأسلحة التي تُرسل يومياً إلى ساحة المعركة, في وقتٍ بدأت معالم الفقر والجوع, والتهجير والبطالة وغيرها من التداعيات تتفاقم بسرعةٍ مخيفة, وسط إرتفاعٍ غير مسبوق في أسعار السلع الغذائية ومواد الطاقة المختلفة, وسط انشغال الحكومات الغربية بقطع إمدادات الطاقة الروسية, والقبول بالبدائل الأمريكية بأسعارٍ خيالية.
في الوقت الذي تأكد فيه فشل الحصار وضعف أو انعدام تأثيره على العملة والإقتصاد الروسيين, بعدما شهدا إرتفاعاً بحسب عديد المؤشرات المالية والإقتصادية والتجارية, فيما تستمر القوات العسكرية الروسية بتحقيق الإنتصارات والتقدم الميداني, والسير بثقة نحو تحقيق كامل اهدافها.
لم يتأخر الأمريكيون بقراءة النتائج السلبية وغير المتوقعة المسجلة في يوميات الحرب الهجينة على روسيا, وبات السؤال حول أسباب فشل الحصار والإصرار على تطبيقه, وحول تقييم ما إذا كانت موسكو قد شكلت حالةً فريدة في كسر الحصار.
في الوقت الذي تجيب فيه صفحات التاريخ عن عديد الحالات التي فشل فيها الحصاروالمحَاصِرون, وليس أدل على ذلك من حصار روسيا ذاتها في ستالينغراد عام 1942, وكيف هُزم الألمان ولم يستطيعوا كسر الخط الدفاع الأخير للجيش الأحمر, الذي استطاع تحويل الحصار إلى فرصة للإنتصار وسحق الجحافل النازية, وهذا يؤكد على الخلل الكبير في استراتيجية خوض الحرب, وتقييمها الضعيف لكافة الظروف ونقاط قوة “الأعداء”, واكتفائها بحشد الجنود وتوفير الأسلحة.
من الواضح أن الولايات المتحدة اعتقدت أن خوض المواجهة مع روسيا عبر الوكلاء الأوكران والأوروبيين, سيجنبها الصدام المباشر معها, وسيكون بإمكانها عبر مقعد القيادة التحكم بسير المعركة وحصد الإنتصار, في وقتٍ أتى ذلك على حساب إغفالها حساب وتقييم كافة الظروف المؤثرة في المعركة, وتبين أن حرص المخططين الإستراتيجيين الأمريكيين ركّز على حجم المال الذي ستجنيه الولايات المتحدة وذاك الذي ستنفقه روسيا في الحرب والحصار في ظل العقوبات, دون الإكثرات بالأضرار التي لحقت بالدول الأوروبية المحاربة, بالإضافة إلى التركيز على إنهاك روسيا واستنزافها عسكرياً, مهما بلغت خسائر “الشركاء”, والتعويل على تراكمية الخسائر الروسية وتحولها إلى خسائر نوعية فادحة, حتى لو كان على حساب الأراضي التي تستعيدها.
كذلك أظهرت طريقة تعامل الولايات المتحدة وأتباعها مع مبادرات السلام إفتقارها إلى الجدية, وبأنها جزء من الخطة والرواية الإعلامية, وسط تعويلها على رفض روسيا المبادرات المفخخة, التي يشكل قبولها استسلاماً روسياً, لتبرير إستمرار النهج العدائي ضدها.
تدرك الولايات المتحدة عدم قدرة روسيا على وقف القتال وإبرام التسوية التي تناسبها في وقتٍ واحد, كذلك تدرك روسيا خطورة استمرار الحرب إلى أجلٍ غير محدد كما يشتهي الأمريكيون, الذين سيرفضون السلام بشروط روسية, وسيبقى تدمير القوات المسلحة الأوكرانية الخيار الوحيد المتاح حالياً, إلى حين نضوج واستبدال فكرة استعباد أو تدمير أوروبا بفكرة السلام الأمريكي فيها.
في الوقت الذي تراقب فيه الصين المشهد عن كثب وبحذر وحكمة, وتحاول عدم الوقوع في الفخ الأمريكي والانجرار إلى صراع عسكري مع الفلبين أو تايوان، رغم الاستفزازات الأمريكية المتزايدة, وإحتمالية إندلاع الحرب في المحيط الهادئ في أي لحظة.
ومع محاولات كل من روسيا والولايات المتحدة تجنب الصدام المباشر, وسط إعتقادهما بأن ما يجري هو مقدمة للصراع الكبير، أدى إصرار واشنطن على إضعاف “شركائها” الأوروبيين إلى فرض إقترابها أكثر فأكثر من المواجهة المباشرة, وسط خشية العالم من أن تتحول المواجهة إلى أمر حتمي.
تستشعر عدة دول حول العالم الخطر القادم, ويحاول بعضها كروسيا وفرنسا والصين ودول البريكس وغيرها, العمل على إبطاء سرعة الأحداث وكبح التصعيد العسكري والسياسي في الجبهات التي أشعلتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة وأقله منذ عام 2000 حتى اليوم, لكن الهزائم والخسائر التي منيت وتُمنى بها الولايات المتحدة تفوق خسائر روسيا, الأمر الذي يدفع واشنطن للشعور بأنها قد حاصرت نفسها بنفسها ما بين الهزيمة الكبرى أو المواجهة الكبرى, وبأنها أوقعت نفسها في فخ شبيه بفخ ستالينغراد, وبات بحثها عن منفذ النجاة يحرجها ويعدها بالمزيد من الهزائم والخسائر, في زمنٍ إنتخابي تفاضل فيه بين ضعف وخرف جو بايدن وجنون دونالد ترامب, واليأس الذي يحملانه للشعب الأمريكي ولشعوب العالم, في ظل مخططي واستراتيجيي الدولة الأمريكية العميقة الذين يدفعون ساستهم في أحدث نسخة, للإعلان عن ولائهم للصهيونية سواء كانوا يهوداً أم لا, ولإرتكاب المجازر في غزة, وتوسيع نطاق المواجهة مع لبنان, واستهداف إيران وسورية, وإستفزاز الصين وكوريا الشمالية, ودعم الإنقلاب العسكري في بوليفيا, واستمرار الحرب على روسيا.
* كاتب وباحث استراتيجي