“إنّ يومَ القدس يومٌ عالميٌّ، وليس يوماً يخصُّ القدسَ فقطْ، بل هو يومُ مواجهةِ المستضعفينَ للمستكبرينَ”.(1)
الإمامُ الخمينيُّ
حركة الأنبياء عليهم السلام على مدى مسيرتهم المضنية، مليئة بالتحدّيات والعوائق والتّضحيات، شهدت صراعا مصيريا بين فئتين من البشر، بين أتباعهم من الطبقة المستضعفة، الذين استجابوا لدعواتهم طوعا، ولم يترددوا ولم يرتابوا في صدقها، وثبتوا عليها، من أجل الخلاص من حالة الاستعباد، والاستغلال والاذلال التي عاشوها، وعانوا منها قبل مجيء بشارات الوحي، وبين أعداءهم من المستكبرين، الذين سيطروا على مجتمعاتهم بقوّة المال وسلطانه، وخبث سياساتهم المنحرفة داخلها، في فرض منطقهم الفاسد عليها، قال تعالى: ” وقال الذين استُضعفِوا للذين استكبَروا بل مكرُ الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا“(2) وبسبب استجابة المستضعفين لنداء الانبياء، والتحاقهم بدعوتهم رفضت قوى الاستكبار الاستجابة لهم، وتأفّفت من الالتحاق بركب العبوديّة الحقة لله، قال تعالى:” وما نراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادي الرأي.”(3)
رفض منشؤه عقليّة التمايز بالتفوّق المادّي، المسيطرة على المستكبرين، عدم قبولهم الرضوخ لمنطق المساواة بينهم وبين سائر أفراد المجتمع، لذلك كانوا يصرون دوما، على اتخاذ نفس موقف العداء من حركة الانبياء الاصلاحية. قال تعالى: “قال الذين استكبروا إنّا بالذي ءامنتم به كافرون.”(4)
وفي هذا العصر ظهر الإمام الخميني، مجدد الدين المحمّدي الأصيل، والمصلح الكبير في الأمة الإسلامية، ليرفع راية الإسلام المستضعف من جديد، في وجه قوى الاستكبار العالمي، ويثبّتها بجهود شعبه على أرض إيران، عالية بجرأة وشجاعة نادرين، ولا يمكن لمن تابع اطوار الثورة الإسلامية الإيرانية، وعاش أخبار فعالياتها المصيرية، وأحداثها القويّة المتسارعة، إلا أن يقتنع بأنها حدث عالمي فريد من نوعه، جاء ليضع أمامنا معادلة جديدة، في ميزان صراع الحق ضد الباطل، تقول: إنّ زمن استضعاف الشعوب ولّى، وقد خط له الشعب الإيراني بقيادته الحكيمة خط اللا رجعة.
نعم لقد عاش الشعب الايراني حالة استضعاف كبيرة، في عهد الشاه المقبور، التقى فيها عليه ظلم أجهزة نظامه الفاسدة، ومحاولات تغريبه بنشر ثقافة لا تمتّ اليه بصلة، دخيلة على عاداته وتقاليده، متناقضة مع عقيدته الإسلامية، فيما عرف حينها بثورة الشاه البيضاء، ومع قانون اطلاق يد الاستكبار الامريكي على مقدّرات الشعب الإيراني، إلى الحد الذي نالت به أجهزته العسكرية والاستخبارية على الاراضي الايرانية، حصانة فيما يقترفونه من جرائم، سبق ذلك كله، مصيبة الاعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة علاقات دبلوماسية معه سنة 1948، رغم معرفة النظام الفاسد أنه اجراء مرفوض من الشعب.
بتاريخ 7 جوان 1967 م اصدر الإمام الخميني فتواه الثورية، بتحريم أي نوع من العلاقة التجارية والسياسية، للدول الإسلاميّة مع اسرائيل، وحرّم شراء البضائع الاسرائيلية، وذلك بعد هزيمة حرب الأيام الستة 1/6 جوان 1967، وقد تسببت تلك الفتوى، في الحاق ضرر فادح بالعلاقات التي أقامها الشاه مع الكيان الصهيوني، بالتزام الشعب الايراني بها، ومقاطعته أي أمر على صلة به، وفي لقائه مع ممثل حركة فتح الفلسطينية في 11/10/ 1968 م، بيّن الإمام الخميني نظرته لحلّ القضية الفلسطينية، وقضايا التحرّر العالقة التي تهمُّ العالم الاسلامي، ودعا إلى وجوب تخصيص جزء من مبالغ الزكاة للمجاهدين الفلسطينيين .
وبعد انتصار الثورة الاسلامية، تجددت دعوته الصادقة، لتتخلص الشعوب المستضعفة العربية والإسلامية من مسار التبعية للدول الغربية الإستكبارية، بعد المثال الرّائع الذي ضربه الشعب الإيراني، في نضاله المرير وثورته المباركة، التي حققت انتصارا مذهلا، على أساس أن الإستكبار العالمي هو أصل مصائب ونكبات الدّول المستضعفة.
” لا بد من العمل لاتّساع نطاق هذه النهضة، إلى العالم أجمع – نهضة المستضعفين بوجه المستكبرين – إنّ إيران كانت البداية، والقدوة لجميع الشعوب المستضعفة، لتنظر الشعوب المستضعفة إلى إيران، كيف وقفت بأيد خالية، ولكن بقوة الإيمان ووحدة الكلمة، والتمسك بالإسلام بوجه القوى الكبرى وتغلّبت عليها، فلتقتد بقية الشعوب بهذا السر الإسلامي الإيماني، لينهض المسلمون في جميع أقطار العالم، بل لينهض المستضعفون، إن الوعد الإلهي قد شمل المستضعفين، حيث يقول عز من قائل: “ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.“(5)
دعوة الامام الخميني الشعوب الإسلامية، إلى تفعيل حركة المستضعفين، التي قاد إليها شعبه في إيران، والنسج على منوالها، لأنها السبيل الوحيد للخلاص من هيمنة وظلم الإستكبار العالمي، وكان من بين بياناته ودعواته، رأت فيها أنظمة الاستكبار الغربية، تهديدا جدّيا لمصالحها، فعملت على تشويه دعوته بمصطلح تصدير الثورة، ليفزع انظمة الشعوب الاسلامية المستضعفة، ويدفعها الى معاداة الثورة الاسلامية الإيرانية، ومحاربة أي نفس متطلّع لها في شعوبها.
” الحمد لله الذي أراد أن يمنّ على المستضعفين بنصرهم على المستكبرين، ويطهّر الأرض من رجس المستكبرين، ويجعل المستضعفين حكاما على الارض، لقد جاء الإسلام لهذا الغرض، وتعاليم الاسلام هي لهذا الأمر، وهو ان لا يبقى مستكبر في الارض، وان لا يستطيع المستكبرون استعمار المستضعفين واستغلالهم، اننا نتبع تعاليم القرآن السامية، وما وصلنا من الاسلام وسيرة الرسول الأكرم وائمة المسلمين.”(6)
ولم يكن تمسّك الامام الخميني بنصرة الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة، الا تحقيقا للهدف القرآني، في الوقوف الى جانب إخوته في الإسلام العظيم، ومساعدتهم على التخلص من قاعدة متقدمة للإستكبار، زرعت في قلب منطقتنا العربية والإسلامية، سرطانا يحول دون تحقيق أي مشروع اسلامي، يسعى دعاته من حركة الإصلاح إلى إعادة فاعلية الدين الخاتم، وقد تكرر تحذيره من الكيان الصهيوني، حتى لا يكاد يخلو خطاب منه.
“منذ ما يقرب من عشرين سنة، وأنا أوصي الدول العربية أن يتّحِدوا، ويطردوا مادة الفساد إسرائيل هذه، إذ لو وجدت الفرصة، فإنها لن تكتفي باحتلال بيت المقدس”. (7).
وكانت رؤيته الحكيمة للقضية الفلسطينية، من وجهة اسلامية قرآنية ايمانية بحتة، ومنها جاء اعلانه ليوم القدس العالمي، يوما للمستضعفين في مواجهة المستكبرين، ويوم تجديد العهد مع مظلومية الشعب الفلسطيني، وحشد الجماهير الإسلامية حوله، من أجل نصرة قضيته العادلة، في استعادة سلطته على كامل ارضه المغتصبة، وخلاصه من جرثومة الفساد.
لكن أغلب الأنظمة العربية في ذلك الوقت، كانت أبعد ما تكون عن فكرته عمليا، ومجانبة تماما لرأيه الذي أعلنه، متحدّيا القوى الإستكبارية المعادية له ولثورته الاسلامية، التي اصطف ضدّها أغلب تلك الانظمة، أما نظريا فشعارات فقط لطمأنة الشعوب، وهي أنظمة خاضعة بقسميها الى المعسكرين الغربي والشرقي، ليس بمقدورها أن تبادر الى شيء مصيري، دون الرجوع اليها، لقد كانت التّبعية للاستكبار العالمي ولا تزال، مكمن الدّاء في سياسات انظمتنا، زادها قتامة سياسات التطبيع مع الكيان الصهيوني التي بدأت تطفو على ساحاتنا السياسية والثقافية والاقتصادية، ولن يتحقق لنا تحرر حقيقي، بغير خروج شعوبنا المستضعفة النهائي والتّام، من دائرة التّبعية لدول الاستكبار العالمي، والتعامل معها مجددا بميزان التكافؤ والنّدّية، وهو ميزان الحق الاسلامي، الذي تتعامل به ايران الاسلامية، منذ انتصار ثورتها مع تلك القوى، باستثناء الكيان الصهيوني، الذي تعتبره جرثومة فساد في الارض يجب محقها والخلاص منها.
المراجع
1 – من خطاب للإمام الخميني بتاريخ 16/7/1979 م
2 – سورة سبأ الآية 33
3 – سورة هود 27
4 – سورة الاعراف الآية 76
5 – سورة القصص الآية 5
6 – صحيفة الامام ج7ص91
7 – من خطاب الامام الخميني بتاريخ 5/5/1979م