في 18 نيسان 2018 نشرت المجلة الصهيونية «ماكو» المتخصصة بالاقتصاد والسياسة تحليلاً بعنوان «كيف ستصبح إسرائيل بعد ثلاثين عاماً» أي بعد مرور 100 عام على نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 واستشرفت المجلة بإحصاءات واستطلاعات رأي ما يمكن أن يبدو عليه هذا الكيان بعد ثلاثة عقود.
وفي الوقت نفسه كان عدد من مراكز الأبحاث والمجلات التي تصدر في تل أبيب قد زاد من هذا النوع من المقالات حول مستقبل المستوطنين في فلسطين المحتلة.. أما الهدف فهو “إعطاء رسالة طمأنة” لهؤلاء المستوطنين عبر صورة ترتسم في ذاكرتهم وكأن “القيادة العسكرية والسياسية” في الكيان الصهيوني “سيكون بمقدورها” أن تضمن بقاءهم مغتصبين لهذا الوطن من دون أي اعتراض أو عائق أو مقاومة من أصحاب الأرض وجوارهم الشقيق.
ورغم وجود هذا المنهج في العلوم لاستشراف المستقبل بعد عشرات السنين وطرح التقديرات والاستنتاجات إلا أن “القادة” والمفكرين في الكيان يستخدمونه بطريقة وشكل يعرض نتائج مرتبطة بتحقيق أهداف سياسية وليس علمية موضوعية ويتجنب هؤلاء المفكرون عرض أو افتراض انتصار أصحاب الحقوق واستعادتهم لوطنهم وحياتهم فيه.
ومع ذلك يقول المعدّون للمقال الاستشرافي إنهم طرحوا أسئلة على شريحة تمثل مختلف أنواع المستوطنين من علمانيين ونسبتهم 44% ومتدينين تقليديين ونسبتهم 36% ومتدينين متشددين ونسبتهم 11% ومتدينين سلفيين ونسبتهم 9% حول موضوع الفقر في الكيان (29% يعيشون تحت خط الفقر) فتوقعوا تناقص هذه النسبة مع استمرار الهجرة اليهودية والاستثمارات المتزايدة، ولم يطرح المعدّون سؤالاً حول مدى تفكير المستوطنين في المستقبل بالبقاء أو مغادرة الكيان إلى أوطانهم التي يحملون جنسياتها الأوروبية والكندية والأميركية علماً أن أكثر من مليون ونصف غادروا المستوطنات بلا رجعة خلال العقود الثلاثة الماضية، فافترض المعدّون للاستشراف أن أحداً من المستوطنين لن يغادر خلال الأعوام الثلاثين المقبلة أي في عام 2048.
ويبدو أن الاستشراف لم يستطع إخفاء رأي أغلبية ترى أنه خلال العقود المقبلة لن يوقع “اتفاق سلام” مع تل أبيب سوى ثلاث دول عربية يرجحون أن يكون من بينها المغرب!
تصور كيف يدرك هؤلاء المستوطنون أنهم لا يمكن أن يحظوا بسلام في هذا الكيان خاصة لأن شعوب هذه الدول الثلاث على غرار الشعب المصري والشعب الأردني والشعب الفلسطيني، وهم الذين وقعت سلطاتهم اتفاقيات «سلام» مع تل أبيب وعلى غرار بقية الشعوب العربية الأخرى، فالمستوطنون يرون أن هذه الاتفاقيات لم تنه ولم تلغ عداء الشعب المصري والأردني والفلسطيني لهذا الكيان بكل من فيه.
ولا شك أن المستوطنين يرون أيضاً أن اتفاقية أوسلو عام 1993 ولّدت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة نفسها انتفاضات عديدة معظمها بالمقاومة المسلحة ضد خمسة حروب شنتها قوات الاحتلال منذ «حرب الجدار الدفاعي عام 2002» وارتكبت فيها قوات الاحتلال مجازر في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتلاها أربعة اجتياحات حربية وحشية ضد قطاع غزة، وما زال الشعب العربي في الأراضي المحتلة من الجولان العربي السوري إلى كل شبر في فلسطين المحتلة عام 1948 وعام 1967 يقاوم ويتمسك بإرادته الكفاحية لتحرير أراضيه وهو يعرف أنه ليس وحده بل كل أطراف محور المقاومة تسانده وتدعم حقوقه.
فالكيان الصهيوني شهد طوال 72 عاماً على استمرار اغتصاب قواته لفلسطين -بدعم عالمي بريطاني وفرنسي وأميركي- حروباً تحريرية لم تتوقف، ويرى بأعين المستوطنين أن حدود فلسطين في الشمال والجنوب تحاصره مثلما يحاصره الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين المحتلة ويرفض التسليم بوجود هذا الكيان فوق وطنه. ولا شك أن استمرار هذه المقاومة والتمسك بالحقوق هو الذي يدفع المستوطنين إلى القول بأن يهود بقية دول العالم -ويزيد عددهم على عدد اليهود المستوطنين- يعيشون في أمان وأنهم هم وحدهم الذين يتعرضون للحروب والقتل في هذه الأرض ومنطقتها وهذا هو العامل الذي يدفعهم إلى الالتحاق ببقية يهود العالم في أوروبا وكندا وأميركا بعد أن أصبح وجودهم هنا يكلفهم حياتهم.. حتى وظيفتهم في خدمة المصالح الأميركية والغربية لم يَعُد لها تلك الجدوى التي عولت عليها واشنطن ولندن وباريس في القرن الماضي بعد أن فشلوا في هذه المهمة وهزمتهم قوى المقاومة وأصبحوا هم بحاجة للوجود الأميركي قربهم للقيام بوظيفة حمايتهم وحماية وجودهم بعد تزايد هروب المستوطنين إلى أوطانهم الأصلية التي جيء بهم منها بعد الحرب العالمية الأولى في ظل اقتسام القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية للمستعمرات في العالم.
وفي النهاية يصبح هذا الاستشراف الصهيوني مجرد لعبة تفبركها تل أبيب للمحافظة على بقاء المستوطنين.
* كاتب من فلسطين