حديثنا في هذا المجال لا يتعلق بالشعب التركي، الذي نكنّ لمن يستحقّ فيه كامل الاحترام، ونعتقد أن قسما كبيرا منه غير راض على سياسة بلاده الخارجية، ويراها ماضية في اتجاه لم يختاره، في الإضرار بدول شقيقة له في الدين، ولن تحقق له مطمحا واحدا، بل ستجعله يدفع ثمنا باهظا بعد فشلها.
وعنونته باسم البلد الذي يعيش فيه أغلب الشعب التركي، متعلّق فقط بنظام الحكم فيه، هذا النظام الذي أقامه مصطفى كمال أتاتورك، بديلا لنظام الخلافة الاسلامية، الذي كان ممتدّا من شمال أفريقيا الى بلاد مصر والحجاز والعراق والشام، يجبى اليه خراجها، وتدفع الى بابه العالي ضرائبها، خلال فترة طويلة من الزمن، امتدت ستة قرون من سنة (1342الى سنة 1923)، على حساب تلك الشعوب، وباسم الاسلام، والاسلام من تلك الصنائع والافعال الخبيثة براء، الى ان طمع فينا الاستعمار فغشينا بجيوشه وقواته، مستغلا عوامل ضعفنا التي أوصلنا اليها العثمانيون.
بزوال الخلافة العثمانية، التي تبيّن من أفعالها السيّئة، بعدها عن الاسلام ومبادئه – فما سجله التاريخ عن تلك الحقبة المليئة ظلما وتعدّيا واستهانة بحقوق الشعوب اسلامية كانت أم مسيحية – يؤكد استبداد السلاطين العثمانيين في أحكامهم، وابتزازهم لخيرات الشعوب الخاضعة لهم بعنوان حمايتها، بالقوّة المفرطة والاعتقاد بأن العرق التركي أفضل الأعراق لذلك حكموا الناس بعقلية التميّز والتفوق الدّموي وليس الاسلام، وهذه حقيقة لا يمكنها أن تخفى على أي باحث منصف.
أما اليوم وبتربّع الرئيس رجب طيب أردوغان على كرسي الحكم في تركيا، بعدما نجح في تغيير نظامه من برلماني الى رئاسي، مستغلا حصوله على الأغلبية المؤثرة في القرارات في البرلمان التركي، ما منحه صلاحيات كاملة في اتخاذ أي قرار دون الرجوع به الى أي جهة شريكة له في الحكم، وبدأ من أحداث سوريا، والمؤامرة الدولية التي لا يزال مشاركا فيها هناك افتتح سجلّ تدخلاته الخارجية، بالعنوان التاريخي الذي ملأ عقله، في أن سوريا هي ارض تابعة للحضرة العليّة، ويجب استعادتها، بواسطة جماعات ارهابية متعددة الجنسيات، وقع تشكيلها جنوب تركيا، وادخالها الى الشمال السوري، ومنه الى بقية المناطق السورية، عند بداية المؤامرة، وبقيادة ضباط من المخابرات التركية، بدأت عمليات قضم الاراضي واحتلال المدن والقرى، والتي أصبح الجميع يعرف نهايتها، وفشل مشروع اسقاط الدّولة السورية، وهي اليوم على مشارف نهاية الحلم العثماني، الذي يشترك فيه مع الكيان الصهيوني وأمريكا، في غلق ملفّ المقاومة نهائيا، وبدء عصر شرق أوسط جديد، تكون الهيمنة فيه لوكيل الغرب، يحكم بما لا تقوم فيه قائمة للمنطقة بأسرها.
ولم يكن الملفّ الليبي بمنأى عن أحلام أردوغان في التّوسّع، خصوصا وقد وجد في حركة الاخوان بالقطر الشقيق، كما وجدها من قبل في سوريا، تشجيعا لتدخّلاته الاستخبارية والعسكرية، وكان فيه هذه المرّة جريئا – ليس لشجاعته وانما لعقلية اتكائه على حلف النّاتو- فقد ارسل – كما جرى تخطيطه بالنسبة لسوريا – مجموعات ارهابية أصيلة شمال أفريقيا (ليبية تونسية جزائرية)، بقيادات تركية لدعم حكومة الاخوان بطرابلس، ونجح ذلك الدّعم في كسر شوكة قوات برلمان بنغازي وقوات المشير حفتر، فتقهقرت الى وسط ليبيا.
واليوم يبدو المشهد على أبواب معركة، لا يعرف مداها ولا نتائجها الميدانية، فحشد القوات من الجانبين قائم على قدم وساق، ومع اعلان برلمان بنغازي موافقته على تدخل عسكري مصري الى جانب قواته، لم يعد هناك شك في أن الصراع القائم بعنوانه التاريخي أو الحقوقي كما يراه الإخوان في شرعية حكومتهم بطرابلس، ليس سوى صراع على مدّخرات النفط والغاز في ليبيا، ولا شرعية لهؤلاء ولا هؤلاء على الشعب الليبي، الذي سيكون أكبر خاسر، لو استمر هذا الصراع القذر تركيّا، والخبيث أمريكيا وفرنسيا.
ولو يستوعب الليبيون الدرس السوري، فإنهم حتما سينقذون بلادهم من خطر التقسيم، الذي اصبح شبحا مخيفا ماثلا أمامهم، واستغلال مواردها كأبشع ما يكون، فلا حكومة الوفاق التي استنجدت بأردوغان الذي لا يقدّم على مصالح بلاده شيئا، وشعاراته التي ما فتئ يشنّف بها اسماعنا، عن تاريخ تركيا الاسلامي ودورها فيه، ليست سوى دعايات فارغة كالطّبل الأجوف، يمكنها أن تفيد الليبيين وتنقذهم من مصير مجهول، ولا الطرف المقابل بقيادة حفتر، أن ينجح في السيطرة على ليبيا بقوات، هي الأخرى متعددة الجنسيات، تتلقى الدعم من جهات غربية وغربية، من المؤكد أنها لا تريد الخير للشعب الليبي، واستقرار ليبيا هو آخر همّ هؤلاء المتورطين في شأنها.
بسيط حل الأزمة الليبية، لو يجد له عقلاء وطنيين، يجب أن يخلّوا عن انتماءاتهم الفكرية والعقائدية لفائدة الوطن، ولمّ شمل جميع الليبيين عليه، بعيدا عن حسابات المصالح الشخصية، والمحاصصات الحزبية السيئة الذكر، الصراع العسكري وقواه الاقليمية المتدخلة واللاعب الاساسي فيه، ودق طبول الحرب بين أبناء البلد الواحد، من شأنه أن يزيد الوضع تعقيدا، وعلى أصوات العقلاء في ليبيا، أن تعيد النظر في الحسابات المحتملة، من هذا الطرف أو ذاك، لتجنيب ليبيا وشمال افريقيا ارتداداتها وعواقبها، والضرر الذي سيلحق بتونس والجزائر سيكون كبيرا لو تغلب الإخوان في طرابلس، عندها سيكون تهديد الارهاب من حدودنا الشرقية كبير، وسيكون لسان النطق الاخواني بتونس والجزائر أطول وأحدّ.
الاتراك لا يهمهم سوى مصالحهم ودخولهم الى الساحة وعرض اردوغان نفسه بانه الولي الصالح للإخوان وللاسلام بمنطقه الطائفي الضيق، ليس سوى تعمية على مخطط خطير، تسيطر فيه تركيا اقتصاديا على المنطقة العربية بالتدريج، لترتفع اسهم اقتصادياتها ويذهب البقية الى الجحيم، النظام التركي علماني بل ماسوني بامتياز، ولا علاقة له بالدين الاسلامي في أحكامه وتشريعاته، ومن اعتقد بخلاف ذلك، فعليه أن يراجع نفسه، ويعود الى جادة الحق، فليس بعد الحق الا الضلال.