بقلم: د.عادل بن خليفة بالكحلة (باحث أنثروبولوجي_ تونس)
إذا لم نشخّص أنيس النّقاش مفكّرا استراتيجيا، واعتبرناه مجرّد «معلق» أو «مناضل» أو «ثائر» أو «ثوري»، فنحن لم نفهمْهُ مطلقا.
لم يصبح أنيس النّقاش مفكّرا استراتيجيّا بدراسة «أكاديمية» (وجلّ من يدّعون ذلك في الوطن العربي ليسوا كذلك)، ولا بدكتوراه في العلوم السياسية، ولا بمقعد دائم في قناة مشبوهة… بل أصبح كذلك دون أن يُسمّي نفسه كذلك. أصبح كذلك بالتجريب الثوري، والنقاء الثوري، ووضوح رؤية بكل مراكمة لكل عملية ثورية.
- مراكمات سِيريّة بَنَتْ المفكّر الاستراتيجي:
كانت البداية، مع الأب إذ يقول: «والدي الذي تعلمت القراءة معه، من خلال قراءة الصُحف وكانت السياسة علما في الصغر»[1]. فمعه انخرط في السياسي.
وكانت البداية مع الأم: «والدتي التي علمتني المثابرة والتخطيط والعصامية للوصول إلى الأهداف فكانت الاستراتيجيا»[2]. فمعها تعلم الاستراتيجيا في الحياة.
عرف، مبكّرًا في التربية البيتية، أن فلسطين هي المَظْلمة الكبرى في العالَم، وأنّ بقاء احتلالها مِن الحركة الصهيونية أكبر عار- دون مبالغة- على الإنسانية، وخاصة على أمة العرب؛ وأن ضياعها لم يكن لقوّة من الإمبريالية فحسب، ولا لقوة من الحركة الصهيونية فحسب، بل خاصة لتخاذل وتواطئ عربيّيْن.
بدأ تبلور رؤيته السياسية الإقليمية (الوطن العربي- الإسلامي، والفضاء العالمي- الثالثي) بتحديد أهم قضية سياسية في العالم، بماهي أهم قضية أخلاقية في العالَم الراهن والمستقبلي، «قضية المظلمة الفلسطينية»/ «قضية العار العربي» في فلسطين. ليرتّب بقية المَظالم القُطرية والعالمية- الثالثية والعربية- الإسلامية تبعًا للقضية الأمّ.
هكذا، تعلم أنيس النّقاش الطفل، وأنيس النّقاش اليافع أن التفكير الاستراتيجي يقتضي أوّلا تلمُّس المَظالِم في العالَم (الاحتلال الأجنبي، الفقر والإفقار، الفساد والإفساد، التبعية، المركزية والتخومية، التجزئة والتنازع بين الأقطار…). ويقتضي ثانيا، ترتيب تلك المَظالم، من الأهم إلى المهم، من المتغير إلى التابع، من السبب إلى النتيجة، في تراتُبَات عمودية، منطقية، ثم منهجية وتحليلية؛ أي مِن العفْوي، إلى العلمي- المَدْروس.
تعلم عفويًّا، أن مجرد القراءة الواقعية- الاستراتيجية لا تكفي، بل تبقى تشخيصا لا معنى له، بل لا بدّ مِن الممارسة الثورية، التي تستثمرها وتتجاوز نقائصها وعموميّاتها و«تهويماتها» وادعاءاتها عن الواقعية وهي متعالية عليها. فالمُمارسة الثورية، تعني الذهاب العملي نحو فكّ المَظلمة، وتلمس صعوبات الفكّ؛ ومُقاربة العدوّ ومقاربة الصديق أكثر، وَجْهًا لوجه. فالاكتواء بنار العدوّ، يُنْضِجُ مناورات الاستراتيجيا الثوريّة مَرْحَلةً مرحلةً، أكثر فأكثَر. والتشبيك مع الصديق، تجعل الاستراتيجيا الثورية تقف على نقاط قوّة الصديق ونقاط ضعفه، وإمكانيات الارتقاء بذكاءات التشبيك وثقته في ذاته وإمكانيات التوسيع في الحِموية التشبيكية.
هكذا زار اليافع أنيس النّقاش المخيّمات الفلسطينية في لبنان مبكرا، وشخّص المأساة الفلسطينية واقعيا، ليتمثلها، فيصبح مبكّرا فلسطينيا بالفعل بعد أن كان في التربية البيتية فلسطينيّا بالقوّة.
لذلك دَخل اليافع أنيس النّقاش في التدريب العسكري بحركة فتح الفلسطينية وعمره 18 سنة.
وبذلك تكرّس الانتماء الفلسطيني لليافع، من انتماء حماسي، متخيَّل ثانوي إلى انتماء أوّلي.
تربّى في مدرسة المقاصد الإسلامية، «تحت رعاية عمّه زكي النّقاش» (1896-1988)، المربي الملتزم بالعروبة، والذي تخرج من الجامعة الأمريكية ببيروت، وله كتاب يصنّف في البحث الاستراتيجي لا في البحث التاريخي: التبشير وسيلة من وسائل الاستعمار. ومن الأكيد أن هذا العمل أثّر في اليافع أنيس.
كان زمن طفولته ويفاعته، هو زمن «صوت العرب من القاهرة»، و«صوت فلسطين من القاهرة» شارك وعمره 17 سنة في تشييع جنازة المناضل خليل عزالدين الجمل أوّل شهيد لبناني من أجل فلسطين، ضمن موجة رغبة جماهير اليافعين للالتحاق بمخيّمات التدريب للثورة الفلسطينية، وقد ترافق ذلك مع الاعتداء الصهيوني على مطار بيروت عام 1969.
أصبح دائم الارتياد لمخيّمي صبرا وشاتيلا ولتوجيه «أبو جهاد» (خليل الوزير)، القيادي الثوري الفلسطيني، السياسي والعسكري.
وأنْ يختار مهنةَ هندسة الديكور، ذلك يعني أن له استعدادات للهندسة الاستراتيجية، وأن يكون ذلك مطبّقا على الديكور، فذلك يعني أن تلك الاستعدادات الثورية ليس لها أفق تدميري، بل لها أفق جمالي- أخلاقي. فلقد كان اختيارًا عمليًّا، ولو أنه قائم على أسس التصميم النظري. وأن يتمنى أنه كان مهندسًا زراعيا، يعني أنه يعرف الوزن الاستراتيجي للأمن الغذائي والزراعي- السيادي في الصراع بين القوى الدولية
وفي مشاركته في عملية فيانا، كان اختياره الجامعي مساعدًا له: «بناءً على دراستي هندسة الديكور، استطعت أن أضع مخططا للمبنى، وأن أقدر أين تقع قاعة الاجتماعات»[3].
لم تكن مشاركته المبكرة في عمليات الاحتجاز أعمالاً إرهابية، بل كانت عمليّات محدّد فيها العدوُّ. فالدولتان الرئيستان بالإقليم، هما الأكثر عمالة للمركز الإمبرياليّ، والمُشاركة في التخطيط لاحتجاز وزيرين منهما كانت من أجل تمويل المقاومة. ولذلك نجده يُقنع «كارلوس بعدم تنفيذ أوامر وديع حدّاد بإعدام الوزيرين»[4]. ونضجه السياسي المبكر جعله يَحْدس «أنّ من روّج لفكرة عملية الاغتيال لم يكن بريئا تماما، فأبعادها خطيرة جدّا»[5].
وبذلك لم يكن إمّعة في تلك المشاركات، بل كان صاحب رأي حرّ، مستقل، وإن آمن بالجماعة، محاولا أن يضع العملية في سياقها الاستراتيجي، لأنها ليست عملا إرهابيّا، أي ليست احتجازًا غير أخلاقي أو مصلحيّ.
لم يكن يرتزق من العمل الثوري، فقد «مارس بعض الأعمال التجارية الحرة»[6]. فالشعور الذي كان يدفعه للعمل الثوري هو «الشعور بالواجب. وأكبر أمر أكرهه في النماذج العربية هو عدم القيام بالواجب والانسحاب من الساحة. فإذا لم يقم الإنسان بواجبه تصبح الحياة كلها تافهة وسخيفة، وخصوصا في القضايا الوطنية الكبرى»[7]. إنه يشعر أنه دائما يَكْبر قبل سنّه: «الشعور الذي ينتابني أنني منذ طفولتي كنتُ في مواقع تتقدم عمري وإمكانات أناس آخرين»[8].
***
لم يكن من الغريب أن ترتبط عائلته مع الأسرة الفلسطينية و«أبو جهاد» تحديدًا، بعلاقات تصاهر[9]. ولم يكن من الغريب أن يختار زوجة له إيرانية. إنه التشبيك الحِمَويّ الثوري الذي لا ينفك حتى عن حَميمية النّقاش.
كان تشبيكيًّا لأنه لا يرى الانتصار على الظلم إلا بتنسيق خلاّق بين القوى الذكية الحيّة. وكان يرى فلسطين قبلةً، والتضامن العالمي – الثالثي والتضامن الإيراني- العربي ضرورتان من أجل تحريرها من حميميّة النّقاش.
- استراتيجيُّ التدخل: مُتابعٌ/ فاعلٌ عربي من داخل الثورة الإيرانية:
1.2 انخراط في الثورية الإيرانية قبل سنة 1978_ 1979:
لقد كان واعيًا أن تفجيرات أيلول الأسود لمخازن النفط بمدينة تْرِيّسْتا الإيطالية لم يستفِدْ منها سوى شركات التأمين «وَاوَلها لُويْدز البريطانية، إذ كانت مستفيدة من ارتفاع رسوم التأمين على بواخر النفط من الخليج»[10]. وحتى إن كانت من الطرف المٌقاومي، فهي «عمل غبي يخدم العدّو».
وبذلك، أصبح تلميذ «أبو جهاد»، دون أن يشعر ممارسا دور «المعلم» له: «قرأت كتابا لأحد الاستراتيجيين عن دور التحالفات العسكرية والتوزيع الاستراتيجي في العالم، وفهمت من خلاله دور حلف شمال الأطلسي ودوري تركيا وإيران، وطريقة الدول الكبرى في التخطيط لمصالحها. بعد التفكير في ما تضمنه الكتاب، وجهت رسالة إلى «أبو جهاد» عنوانها: «الإمبريالية تخطط بشمولية، وعلى الثورة أن تفكر بشمولية»[11]. وقد اقترح فيها توسيع علاقات الثورة الفلسطينية «مع الحركات الثورية وحركات التحرّر لإقامة شبه تحالفات ثورية مضادّة للإمبريالية ورديفتها التابعة. وقد اكتشف «التلميذ» أن «المعلم» كان يتبع الأسلوب نفسه في المعاملة التي تلقاها من الصين والجزائر يمدّ يد العون للفلسطينيين. فأخذ على عاتقه أن « يساعد أي حركة تحرير ثورية تطلب هذه المساعدة»[12].
ومع ذلك الاكتشاف، للتلميذ ما يقدّمه، فاقترح على «المعلم» التركيز على إيران وتركيا، فطلب منه «أبو جهاد» القيام «بما يمكن أن يحققه في هذا المجال»[13]. وهذا يعني اعترافا من «المعلم» بنضج مبكر من «التلميذ». فبدأ بإقامة علاقات مع مناضلين تُرْك وإيرانيين، بانيًا شبكة مع مَنْ بَعْضًهًمْ مقيمون بلبنان، بحكم حريّات العمل الموجودة فيها. وقد تطوّرت العلاقة من التعاون إلى تبادل الخدمات. فإيران وتركيا دولتان حليفتان لـ«إسرائيل»، فيمكن لرعاياها الدخول بسهولة لفلسطين المحتلة، فيكون من أدوار هؤلاء المناضلين دخولها «للاستطلاع وتزويدنا بالمعلومات. وأرسلنا مجموعات منهم لهذه الغاية. وفي المقابل، كانت هذه المجموعات تتلقى منا مساعدات لدعم أنصارها في الداخل. وكانت معسكرات تدريب على الأسلحة والمتفجرات ودورات سياسية للعمليات التنظيمية والأمنية»[14].
بعد مدة قصيرة، اكتشف أنيس النقاش، أن المنظمات اليسارية التركية لا يمكنها أن تؤثر جدّيا في النظام التركي المنخرط في حلف شمال الأطلسي، عدو العالم العربي- الإسلامي، فيما المنظمات الإيرانية «أكثر جدّية في عملها وارتباطها بالناس. وعليه، فهناك أمل في أن تؤثر في النظام القائم»[15]. وقدّم تقريرًا لمنظمة التحرير يؤكد أن التعاون مع تلك المنظمات الإيرانية أمر جدّي، وأن تركيا لا أمل منها. فتوقفت المنظمة عن دعم التُرك، ودعّمت علاقاتها بالإيرانيين.
2.2 منخرط مشارك في توجيه الثورة الإيرانية:
مرّت السنوات، وثبت صدق الحدس الاستراتيجي لأنيس النقاش، إذ كانت الثورة الإيرانية عام 1978_1979، و«كان انتصار الثورة الإيرانية انتصارًا لنا، في ضوء إسهامنا في دعمه، فأفرز تغييرًا استراتيجيا في المنطقة، بقلب أقوى الأنظمة لجهة عدد السكان والجغرافيا السياسية والجيش والإمكانات المادية والنفطية»[16].
لم يكن أنيس النقاش مجرّد متابع للحدث/ الزلزال، بل أراد أن يشارك فيه، بل أن ينخرط فيه. وهذا «القرار» غير عادي، لأن المنخرطين في الحدث الثوري يجب أن يكونوا من حِمَويته، لأنه حدث داخلي. فكيف كان هذا الانخراط؟ وما قيمته التاريخية؟
بعد انتصار الثورة بأسبوع، وعودة قائد الثورة من المنفى القَسْري، وتعيين الحكومة المؤقتة، كان مازال من الثوريين الإيرانيين في بيروت محمد صالح الحسيني وجلال الدين فارسي، المترشح بالانتخابات الرئاسية، والعلاقة بهما قوية ضمن استراتيجية أنيس النّقاش التشبيكية مع الثوريين التُرك والإيرانيين. فاستدعاهما إلى منزله، ليطرح تخوفاته من إمكانية انتكاسة الثورة إن لم يفكر أصحابها في الاحتياطات المناسبة: «أبدينا تخوفنا، بعد انتصارنا، من أن تعود تجربة مُصَدَّق، لأن الجيش غير ممسوك به، رغم خروج الشاه. فيمكن للجيش أن ينفذ انقلابا وأن يعيد الأمور إلى الصفر»[17]. لم يكن الثوريون – في جلهم- قارئين لإمكانية الانتكاسة، بمقارنة وضعهم آنئذ بحالة مصدّق- الكاشاني عام 1954.
لم يكن مجرّد قارئ لتاريخ التجربة الثورية الإيرانية، بل أراد أن يكون «استراتيجيّا» [= «سائقا»] إيجابيّا معها، مقترحا في تلك الجلسة «بناء جيش مواز للجيش القائم؛ دون تسليحه كأي جيش، فيكفي أن يتمكن من مقاومة أي عملية انقلابية، وهذا نوع من تسليح الشعب ضد هذا الاحتمال»[18]. طلب منه جلال الدين فارسي تدوين مشروع في المسألة، فكان أن سهر عليه ليلة واحدة، مؤكدا أهمية «تسليح حرسٍ بسلاح خفيف من نوع كلاشينكوف وآر.بي.جي، متمركزا في ثكنات الجيش لمنع حدوث أي عملية انقلابية. ويتكون من الشعب والقوى التي أسهمت في السلطة الجديدة»[19].
بعيد ذلك، زار طهران، ليكون متابعا منخرطا للحدث الذي رآه حدثا مناسبا للثورة الفلسطينية، لم تكن محظوظة بٍمِثْلِهِ منذ تأسيسها، رغم أهمية الحدث المصري عام 1952، وهنالك عَلِم أن مقترحه («الحرس الثوري») أنشئ كما خَطَّط له، وكانت مِنْ نَوَاهُ المجموعات الإيرانية التي كانت تتدرب في سوريا ولبنان.
لم يذهب إلى طهران ليكون في موقع سلبي أو محايد، صحافيّا، أو مجرد «صديق»، مثلا، بل ذهب «للمشاركة في إنضاج الفكر السياسي وتنسيق العلاقات»، من أجل مصلحة المنطقة في مقاومة الإمبريالية والوجود الصهيوني ومتعاونيهما من العرب: «في ذلك الوقت، كنتُ أشعر أنني من الذين شاركوا في إنجاح الثورة، وأتحمل مسؤولية استمرارها وتقويم وضعها»[20].
كانت الدولة الوليدة تعاني من تهديدات عديدة: الجيش يواجه على الحدود الغربية انشقاقا انفصاليّا، بدعم من القوى الإمبريالية والدول العربية التابعة، وكانت الانفجارات تهز طهران من حين لآخر. ورغم ذلك كانت الحشود الجماهيرية مصرة على الانتصار و«الموت لأمريكا» و«الموت لبَخْتَيَار»، الوزير الشاهنشاهي الذي يقود مُضادّة الثورةِ[21] من الخارج. انتبه أنيس النقاش لمطالبة الجماهير بإعدام بختيار، فاعتبر أن ذلك مبرّر شرعي- شارعيّ واضح لتنفيذ «هذا المطلب الشعبي الواعي»، خاصة أن محكمة ثورية استجابت له. هنالك نادى أنيس النقاش بجلسة خاصة مع محمد صالح الحسيني ومحمد منتظري لتنفيذ «قرار» الشعب حتى يدفع عنه الخطر الأهم والمركزي في إمكانية إسقاط الثورة. فاستحسن الحسيني رأيه[22].
لم يكن للحرس الثوري آنئذ أجهزة، فاضطر للتطوع في العملية، ولم يروا غرابة في الأمر، «فهم يعرفون أنني كنت أدعهم الثورة سياسيا وماليّا وبجوازات السفر»، ولكنه أقنعهم أكثر بأنه «منفذ لعمليات في الخارج وصاحب خبرة»[23]، وأنّ له قدرة على الإشراف على التنفيذ.
كان المساعدان المقترحان يتكلمان الإنكليزية ولا يعرفان الفرنسية، لغة البؤرة المطلوبة، فاضطرّ لتوريط نفسه تدريجيا في التنفيذ، لمعرفته بالفرنسية. وقد سهَّل لهما التدرّب في معسكر فلسطيني بمخيم صبرا. ولكنه أخفى أمر العملية عن منظمة التحرير الفلسطينية وعن «أبو جهاد»، احتياطًا من اتفاقية فلسطينية- فرنسية قد تجبر المنظمة على التبليغ عن العملية.
3.2 إخفاق ومرافعة ناجحة عن الثورة:
في باريس، تقمَّص دور الصحافي، ليطلب مقابلة بَخِتَيَار، فقبله، مستغلا الفرصة لجمع البيانات عن المنزل والحراسة التي حوله. كانت لوموند تعلن أن بختيار يتفقد آنئذ قواته في كردستان. بينما كان في منزله[24]. طلب «الصحافي» من بختيار مقابلة ثانية لإتمام «الحوار» بحضور «زميل» «صحافي» و«فوتوغرافي»، فوافق على الفور.
ولكن، من «سوء حظ» أنيس النقاش، أن خَلْخَاليّ الذي لم يكن له علم بالعملية، أراد أن يمارس حربا نفسية على بختيار ومؤيديه الغربيّين، فآدعى بأنهم أرسلوا «مجموعة لتصفيته»، وقد أطلق مِنْ قبلُ تهديداتٍ مماثلةٍ بخصوص تعقب الشاه. وبذلك «اخْتُرقَت» الخطة الأصلية وكان أن «اتخذنا القرار باقتحام المنزل من دون موعد» يوم 18/7/1980 بتوظيف كل المجموعة، بمن فيهم أنيس النقاش. قُتل أحد الحارسين وجُرح الآخر، بينما أصابت رصاصة طائشة امرأة من الجيران كانت تتغازل مع الشرطة.
ولكنّ المصفَّح المضادّ للحريق والسرقة جعل اختراق الباب النهائي صعبة. فكان «قرار» الانسحاب، ولكن صادف ذلك مرور محافظ شرطة، «فحصل الاشتباك، وأصِبتُ، وقُبض علينا»[25].
كان الحكم الأقصى الإعدام، ولكنّ بفوز الاشتراكيين بالحكم عام 1981، قرّرت المحكمة أوائل عام 1982 أن يصبح الحكم الأقصى المؤبّد في حق أربعة، و20 سنة في حق العنصر الخامس في العملية، وقد كانت سنتان ونصف في العزل التام أمام المحكمة.
كانت مرافعة أنيس النقاش محاكمة للإمبريالية الغربية. فبختيار «عدو للثورة ويدّعي الديمقراطية وعدوّ للشعب، إذ الثورة شعبية. وعليه، فهو لا يمثل أحدا، ويتآمر مع الأمريكيين، كما فعلوا ضدّ الدكتور مصدَّق، لقلب النظام. وعليه، أيضا، فإن الحكومة الفرنسية مخطئة في حماية أشخاص مثله إذ هذه الحماية ليست لجوءًا سياسيًّا»[26]. وقد اعترف أنهم «مجموعة لبنانية_فلسطينية- إيرانية تتضامن مع الثورة»[27]. وكان المحامي كونت يتلقى مبلغا رمزيا. بينما لم يتلق المحامي فيرجس شيئا، وقد كان زوج المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد.
4.2 التحول العرفاني_السلوكي في شخصية أنيس النقاش:
لولا السجن الذي أوقف حركة أنيس النقاش في المكان، كان من المستبعد أن يجد فرصة للتأمل الداخلي ومراجعة شخصيته جذريا. فمعطائيته الزائدة عن المعدل العادي للمعطائية، كانت تجعل من الصعب أن يراجع أنيس النقاش بنيته الداخلية: معرفة وشخصية.
كانت سنوات السجن العشر تَمضي «في المطالعة»[28]. وهنالك اعتكف على العلوم الإستراتيجية خاصة الصادرة من مراكز البحث الأمريكية والصهيونية أساسا. كما اعتكف على العلوم العرفانية من مصادر روح الله الموسوي ومحيي الدين بن عربي أساسا.
لقد أصبح، وهو المتدين من قبل، ذا صلاة جديدة أعمق وأخشع وأكثر نوافل وأدعية. فقد انضاف إليها الحب الإلاهي. وأصبح ذا صيام جديد، أعمق تأملا عرفانيا، وذا بعد سياسي نضالي. يقول أنيس النقاش:«الصوم يجعلك صابرا عند الكرب، خفيفا عند الجذب»[29]. وتلك هي صوامية غاندي والموسوي المكافحين للإمبريالية. فلقد أصبح أنيس النقاش سالكا عرفانيا، مريدا بين يدي شيخ مرب، حي، ومناضل اجتماعي في الآن نفسه، عن بعد، رغم جدران السجن السميكة، إسمه: روح الله الموسوي. وتلك هي قدرة الحب النضالي_العرفاني على التقريب بين البعيدين.
هذا التحول الجذري في شخصية أنيس النقاش لا نعرف عنه إلا النزر القليل. ويمكن توسيع تشخيصه بمقابلات معمقة مع زوجته وبعض رفاقه.
5.2 طريق الحرية:
رغم تشنج العلاقات الفرنسية- الإيرانية نظرا للتسليح الفرنسي لصدام حسين، حتى يٍسَحْب طائرات من سلاح البحرية الفرنسية لأول مرة في التاريخ، فقد حصل تحول عام 1986، إذ تعهد رئيس الجمهورية الفرنسي بإطلاق سراح النقاش مقابل رهائن فرنسيين. لكن النّقاش رفض هذا العرض الفرنسي «فلا ضمانة بخروج الأربعة الآخرين بعد خروجي» [30]، وذلك رغم تدخل الصحافي محمد صادق الحسيني، شقيق محمد صالح الحسيني (رفيق أنيس النقاش في بيروت).
وفي عام 1986، أدان النّقاش من سجنه تفجيرات مطالبة بالإفراج عن جورج عبد الله والأرمني غربدجيان ومجموعته أوقعت «ضحايا أبرياء في الشوارع»[31]، فالعمليات الثورية فعلا، في نظره، «يجب أن تكون نظيفة».
ثم تحرّكت مفاوضات إطلاق السراح لإطلاق الرهائن الفرنسية، فاشترط على أطراف التفاوض طرد المعارضة المسلحة من فرنسا، وحلّ مسألة العرض الذي منحته إيران الشاه لفرنسا رغم إصدار المحكمة التجارية الفرنسية حكمها لصالح إيران، وإيقاف الدعم الفرنسي لحرب صدّام حسين… وكان السوريون مشرفين على تأمين نجاح المفاوضات، وفي نهاية عام 1988، أقْدم أفراد المجموعة على إضراب عن الطعام… وقد مارس المحامي فيرجس دورًا إعلاميًّا ممتازًا في تلك الفترة، مشاركا في مناظرات تلفزيونية. فكان انتهاء ذلك الإضراب في فبراير 1990، بزيارة رفيق دوست لأعضاء المجموعة بالسجن ليعلمهم بمحتوى المفاوضات، فيطلق سراحهم جميعا بعفو خاص من رئيس الدولة[32].
وقد كانت الدولة التي سافر إليها أوّلاً إيران، قبل لبنان.
6.2 لماذا التحالف العربي مع الثورة الإيرانية:
كان سنّيًّا، ولكنه يصرّ دائما: «أنا مسلم». أما علاقته بإيران الثورة «فلا علاقة لها بالمذهبية، بل لها علاقة بالسياسة»[33]. وأن القضية الفلسطينية هي التي أدّت به إلى هذه الثورة. أما قائدها، فإن «شخصيته نادرة وغير عادية، بهدوئه وسكينته، ويتمتع ببعد نظر وثبات في ظل تقلقل الناس»[34]. وهذا هو الأهم في التقاطاته وتشبيكاته: بُعْد النظر مع الثبات. فهذه الثورة التي أثبتت صِدْقيتها، في نظره، منذ الشهر الأول من انتصارها بطرد السفارة الإسرائيلية، وقطع تمويل الدولة الصهيونية وزعزعة الأمن العربي، وبالجدية في قضية السيادة الوطنية أمام الإمبريالية. كان أهم ما في سياستها «البوصلة الفلسطينية». فمحاولته اغتيال بختيار كانت «من أجل فلسطين، وحمايةً لهذه الثورة التي ستحمي فلسطين. قمْتُ بدور صغير، لكن المهم أن الوضع الاستراتيجي في المنطقة تغير»[35]. (يتبع)
- نظرية استراتيجية كبرى: الكُنفدرالية المشرقية:
النقاش (أنيس)، الكنفيدرالية المشرقية، بيسان/ مكتبة مؤمن قريش، بيروت، 2017، صفحة الإهداء.[1]
[2] م. س، صفحة الإهداء.
[3] شريل (غسان)، «حوار مع المناضل أنيس النّقاش»، مجلة الوسط، بيروت، ديسمبر 2012، ص 19.
[4] النقاش (أنيس) م. م، ص 2.
[5] م. س، ص 9.
[6] م. س، ص 53.
[7] م. س، ص 53.
[8] م. س، ص 54.
[9] م. س، ص 28.
[10] شربل (غسان)، «حوار مع المناضل أنيس النقاش»، ص 19.
[11] م. س، ص 23.
[12] م. س، ص 23 .
[13] م. س، ص 23 أيضا
[14] م. س، ص 24.
[15] م. س، ص 24 .
[16] م. س، ص 24.
[17] م. س، ص 25.
[18] م. س، ص 25 أيضا.
[19] م. س، ص 26.
[20] م. س، ص 26 أيضا.
[21] مُضَادَّةُ الثورة: Contre_ révolution.
[23] م. س، ص 26 أيضا
[24] م. س، ص 29.
[25] م. س، ص 31.
[26] م. س، ص 32.
[27] م. س، ص 32.
[28] م. س، ص 43.
[29] ذلك ما صرح به للصحافي بالحسن اليحياوي. ذكر لي ذلك الصحافي في مقابلة لي معه في 27/04/2021.
[30] م. س، ص 37.
[31] م. س، ص 35.
[32] م. س، ص 38.
[33] م. س، ص 43.
[34] م. س، ص 43.
[35] م. س، ص 43