منذ أكثر من عقد ازدحمت الأراضي السورية وأجواءها , بجحافل الغزاة , الذين تسللوا عبر دول الجوار , وحلقوا في سماء سورية عبر التحالف الستيني, ناهيك عن جحافل التنظيمات الإرهابية القاعدية , وتلك المحلية التي سُحبت من أضلاعها , يا لها من حربٍ كونية تعرضت لها الدولة السورية , في زمنٍ إدعت فيه القوى الغربية الإستعمارية نهاية مرحلة الإستعمار , وترفرف فيه أعلام الإنحياز ونفاق الأمم المتحدة كحامٍ لسيادة ووحدة أراضي دولها الأعضاء , وصوتها الممزوج بمعاييرها المزدوجة , المنادي بإحترام حقوق الدول والإنسان على ضفةٍ , ويسمح بإختراقها على الضفة الأخرى.
لا بد لهذا المشهد أن يعود بنا نحو قرن من الزمان , وإلى طاولات سايكس بيكو, ومؤتمر سان ريمو, وموافقته على معاهدة سيفر عام 1920 بكامل وحشيتها، وتقسيمها المنطقة العربية إلى عدة كيانات وأجزاء, وخصت منطقة العراق وسورية الطبيعية بتقسيمها إلى لبنان و شرقي الأردن وفلسطين وسورية, وبتحويل وعد بلفور إلى وثيقةٍ دعمها الغرب وفرضها واقعاً, لم يعد بالإمكان تغييره إلاّ بالحاق الهزيمة بالكيان الغاصب وإزالته عن خارطة فلسطين.
فمنذ ما قبل الحرب العالمية الأولى, شكلت ثروات الدول وشعوب المنطقة , ونفطها المكتشف, هاجساً وهدفاً جيوسياسياً بريطانياً, وباتت المصالح النفطية والثروات محفزاً رئيسياً للسياسة العالمية والغربية تحديداً, وصبّت تركيزها على استهداف ووراثة الدولة العثمانية, والأراضي العربية التي تحتلها, والغنية بالثروات والنفط كالموصل العراقية, وشمال شرق سورية, تحت ذريعة تحريرها من العثمانيين, في وقتٍ استبعدت فيه اتفاقية سان ريمو شركات النفط الأميركية وحرمتها من تقاسم المصالح النفطية في المنطقة.
لم يطل الزمن, إلى أن نشبت الحربين العالميتين, وخرجت منهما أمريكا وحليفها الروسي منتصرين, وتم استبدال قائد المشروع الصهيوني – الغربي البريطاني, بالقائد الأمريكي الجديد, الذي حول الدول الأوروبية من سادة الإستعمار والعالم إلى عبيد مشروعه, ومن دولٍ تتقاسم الثروات إلى دول تنتظر فتات المائدة الأمريكية, وحول تركيا من امبراطورية عثمانية تغزو وتقتل بحثاً عن “مجدها” وتخمة ثرواتها, إلى دولة أطلسية تابعة, تصطاد لينعم الأمريكي بصيدها, فيما بقيت الدول الضحية, ضحايا لذات المشاريع, لكن على يد جلادٍ جديد.
أضعف السيد الأمريكي حلفاؤه الغربيين, وسخّرهم لخدمة مشروعه, كذلك حاصر حليف نصره الإتحاد السوفيتي وأطاح به, وهيمن على العالم, واعتمد على خبرة أدواته الأوروبية والتركية في إحتلال دول وشعوب المنطقة, وعلى معرفتهم بدقائق الأمور فيها, واستخدمهم وعملائهم لصالحه, وحصد كل “زرعهم”, وأوكل إليهم ذات مهامهم وأدوارهم السابقة.
وجاء بقواته وقواعده العسكرية إلى المنطقة, ودخل العراق غازياً محتلاً, وكذلك فعل في سورية, واعتمد على المشروع التركي – العثماني , وسيلةً لبلوغ أهدافه والنيل من ثروات كلا البلدين العربيين, لكنه اصطدم بالمشروع التركي, بعد تلقيه دعماً روسياً, ساعده على زيادة مساحة أرجحته ومراوغته وحجم المكافئة .
وعليه ما يحصل اليوم في شمال العراق, وفي شرق سورية وصولاً إلى شمالها وشمالها الغربي, هو صراع أمريكي تركي ظاهري, يكمن خبثه بإمتلاك كل طرف نصف النفوذ داخل معسكر الطرف الاّخر, فالقوات التركية “تمون” على نصف “قسد” ونصف “داعش” , ونصف بعض المكونات العربية في شرق سورية, فيما “تمون” واشنطن على كامل تنظيمي “داعش” وجبهة النصرة” الإرهابيين, وعلى نصف عصابات الإخوان المسلمين والإرهابيين الأجانب, في مناطق النفوذ التركي, وتبقى عملية القيادة والتحكم والأوامر والإملاءات السياسية والعسكرية, من اختصاص “الوحي” الأمريكي – التركي المشترك.
سنوات تجاوزت الإثنتي عشرة سنة , وسورية تتعرض لأبشع أنواع الحروب المباشرة والمركبة والهجينة, اجتمع فيها الاصيل والوكيل, إلى أن تصدّرها الأصيل بشكلٍ علني, ناهيك عن الحصار والعقوبات أحادية الجانب, المخالفة لكافة المعايير والقوانين الدولية , فيما استمرت عمليات السرقة المنظمة للنفط السوري, والاقماح والاّثار وغير ثروات, فيما تعرض أهالي الشمال والشرق السوري إلى أبشع أنواع الظلم والقهر والتغيير الديموغرافي, والتجنيد القسري للشبان والإعتداء وخطف الشابات, وتجنيد الأطفال, في ظل إدارات توحشٍ, أطلقوا عليها “الإدارة الذاتية” في الشرق, و”المناطق المحررة” شمالاً, وأرادها المخططون مناطق مغتصبة عن الجسد الأم للوطن, وإعلانها مناطق “اّمنة وعازلة, ومناطق ما وراء الجدار الإسمنتي”.
ومن خلال الإنتصار العسكري للدولة السورية, أجبرت طرفي العدوان الأمريكي والتركي على الإنتقال إلى الحلول السياسية, ما دفع الأول إلى توحيد ما تسمى الأحزاب الكردية, ولإعادة إحياء تنظيم “داعش”, والثاني للبحث عن تمددٍ جغرافي واسع, وابتلاع “جبهة النصرة” لكافة الفصائل الإرهابية الاخرى, من خلال مخططٍ بدت معالمه واضحة , للجلوس على طاولة المفاوضات برأسين الأول عرقي والثاني طائفي متطرف, لينتزعا سويةً من الدولة السورية, نظامها السياسي المركزي المقاوم للمشروع الصهيو-أمريكي, ولتكريس الإنفصال شرقاً لصالح كيانٍ أو كانتونٍ كردي, وقضم المزيد من الأراضي السورية شمالاً لصالح تركيا وضمها إلى ما سبق واحتلته وقضمته الإمبراطورية العثمانية البائدة.
فشل الأمريكيون بتوحيد الفصائل والأحزاب الكردية, كذلك لم تتمكن أنقرة من إقامة المنطقة الاّمنة, رغم عملياتها العدوانية العسكرية الأربع السابقة, فقرر أردوغان شن عملية خامسة, لطالما هدد وتوعد بها خلال الأشهر الماضية, لكنه اصطدم بالموقف السوري, وخشية مواجهة الجيش العربي السوري, ورفضٍ شعبي سوري واسع, حتى في مناطق الإحتلال والسيطرة التركية – الإرهابية , كذلك اصطدم برفضٍ روسي وإيراني , ورفضٍ أمريكي معلن وسخيف.
ومع إقتراب الإنتخابات التركية, وإحتمالية سقوط أردوغان, نتيجة تردي الاوضاع المعيشية والإجتماعية والتضخم استمرار إنهيار الإقتصاد والليرة التركية في عهده, كان لا بد لواشنطن وأنقرة استعجال المخطط القديم – الحديث, وإقامة المنطقة العازلة, وإضعاف تركيا لنصف “قسد” الرافض للمشروع التركي, والطامع بالإنفصال وبالحماية الأمريكية .. فلجأ أردوغان ووسائل إعلامه للتركيز على أعداء تركيا, وما تتعرض له من هجمات إرهابية على يد حزب العمال الكردستاني وميليشيات وحدات الحماية الكردية, اللذان تصنفهما أنقرة بـ “الإرهابيين” , وبحث مجدداً عن الضوء الأخضر الأمريكي والروسي والسوري , فكانت الإنعطافة التركية المزعومة تجاه الدولة السورية.
وبدأ الإعلام التركي والرئيس أردوغان وبعض ساسته , بإطلاق عشرات التصاريح والمواقف الكلامية – الإعلامية, حول إنعطافةٍ تركية تجاه سورية بهمسٍ روسي, وادعوا بحصول عديد اللقاءات الأمنية مع نظرائهم السوريين, في الوقت الذي تحدث الرئيس التركي عن “إمكانية إعادة النظر في العلاقات السياسية مع سورية بعد الانتخابات” الرئاسية التركية القادمة , ووصلت الماكينات الإعلامية والسياسية التركية بث أضاليلها, وتفاؤلها بإمكانية لقاء الرئيس بشار الأسد بالرئيس التركي, وحصول “المصافحة” السياسية والشخصية.
استغل أردوغان طراوة اللسان تجاه سورية, وخشونتها وحدتها تجاه الإرهابيين ( قسد وحزب العمال الكردستاني), لصرف الأنظار عن استعداداته للعدوان الجديد, بعد تحميل موسكو مسؤولية “عدم تنفيذ إلتزاماتها بإبعاد الكرد عن المناطق الحدودية بحسب اتفاق سوتشي عام 2019″, وانتظر إنشغال العالم بالحدث الرياضي الدولي في المونديال, وأطلق عدوانه عشية إنطلاق صافرته, متكئاً على حشد الداخل التركي بأحزابه ومواطنيه, تحت راية حماية الأمن القومي التركي, مستغلاً عملية إستخباريةً مفضوحةً , وتفجيراً إرهابياً وسط اسطنبول, اودى بحياة 86 مواطناً تركياً وعدد كبير من الجرحى, مهد له الطريق لإتهام اعدائه من الكرد, وبإلقاء القبض على منفذة التفجير”أحلام البشير” الكردية – السورية, واعترافاتها المزعومة بحسب وزير الداخلية التركي, والرئيس أردوغان شخصياً, وبأنها تلقت تدريباتها في عين العرب السورية على يد أعداء تركيا الكرد في سورية, وبأنه “اّن أوان الحساب”.
ونفذت الطائرات الحربية والمسيرات التركية , بدعمٍ من المدفعية التركية, عدوانها , وادعت قصف ما يتجاوز الـ 250 موقعاً وتحصيناً ومركز قيادة ومستودعات ذخيرة, تعود إلى قوات “قسد” وحزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية والعراقية والتي وصلت ضرباتها إلى الموصل العراقية ( الهدف التركي القديم – الحديث ), وتجنبت البيانات التركية الحديث عن قصف المناطق السكنية, والمشافي , وبعض مواقع انتشار الجيش العربي السوري, واهتمت بالترويج لتصريحات وزير الدفاع التركي, بإطلاق “عملية برية واسعة محتملة بالتوقيت التركي”, وسط تأكيد الرئيس التركي على ضرورة إقامة المنطقة العازلة .
وانطلقت الماكينات الإعلامية والتحليلات السياسية, للحديث عن هوية الضوء الأخضر الذي حصل عليه أردوغان, وسط نفي واشنطن, مع إقرارها “بحق تركيا بالدفاع عن امنها القومي”, وتفهمٍ روسي, قد يندرج في إطار العلاقات الروسية – التركية في إطارها الواسع والمتداخل مع ما يحصل في أوكرانيا, وضرورة حماية الأراضي التركية التي قرر الرئيس بوتين تحويلها إلى مركز دولي للغاز الروسي, والذي من شأنه ضمان وصول أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا , لكن هذا لن يغير من طبيعة وجود أردوغان في حلف الناتو , كحال الرطوبة في لوح خشبي مضغوط , والذي لا بد له أن يتعفن.
فيما يتساءل البعض عن الموقف السوري الرسمي, متجاهلين ثباته ووضوحه وصراحته , والذي عبّر عنه الرئيس بشار الأسد في كافة لقاءاته مع وسائل الإعلام الغربية والروسية , كذلك عبرت عنه وزارة الخارجية السورية مراراً وتكراراً, عبر وزير الخارجية السوري, والمستشارة بثينة شعبان مؤخراً, وعبر وسائل الإعلام السورية الرسمية, ومفاده , بأن سورية تعتبر الوجود التركي على الأراضي السورية وجوداً إحتلالياً , وبأنها لا تؤمن بأقوال تركيا وتنتظر منها الأفعال, كذلك تعبر عن استهجانها ورفضها لمبدأ قيام دولةٍ “بهدف حماية أمنها القومي بالإعتداء على أراضي وسيادة دولةٍ أخرى”, في وقتٍ لا ترى فيه دمشق أية إمكانية للثقة بتصريحات وكلام الرئيس أردوغان, وترى في وجود قواته الإحتلالي, ودعمه للإرهابيين على الأراضي السورية, “ذهنية اّن لها أن تتغير”, كي يتسنى للدولتين التعاون بشكلٍ جدي لمكافحة الإرهاب على طرفي الحدود, وضمان الأمن القومي لكلا البلدين.
وجديرٌ بالمهتمين بالموقف السوري, العودة إلى تصريحات الرئيس بشار الأسد, الذي وصف الإحتلال التركي ووجوده على الأراضي السورية بـ “المخفر المتقدم”, وهذا ما يعبر عن حقيقة المواقف التركية التابعة لواشنطن صاحبة المخطط وقائدة الحرب الكونية على سورية والعراق, وتأكيد إضافي, على انخراط تركيا بخدمة خرائط ومخططات سايكس بيكو وسان ريمو وإتفاقية أنقرة وغيرها من المشاريع الدنيئة, التي لم يتخل المخططون عنها منذ أكثر من قرن, مع فارق استبدال القيادة البريطانية بالقيادة الأمريكية المتصهينة .
تبدو المرحلة شديدة التعقيد بالنسبة لغالبية الأطراف, وتتطلب فيها محاولة إيجاد الحلول نوعاً من المعجزات السياسية والعسكرية , في حين أنها تبدو شديدة الوضوح بالنسبة إلى سورية والسوريين , نتيجة معرفتهم بطبيعة ذهنية أعدائها وتاريخهم ومشاريعهم الإحتلالية والإنفصالية , التي قادتهم للعدوان الجماعي على سورية.
في وقتٍ لم تظهر فيه قيادات ميليشيات “قسد”, الحد الأدنى من النضج السياسي, ولا زالت تتحدث عن طعنات أمريكية, وسط ضياعٍ كلي للمدعو مظلوم عبدي, ولعبة التذاكي ما بين صقور وحمائم “قسد” للحوار مع دمشق, وبتحميله واجب حماية ميليشياته على عاتق الأمريكيين, وبلوم روسيا ومسؤوليتها في دعم تركيا و”كسبها إلى جانبها”, وكالعادة يطلق تصريحاته ومواقفه المتأخرة والسطحية , التي لا تشبه مواقف السياسيين ولا العسكريين أوالحكماء والعقلاء, والتي لم يطلبها منه أحد أساساً, ولأنه لا يزال يسير في الطريق الخاطئة, يبدو أن في صمته اقوى المواقف التي يستطيع إتخاذها, وكفاه هو وواشنطن وتركيا الحديث عن محاربة “داعش”, وإلاّ فسيتوجب عليهم جميعاً إثبات ذلك.
بإختصار .. ما تقوم به تركيا اليوم, هو عدوانٌ جديد على سورية, عقله ومخططه صهيو- أمريكي, وسيفه تركي – إرهابي, ودميته انفصاليو “قسد” .
الوسومالعدوان التركي على سوريا ميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
72 ساعة لولادة الشيطان الجديد.. أمريكا بلا مساحيق التجميل…بقلم م. ميشال كلاغاصي
ساعات قليلة تفصل العالم عن متابعة الحدث الكبير, ألا وهو الإنتخابات الرئاسية الأمريكية, و”العرس الديمقراطي” …