عندما يتداعى مجتمع ما، أو تنهار أجزاء منه، يصبح المتمسكون بالمبادئ والقيم الأخلاقية والثقافة التقليدية في نظر الجميع،
{حفنة مجانين} أو مرضى داخل حلقة منهارة لأنهم يننتمون الى “واقع مات”
بل يصبح قول الحقيقة نَوعًا من الزور،
في واقع مشوه ومقلوب تنقلب المعايير: يصبح البريء والأمين والنظيف غَبِيًّا أو مرِيضًا يحتاج إلى علاج،
وعلى العكس يصبح النصاب والمخادع واللص ذَكِيًّا وشاطِرًا وهو النموذج,, لآن للواقع الجديد له معايير تختلف عن القديم،،حتى الواقع التقليدي بكل ما فيه من معايير يتداعى، لا يعود الواقع الحقيقي مَوجُودًا
رغم أنه موجود لكنه يبقى صورة منتزعة من الماضي بالأبيض والأسود وهو سر العودة الى الصور القديمة والشوارع القديمة والآمكنة القديمة البيوت والمصاطب والملابس ،،كما لو انها زيارة مقابر رغم أجيالنا عشنها اصبحت صورها عالقة في كل الطرقات حتي في الحقول .،فيتحول الواقع الحقيقي إلى مشهد غير قابل للاستهلاك. الواقع الجديد ليس غَصناً
ولا إستمرارية للواقع المتداعي بل هو صورة نقيضة منه،
هو النموذج الجديد في اللغة والزي والأفكار والمقاييس وعلاقات المجتمع وكل من يخالف ذلك ولا ينخرط في حفل تنكري بالآقنعة المزيفة ،
يصبح وجهه الحقيقي مُزِيفًا
، ويصبح الوجه المزيف حَقِيقِيًّا،
كفلاح سافر الي الغرب ودخل شاطئ عُرَاةٌ في هذا التداعي المروع أين يذهب المتمسك والمتشبث بقيمه ومبادئه واخلاقه ،،في عصر الفرجة والصورة ..؟ سيكون هو وحفنة باقية جزيرة معزولة،
في محيط هادر من الصخب والاحتفالات والفرح
والمتعة(في حفلة زور ونصب واحتيال ) بصرف النظر عن نمط وماهية وأخلاقية
الحفل ” يقول عالم النفس “أريك فروم ” المجتمع المريض لا يتساهل مع الأصحاء” وكيف يتساهل مع أصحاء يستعملون معايير نظيفة في التعامل مع واقع مشوه كعملة منتهية الصلاحية ؟
أننا جيل نعيش واقع مخيف اطلق علماء الاجتماع علية
“قتل الواقع”
عندما يقع حدث ما حتى في شارعك، فسوف تراه في الشاشات
حَدَثًا مُخْتلِفًا،
من جهات مختلفة وأهداف مختلفة ومن ضحايا حقيقيين أو متخيلين،
لآننا في زمن الصورة أهم من الواقع، بل الصورة هي الواقع،
ومع كثرة الصور والمحطات والتفسيرات يلوح الحدث كما لو لم يحدث أصلاً، أو كما لو انه حدث بطريقة مختلفة عن ما رأيته، لأننا في مجتمع الصورة أو ” مجتمع الفرجة” الصورة اصبحت أهم من الواقع بل هي الواقع،
لهذا السبب ما بعد حرب اكتوبر عام 1973 والهجرة للخارج والانقلاب الاقتصادي . ومجتمع ريفي استهلاكي ” إطروحة موت الواقع”: اصبحت حقيقة، الواقع كائن حي يمرض ويتفسخ ويموت أو يُقتل، لقد مات واقع المجتمع الريفي المصري بعد التحولات العاصفة بداية الثمانينيات من القرن المنقضي واختفت الرموز في القرية المصرية،واختفت عائلات وصعد الرعاع السفلة الأقزام ،في كل المناسبات تصدروا المشهد وكأنهم في ثأر من ماضي عاشوا فية أجدادهم وآبائهم،وكذلك مات واقع القرية بعاداتها وتقاليدها الراسخة ومات واقع القرية المنتجة ،لنعيش داخل قرية بمواصفات النظام الريعي والمضاربات العقارية ونظام رأس مالي متوحش .، وولد واقع آخر ونحن لا نعيش الواقع نفسه طوال الحياة بل نعيش صورته المتلاشية لكن نعيشة في الذاكرة ومن هنا يكون التنافر النفسي: بين :-واقع منقرض وواقع جديد” لم يترسخ وكل فرد يختار الواقع الذي يريده حسب تجربته حَنِينًا أمْ نُفُورًا،، ما قدمته وسائل التواصل الاجتماعي عن مجتمع الفرجة يختلف عن ما يحدث في الواقع بل تم قلب الصورة
” أثناء هذا التحوُّل تم قلب الواقع والحقيقة وإعلان موتهما. وتم تعويضهما بكل أشكال الزيف والمخادعة والتشويه عن واقع مات في الريف فمثلاً تم متابعتها عبر صور للمجتمع الريفي ؛ وكأنه مباراة كرة قدم، وذلك بعد أن جرى مُعالجة الصورة وتحريرها، فبدت كفيلم سينمائي أو لعبة من الألعاب الإلكترونية، فهي تبدو نظيفة لا تعكس الدمار والخراب الذي حاق بالمجتمع المزيف الجديد الذي انتشر فية الجريمة والمخدرات والرياء والنفاق والبلطجية ولغة جديدة “
لذلك لم تقع التحولات بل في الواقع بعد ان تم” قتل الواقع الحقيقي” وخلق آخر.،، ولكن تعلمنا من الفلسفة ان نطرح اسئله ..؟ فما الذي يمنعك لكي لا تنخرط فيه..؟ لماذا تبقى الهامشي والمحروم من حفل الزور، والفرصة متاحة لتنخرط في وجود جديد، و”حرية” جديدة ودعك من اخلاقيات المفاهيم…؟الواقع الجديد لا يحتاج الى تعريف بل إلى فاعلية وعليك أن تنجح قبل كل شيء، حتى النجاح اليوم في الواقع الجديد يختلف، بل يتناقض ويعادي النجاح التقليدي الذي يشترط الحق والضمير والإنصاف
والنَّبْلُ والمشقة.”ماذا كسبت من هذه القيم..؟ عبارة قد تسمعها كَثِيرًا كتوبيخ مرات عن” فشلك” في أن تكون جُزْءًا
من الصورة الجديدة.،،؟مع ان الخيارات كثيرة والحشر بين خيارين مثل من يترك للمشنوق حق الاختيار في الشنق على هذه الخشبة او تلك.،، اصبح
صناعة النموذج اليوم تمتد من السياسة الى الموضة وحتى علاقات العاطفة والى الأجهزة الحديثة:
ما يثير فيك الاعجاب ليس نُبْلُكَ الاخلاقي ولا ثباتك الفكري والعاطفي ولا انجازك الفعلي،
بل نوع هاتفك الخلوي وملابسك وسيارتك ، لإنه تم سلب الواقع الحقيقي وإفراغ له”.هو السبب الذي يجعل بعض الناس يشعرون بالإغتراب النفسي حتى في الآمكنة القديمة” الميتة” امكنة الطفولة والإغتراب أقصى من الغربة المكانية التي قد تكون محررة ومنقذة وفرصة حياة جديدة.،فلماذا الاصرار على أن تظل أَمِينًا وَشَرِيفًا، وحامل مبادئ ولا تلحق بالجماعة..؟
الا ترى هؤلاء في الواقع الجديد كيف صاروا في الغنى والرفاهية والمتعة..؟بهذه الصورة تتم محاصرة الساخط والرافض والمحتج والمتمسك بقيمه ونظافته الداخلية، حتى يشعر في لحظة ما أنه غير طبيعي،
أو حتى غير عادي لأنه فضل البقاء خارج النموذج المبتذل المصنّع وكم يستطيع مقاومة التيار..؟لا ينهار الواقع في جانب منه، بل يشمل جوانب حساسة كالثقافة والدين،
والاقتصاد وعلاقات الصداقة والفن والأدب، ومن يمكنه مقاومة هذا الطوفان..؟
بلا شك هناك من يقاوم بثقة ولا ارتجاج ولا زعزعة بل بثبات وقوة وثقة،
دون استسلام لشروط الواقع الجديد لكن ليس بلا ثمن وقد يكون فَادِحًا لكنه مقبول للبقاء واقِفًا في هذا الاعصار، ويرفض التشبه أو السقوط ،حتى لو كان الثمن الموت أو العزلة. صحيح يلوح الواقع الجديد ونماذجه وطقوسه واغراءاته من القوة والبريق والعنف الخفي او الظاهر،
صُلْبًا رَاسِخًا ،وحقِيقِيًّا،لكن هذه أكبر أقنعة الواقع المزور والمصنّع، لأنه بلا حقيقة بل مظهر وصورة وقد يتداعى في لحظة غير متوقعة كما حدث في كل التاريخ:
عند هبوب الريح علينا أن نتعلم كيف نفتح الأشرعة بدل المراثي…!!
* كاتب وباحث مصري ،،saadadham976@gmail.com