تمهيد :
إن فكرة تدريس الفلسفة للأطفال تبدو فكرة مجنونة لدى البعض باعتبار الأحكام المسبقة التي يحملها غالبية الناس عن الفلسفة والتفلسف بما هي أحد التخصصات المعقدة التي يصعب استيعابها من قبل الراشدين فما بالك إذا تعلق الأمر بالأطفال . إذ يزعم البعض أن الأطفال ليس لهم القدرة سوى على ترديد ما يخرج من أفواه آبائهم وأمهاتهم وغيرهم من الكبار غير أن مثل هذا الإدعاء لا يلبث أن ينهار أمام تصورات أخرى مناقضة لها ترى أن الأطفال هم فلاسفة بالفطرة ولهم استعداد فطري لممارسة فن طرح السؤال الذي هو جوهر الفكر الفلسفي، زيادة على ذلك إذا كانت ” الفلسفة هي التي تعلمنا الحياة وأن للطفولة نصيبها من التعلم كما بقية الأعمار الأخرى فلماذا لا نجعلها تتواصل معها ” ( أي الفلسفة ) . بدل أن ننصرف إلى تعلّم ” تعلم الحياة ” بعد أن تكون قد شارفت على الانتهاء . عندها لن تكون هناك أية فائدة نجنيها من طائر “منيرفا ” فلسفة لا يحلّ إلا عند مساء الوعي وغروب شمس العقل خلف بديهيات الحياة اليومية وأحكامها المسبقة . من هنا تأتي أهمية التبكير بتدريب الأطفال على ممارسة فن التفكير حياة لخلق أطفال قادرين على الإبداع والتفكير من خلال تنمية قدراتهم على التواصل والإصغاء للآخرين وجعلهم أكثر عقلانية وتعليمهم التفكير ليس فقط بأنفسهم ولكن أيضا مع الآخرين لإنشاء مواطنين أحرارا في ديمقراطية تداولية، وتأسيس لجيل جديد يؤمن بثقافة ” السلم الدائم” ومقاومة العنف، حينما يبلغ الطفل في مرحلة مبكرة الفكر النقدي واستقلالية التفكير والحكم بنفسه على العالم والأشياء بما يحميه من التوظيف الإيديولوجي بمختلف درجاته ويهيئه لأخذ ناصية مصيره بيده خاصة وأن أطفال اليوم هم أكثر ضحايا العبودية المعاصرة فإذا أخذنا المدرسة بوصفها فضاء بنيويا حيث تسلسل الأحداث يخضع لقوانين صارمة وحيث اللغة واحدة، فإنها تفرغ الطفل من رأسماله الأساسي من قدرته على التفكير، وتسلبه قدرته على الحكم والتحليل بدل أن تساهم في تطوير الفكر النقدي بإعطاء الفرصة للأطفال لكي يكونوا ريبيين عوضا عن حشو رؤوسهم الصغير بيقينيات لايقينية . أليس من حق ” أفلاطون الصّغير ” بوصفه كائن حي ممتلئ بالخيال والتساؤل أن يسلك دروب الفلسفة ؟ لكن أي فلسفة هي تلك التي تكون قابلة لأن يتعلمها الأطفال ؟ هل نعلمهم الفلسفة أم التفلسف ؟ وما هي الرهانات المنتظرة من مثل هكذا تجربة ؟ هل يقتصر الأمر على الدربة النظرية على حسن استخدام العقل أم يتجاوز الأمر إلى مستوى عملي واجتماعي يتحول بمقتضاها ” أفلاطون الصغير ” إلى مواطن عالمي مساهم في بناء القيم الجماعية ومبشرا بمستقبل واعد للبشرية ؟ حيث يرى كارل ياسبرس ” أننا نهمل في الحقيقة نوعا من العبقرية يمتلكها الأطفال التي تضيع منهم حين يصبحون بالغين . ” فإنه لن يبقى لنا من حجة لحرمان الأطفال من حقهم في ممارسة الفلسفة بوصفها مشروعا يضمن مستقبلهم في حياة أفضل مع أغيارهم داخل عالم يقدر ذواتهم ويحترم إنسانيتهم .
1) لماذا تدريس الفلسفة للأطفال ؟
إذا انطلقنا من واقعنا المعاصر الذي تضخمت فيه مقولات أفول القيم وانعدام المعنى من جهة ودعوات بعض الفلاسفة إلى أن تملأ الفلسفة هذا الفراغ القيمي بأن تتحول ذاتها إلى إيتيقا تساعد الإنسان المعاصر على تجاوز أزماته القيمية المتراكمة سواء في مستوى أخلاقي أو سياسي أو معرفي أو جمالي وحتى اقتصادي، فإن الفلسفة تصبح بهذا المعنى ضرورة حياتية وتعليمها أو التدرب على منهجها العقلاني منذ الطفولة حاجة إنسانية إستراتيجية بما أنها قد تمثل عقلانيتها النقدية الوصفة الطبية الناجعة لمعالجة أغلب أمراض العقل الإنساني الذي أصابته تشوهات الحضارة التقنية المعاصرة .
فالفلسفة وما تتضمنه من قيم إنسانية كونية تبدو هي الأجدر على الاضطلاع بحاضر الإنسان ومستقبله، ذلك المستقبل الذي لن يكون على النحو الذي نطمح له إلا بفعل التربية إذا ما أردنا تغيير مجتمع ما في البداية ثم تغيير مستقبل البشرية جمعاء، لا يتعلق الأمر الاعتقاد في تحقيق ذلك بمعجزة بل في تربية النّاشئة بطريقة تغرس فيهم هذه القيم الإنسانية المشتركة . صحيح أن الأمر ليس سهلا ولكن أيضا ليس مستحيلا .
حيث تساعد القيم الفلسفية الأفراد على ضمان حياة مزدهرة والعيش معا بطريقة أكثر أخوية، فهي تمنحنا إيتيقا بمعنى قيما كما تمنحنا وسائل داخلية لقبول التنوع ومساعدة الآخر . إنها تسمح بتنمية قوة أخلاقية وتأقلما قبالة تغيرات الحياة . كما تساعدنا على تهذيب قيم التعاون والإبداع وتعلمنا رؤية العالم بطريقة إيجابية ونقدية بناءة تمكن من وجود حلول للمشاكل التي تطرح علينا . وهذا دلالة على أهمية وجدوى الفلسفة بوصفها فنا في الحياة من هنا تتأتى أهمية تدريس الفلسفة للأطفال بوصفهم مواطنو المستقبل وباعتبارها تمتلك الأدوات اللازمة لإنجاح مشروع الإنسان الكوني .
فإذا كانت الفلسفة هي رهاننا في التحرر من الظلام والظلم فلما نحتفظ بها لأشخاص معينين ونقصرها على مرحلة عمرية محددة ؟ أليست هي ملكا شائعا للعقل البشري في مختلف مراحل نموه وتطوره ؟ أليس علينا أن نتبع طريقة دريدا الديمقراطية في ممارسة ” الحق في الفلسفة ” ضدا عن التوجه والخيار الديكارتي اللاديمقراطي الذي يرى حسب تصوره الخاص للطفولة كمكان وزمان للأحكام المسبقة والخطأ فإذا أردنا التفلسف فعلينا أن نبدأ أولا بمغادرة مرحلة الطفولة . فكيف تشكلت فكرة تدريس الفلسفة للأطفال ؟
2) أصل فكرة تدريس الفلسفة للأطفال :
و لرسم بداية إبداع مشروع يهتم بتدريس الفلسفة للأطفال يجب العودة إلى سنة 1969 مع أستاذ الفلسفة بجامعة كولومبيا متيو ليبمان (Lipman (Matthew الذي لم يكن راضي عن طلبته في قسم الفلسفة حيث لاحظ عدم قدرتهم الكافية على التحليل سواء قبل الدرس أو بعده فهم قد حفظوا الكلمات وقواعد التفكير، لكن هذا التعليم لم يعطي نتائجه في مستوى خياراتهم وقراراتهم وطريقتهم في الحياة . لذلك افترض أن السبب يعود إلى تأخر في تعلم الفلسفة وخاصة مهارة التفكير . ولتجاوز هذا المأزق تخيل منهجا بيداغوجيا يتعلق بطلبه تحويل القسم إلى ” وحدة بحث ” لخصها في الاجتماع حول ” طاولة مستديرة ” وانطلاقا من نص يتم قراءته من قصة ذات بعد فلسفي يقوم الأطفال بتحديد السؤال المطروح في القصة ومناقشته . هذا النقاش يخضع لقواعد حيث يطلب المنشط من الأطفال كمثال على ذلك :
– أن يستمعوا للغير ،
– أن لا يسخروا من بعضهم البعض ،
– أن لا يقاطعوا بعضهم البعض .
أما المربي فعليه أن يأخذ على محمل الجد كل المشاركات المتداولة في ” وحدة البحث ” هذه بوصفها عنصر مساعد يشجع الأطفال على المشاركة في الحوار وتداول الكلمة والأفكار ويقوم هو بتنظيم وإدارة هذا النقاش الفلسفي بضمان التمشي العادل والمنصف للجميع .
في نفس الوقت كان لمبو يتابع عن قرب جهود مبذولة من قبل مربية قريبة من أطفال يعانون من صعوبات تعلم القراءة فجاءته فكرة مدها بتمارين صغيرة ذات مرجعية منطقية مكنتهم من تحقيق بعض الإيجابيات المشجعة وهو ما أقنعه بأنه يمكن بداية دراسة المنطق قبل المرحلة الجامعية والثانوية في سنوات مبكرة من مرحلة التعلم . لقد قاده تفكيره إلى أن الطريقة الناجعة لإدخال الأطفال في دراسة المنطق هي توجيههم نحو الفلسفة . فهو يعتقد بوجود تحالف طبيعي بين الفلسفة والأطفال، لأن النظرة التي يلقيها الطفل على العالم تنغرس في الدهشة . لذلك تساءل لما لا يقع الرجوع إلى تقاليد الأفكار الفلسفية وإدماجها في القصص الموجهة للأطفال يستطيعون الذهاب من خلالها إلى ما وراء الدهشة والوصول بطريقة تفكّرية والإحساس بمختلف الأبعاد المنطقية والإستطيقية والإيتيقية لتجربتهم الحياتية . بحيث يصبح لنا أطفال قادرين على الإبداع والتفكير من خلال تنمية قدراتهم التواصلية المبنية على جدل الإصغاء والحوار وجعل سلوكياتهم أكثر عقلانية .
إن الهدف من هذه الممارسة ليس نقل ما فكر فيه الكبار بلغتهم إلى الأطفال، وإنما تشجيع الأطفال على التفكير الفلسفي أي التفكير بطريقة صارمة، جزئية وموضوعية واحترام العلل والأسباب كما يفعل الفلاسفة ولكن مع لغة ومراكز اهتمام متناسبة مع الأطفال . وإذا أردنا مساعدة الأطفال على بلوغ المسافة التي تفصل الدهشة عن التفكير والتفكير عن الحوار والحوار عن التجربة يجب أن تكون هذه التجربة مقدمة في سياق على هيئة ما يعيشوه في الواقع بصفة يومية . فما هي الميتودولوجيا التي يمكن اتباعها لمساعدة ” أفلاطون الصغير” على ممارسة التفكير الفلسفي بطريقة سلسة ؟
3) ميتودولوجيا تدريب الأطفال على التفكير الفلسفي :
يمكن تقسيم ميتودولوجيا تعليم الفلسفة للأطفال إلى ثلاث لحظات : فالأطفال مدعوون إلى التعايش مع القصص ذات البعد الفلسفي ثم يحددون الموضوع والأسئلة التي يعتبرونها مهمة بالنسبة لهم وفي الأخير يلتزمون باختبار المشكلات التي تطرحها هذه العناصر .
إذن في المرحلة الأولى يقرأ طفل ما بصوت مرتفع حسب دوره فقرات محددة من قصة مختارة وهذه القراءة الموزعة حسب الأدوار تسمح لكل طفل التعرف على النص . في هذه القراءة المشتركة تتجلى الخطوة الأولى نحو تنمية الشعور بالانتماء إلى المجموعة، فمثلما يتم تقاسم ومشاركة قراءة قصة سيتعود الأطفال فيما بعد على مشاركة الأفكار ووجهات النظر .
في مرحلة ثانية نطلب من الطفل أن يكشف الأفكار والأسئلة التي لاحظها إبان القراءة، هذه المرحلة تطمح أساسا إلى وضع بداهة الأفكار التي تم الاحتفاظ بها من قبل الأطفال حسب أهميتها وخصائصها الهامة الجزئية . لا يتعلق الأمر بسباق نحو أفضل الأفكار الفلسفية ولكن يتعلق الأمر بالسماح لكل واحد لملاحظة فكرة واحدة أو متعددة تم اختبارها ومحاكمتها والحكم عليها بالصلاحية .
في مرحلة ثالثة وأخيرة ينخرط الأطفال في نقاش موضوع أو عدة مواضيع وأسئلة ومشكلات يختارون البحث فيها .
ما يمكن استنتاجه أن ممارسة الفلسفة مع الأطفال يتيح توسيع عادات التفكير لديهم، فهي تهديهم إمكانية التفكير فلسفيا في أفكار تهمهم في إطار بحث مشترك مؤسس على التعاون والحوار . لكن هذا المسار لا يتلخص فقط في ممارسة تمرين العادات الذهنية إذ أن الحوار يقتضي ديناميكية يتيح خلق ” وحدة بحث” تبجل تنامي الحسية إلى العلاقات بين شخصية وبلوغ معنى دقيق للقضايا التي تقود لصنع من الأشياء تتراوح ما بين حاجياتهم الخاصة وطموحات الآخرين . فالحوار هو مكان حيث تندمج التعلّمات التي هي من نظام المعرفة ( موضوع النقاش )و فعل المعرفة ( عادات التفكير) ومعرفة الوجود ( الآراء التي تتيح انبثاق الجزئية الموضوعية والإصغاء الفاعل ) . فما هو الدور الذي يجب أن يؤديه المنشط لبلوغ أهداف تعليم الفلسفة للأطفال؟
4) دور المنشط الفلسفي في تعليم الأطفال الفلسفة :
لا يتمثل دور المنشط الفلسفي في بذل المعلومة ولا انتاج رأي حتى وإن كان مثاليا وجيدا ولا حتى في انتاج تأويلات متعلقة بالمسألة المثارة . هذا اللاتوجه والحيادية في اختيار وتداول الأفكار مع الأطفال وحثهم على مناقشة محتواها يرمي إلى تأمين أن المواضيع المختارة متوافقة تماما مع اهتمامات الأطفال وليس مع اهتمامات الأشخاص الذين ينشطون وحدة البحث، إنها تهدف إلى حماية الأطفال من كل محاولة لمذهبتهم والاستحواذ على تفكيرهم وخيالهم من قبل الكبار.
غير أن النقاش الفلسفي بين الأطفال لا يجب أن يلخص ببساطة في مجرد تبادل الآراء، لأنه يهدف بالدرجة الأولى إلى إثراء الآراء المعبر عنها للحصول على وجهات نظر متكاملة، واكتشاف الأفكار التي تختفي خلف بعض العبارات وتوضيح معنى محاولة فاشلة التي لا يجب أن تأخذ على معنى الفشل المطلق بل بوصفها تأسيسا لنجاح قادم بإبراز أهمية الخطأ في بناء معارفنا واعتباره جزء من الحقيقة، وامتحان تعبيرات الفكر المتقاربة والمتباعدة وتأسيس تمثّلاتنا . فالأمر كله متروك للمنشط لتحمل المسؤولية في نهاية المطاف لتحديد الترتيبات التي من شأنها توجيه الطفل وإعطائه بعض النصائح للبحث بطريقة منطقية تكون أكثر انتاجية وتصحيحية لذاته السائرة في طريق السؤال والبحث .
في هذا السياق هناك عدد من الاستراتيجيات البيداغوجية والتي هي في الحقيقة منهجية فلسفية يمكن استخدامها من قبل أشخاص يسهلون النقاش الفلسفي في وحدة البحث، هذه الإستراتيجيات يتم اختبارها وتطبيقها واكتسابها تدريجيا أثناء التكوين والتدريب .
ومثلما تمثل القصص الفلسفية المكتوبة للأطفال أهمية في تنمية القدرات العقلية للطفل وتوفر له نموذج جيد للبحث الفلسفي بمساعدته على كشف ما هو رمزي في حياتهم، كذلك فإن دور المنشط مهما جدا إذ عليه من جانبه أن يخلق مكانا حيث يتوفر محيط للحوار الفلسفي المثمر بين الأطفال .
إن تأطير وإدارة نقاش فلسفي هو فن يقتضي معرفة متى نتدخل ومتى لا نتدخل في النقاش، وهذا يتطلب مهارات لإخراج وجهات النظر وآراء الأطفال وتوليدها من عقول الأطفال كما كان يفعل سقراط حين يولد الأفكار من عقول محاوريه ،و مساعدتهم على اكتشاف الآثار المنطقية المترتبة عن وجهات نظرهم التي يتبنوها .
من هنا يجب على الشخص المنشط الذي يمارس الفلسفة مع الأطفال أن يكون بمثابة الحكم والقائد الدليل الذي يدفعهم للمخاطرة وتحمل نتائجها، ويساعدهم على اكتشاف ما هو ضمني ودعمهم في بحثهم عن الحلول الأكثر فهما، إذ مهمة المنشط هنا ليس تقديم الحلول الجاهزة وإنما تشجيع ” أفلاطون الصّغير” على التفكير بواسطة ذاته المستقلة ومن أجلها .
لذلك يجب تدريب الأطفال أنه لا أحد يمكن أن يقوم بمهمة التفكير بدلا عنه . كما أن تعليما يسعى فقط إلى إحالة نتائج المعرفة ونقلها عنوة وينسى إشراك الأطفال في العملية التي تؤدي إلى هذه النتائج هي جهد عقيم ومعارف مسقطة لا تستطيع العقول المستهدفة هضمها وتمثلها، فالطفل ليس مزهرية نملؤها وإنما نارا نوقدها بروح الفكرة الفلسفية وكل إدعاء بأن الفلسفة من المواد التي يصعب إيصالها لعقول الأطفال هو حكم مسبق فكما يقول مونتيني : ” فنحن نخطأ كثيرا حين نصور الفلسفة بعيدة عن متناول الأطفال ” .
فإذا كانت فكرة تدريس الفلسفة للأطفال هي بهذه الأهمية وإذا كانت هي ذات جذور غربية فهل يمنع ذلك من تأصيلها في المناهج التربوية العربية ؟
5) في ضرورة تأصيل تجربة تدريس الفلسفة للأطفال في التعليم العربي ورهاناته :
تبدو الحاجة إلى الفلسفة في المجتمعات العربية ضرورة حياتية وإيتيقية لا غنى عنها في ظل واقعنا العربي المأزوم الذي يكاد يغرق في وحل الهمجية، لاسيما وأن الفلسفة كما علمنا فيلسوف الحداثة والعقلانية ديكارت هي التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين . وحتى تصبح الفلسفة عندنا قناعة راسخة لا بدّ من تأصيل تدريسها منذ الصغر . ليس لأننا نرغب في استنساخ ما تنتجه الثقافة الغربية وإنما هناك بديهيات كلية مشتركة بين الإنسانية جمعاء عندما يتم تشاركها بين البشرية قاطبة تساهم في رقيهم وتقدهم المعرفي والأخلاقي وتدفعهم للتقارب والتضامن مع بعضهم البعض على أساس هذا الخير والمصير المشترك .
و إذا كانت فكرة تدريس الفلسفة للأطفال قد انطلقت من قناعة الحاجة إلى بناء المعنى بطريقة إنسانية، ولئن كان استدعاء هذه التجربة في العالم الغربي نتيجة إيمانهم بضرورة بناء معنى لعالم خال من المعنى وخال من التعالي الإلهي، فإن الأمر عندنا لا يختلف وإن بشكل مقلوب مع الانتهاء إلى نفس النتائج، فنحن قد نشكو من تضخّم في المعنى يصل إلى حدّ الحشو والمبالغة والخروج عن السياق الإنساني والابتذال لتتحول القيم والمعاني إلى قيود وسجون خانقة يختلط فيها العقلاني باللاعقلاني والعامي والسطحي، هذا في مستوى المعنى، أما في المستوى الديني فنحن لا نفعل سوى أننا نحطّ من شأن إلهنا ونسلبه تعاليه من فرط استعمالنا له لنحشره في زاوية الخرافة واللامعقول لننتهي كما انتهوا إلى عالم هو أيضا خاليا من المعنى وخال من تعالي الإلهي .
من هنا حاجتنا للفلسفة كحاجتنا للهواء والغذاء وخاصة ضرورة تدريسها للأطفال لتعويدهم على تقاليدها الفكرية الحرة المتمثلة في إيقاظ الفكر من سباته الدغمائي وتحريره عبر إيقاظ نزعة الشك والسؤال والتفكير والحوار البناء الذي يهيؤنا للتخلص من العنف اللفظي والمادي الناتج عن نقص في الحوار .
ففي العالم العربي تزدحم الأساطير في عقول الكبار كما الصغار ويتجاور المعقول مع اللامعقول دون الشعور بأدنى حرج من هذه التناقضات التي تشق التفكير والواقع وتتقاطع في ذهن المثقف كما في ذهن غير المثقف، مع غياب أي ثقافة عقلانية نقدية في نظام تعليمي لا رهان له سوى حشو الأدمغة بكم هائل من معارف منقولة دون المراهنة على الكيف، هذا إضافة لما يمارسه الكبار من وصاية فكرية ودينية على عقول الصغار فيتم التحكم فيها وتوجيهها وفق ما تشتهيه نوازع الكبار ومعتقداتهم وإيديولوجياتهم، فبدل أن يكون الكبار عنصرا توجيهيا يدفع في اتجاه إنضاج الوعي النقدي لدى الطفل بتعليمه فنون التفكير بالاعتماد على الذات ومساعدته على حرية التفكير والاختلاف والحكم النقدي وتنبيهه إلى أن كل فعل تسبقه عملية تفكير فإنهم يعتمدون فقط على عنصر تخزين الذاكرة وتعبئتها بأحكام مسبقة لا تستند سوى لمنهج الحفظ عن ظهر قلب والحال أن ” أن تعرف عن ظهر قلب معناه أن لا تعرف شيئا ” . لذلك لا بد من خلخلة هذا الواقع المريض بالتفكير في مصير الناشئة عبر إعدادهم نفسيا وعقليا لممارسة الفلسفة بوصفها فنا في الحياة ومشروع خلاص من كل أخطار الدغمائية العنيفة والانغلاق المتعصب على الذات ورفض الآخر المختلف والمتعدد، خاصة وأن المجتمعات العربية هي مجتمعات دينية بالأساس ونحن نعلم خطورة أن يتحول الدين إلى لعبة في أيدي الجهلاء والمتعصبين حينها سيتحول القتل باسم الله امتيازا نستحق عليه ثواب الجنة .
وهو ما يجعل من تدريس الفلسفة للأطفال ضرورة حياتية وليس مجرد ترف فكري إذا ما رمنا خلاصا حقيقيا ومستقبلا إنسانيا أكثر إشراقا يمحو ما خلفه الجهل والتعصب والتفكير الدغمائي من آثار ثقافية وأخلاقية كارثية .
إن حصر الفلسفة وجعلها مقتصرة على عدد محدود وأعمار متقدمة – هذا إذا نالها أصلا شرف أن تكون من بين إحدى المواد المعترف بها في عدد من الدول العربية – تحرم عددا كبيرا على التعود على التفكير التأملي النقدي المتحرر من كل أشكال التعصب والوثوقية في وقت مبكر حيث تكون استعدادات الإنسان المتعلم للتعلم أكبر ورغبته في المعرفة وفضوله لا حدود له فنحن نترك “حقل العقل في أجمل مراحله استعدادا للإنعطاء والخصوبة وعوضا أن نستغل هذا ” الحقل ” لزرعه ببذور العقلانية المستنيرة المبشرة بالإبداع والتقدم نتركه قاحلا ومرتعا لعبث القوى الظلامية والرجعية لتحشوه بديناميت الخرافة والجهل واللاعقلانية . مثل هذه المخاطر التي تهدد النّاشئة بنسف مستقبلهم هي التي تضعنا أمام خيار وحيد هو التسريع بالخروج من حالة القصور الذاتي التي تتهدد الأجيال عبر رفع تحدي العقل والعقلانية والتنوير التي هي شريان المعرفة الفلسفية ” إذ لا يتعلق الأمر بإخضاع كل جيل إلى آراء وإرادة السّابقين ولكن بتنويرهم أكثر فأكثر للاهتداء بواسطة عقلهم الخاص ” .
وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الرهانات المنتظرة والمكاسب التي يمكن جنيها من مشروع تدريس الفلسفة للأطفال ؟
6) رهانات تدريس الفلسفة للأطفال :
حين نعلم الفلسفة للأطفال يجب أن نضع نصب أعيننا أننا لن نقوم بتلقينه النظريات الكبرى للفلاسفة واستعراض كل المدارس الفلسفية وإنما نقصد بها بناء علاقة غير دغمائية مع المعرفة بواسطة أولوية التمشي المعتمد على السؤال وخاصة تلك الأسئلة التي تمس الطفل في حياته المباشرة وفي مشاعره ورغباته وعلاقاته من خلال تموضعه في مجتمع الآباء والأصدقاء والأقرباء عبر إيتيقا تواصلية مبنية على الجدل والحوار والنقاش وتبادل الآراء والأفكار في ظل احترام متبادل ،من هنا يأتي الرهان على تدريس الفلسفة للأطفال الذي يمكن تلخيصه في ثلاث رهانات أساسية :
الرهان الأول : رهان تفكيري ولغوي : حيث يرتبط التفكير باللغة فإن كل الحوار داخل المجموعة لن يكون مجرد نقاش عشوائي بلا مضامين ولا منهج ولا أهداف وإنما عملية مركبة تنطلق من التعبير عما يفكر فيه الطفل بصفة مستقلة وذاتية داخلية إلى عملية مشاركة هذا التفكير مع الآخرين من خلال الحوار والنقاش مع أقرانه حيث يسمح النقاش الفلسفي فيما بينهم بتنمية المهارات اللغوية وقدرات التواصل والتعبير من خلال التبادل الشفوي للأفكار والتدرب على استعمال لغة دقيقة وواضحة بما يسمح السيطرة على اللغة التي هي أساس الوصول لكل المعارف، وهو ما يسمح بفتح آفاق متعددة للطفل ويضمن موقعه المستقبلي بوصفه مواطنا .
يتعلق الأمر إذن بتدريب الأطفال الجرأة على الكلام، وخوض مغامرة المخاطرة أمام الآخر الذي يسأله ويتناقض معه والذي عليه في نفس الوقت أن يستوعب فكره وكلامه مهما بلغت درجة اختلافه معه وتعديل كلامه كلما اقتضى الأمر ذلك وذلك بقبول واحترام قواعد التبادل وقواعد العيش المشترك .
فالتبادل الشفوي اللغوي الممهد بالنقاش يسمح بتنمية القدرة التواصلية الحوارية التي تتم بواسطة اللغة وتشجيع الأطفال المتحاورين على التعبير وإبداء الرأي بكل حرية ومسؤولية وشجاعة وتفسير مواقفه للآخرين، ويتعلم ضرورة أن يكون واضحا في لغته وعرض أفكاره لتبليغها وإفهامها لأصدقائه وشركائه في الحوار من خلال ثلاثي التفلسف وهي المفهمة، الأشكلة والحجاج . وهو ما يعني أن فعل التفكير ليس فعلا يتم بشكل معزول عن الآخر وإنما يكون بالتفكير مع الذات ومع المجموعة وهو ما يساهم في تحويل الطفل من التمركز حول ذاته وتخليصه من أنانيته ونرجسيته في اتجاه مصالحته مع العالم الذي يسكن فيه حيث تتاح له فرصة التعرف على ذاته من خلال الآخرين، وينتبه إلى قدرته على تغيير الآخر وعل التغيّر من قبل الآخر بمعنى القدرة على التأثر والتأثير .
الرهان الثاني: هو رهان ديمقراطي : على ضوء النقاشات الجماعية، يجب أن يكون الطفل في هذا الإطار قادرا على الإصغاء للغير، مع المطالبة بتوضيحات كلما اقتضى الأمر ذلك وقبول بتوجيه المعلم للنقاش وعرض آرائه وتفاعلاته وردة أفعاله في الحوار أو النقاش مع البقاء في مستوى التبادل المنظم لتجنب الفوضى ووضع نقاش منظم يدمج كل المتحاورين لذلك لا بد من تأسيس قواعد وإلزامات ضرورية تسمح بضمان الحقوق والحريات لكل واحد في مستوى الكلام والتعبير وتضمن حسن التواصل البيني بين الأطفال ومنشطهم . هذا الاحترام للعقد الديمقراطي يجعل الطفل أكثر وعيا بانتمائه إلى مجموعة ومجتمع يتطلب العيش فيه القبول بقيم القواعد التشاركية وقواعد الحياة . وهو ما يتيح للأطفال بصفة مبكرة ممارسة عقولهم من منظور مواطني، من هنا تتجدد العلاقة الأصلية بين الفلسفة والديمقراطية، فالتدرب على المناقشة فلسفيا في المدرسة ومنذ الطفولة، معناه توفير إطار وبيئة تعليمية لإيقاظ التفكير التأملي , التكلم لا من أجل التكلم ( الذهاب إلى ما بعد السيطرة على الشفاهي ) ولكن للتفكير فيما نقوله وليس فقط قول ما نفكر فيه . التكلم لمعرفة عما نتحدث عنه وإذا ما كنا بصدد قوله حقيقيا مع وظيفة وآداء ديمقراطي للتعبير والكلام، واستعمال مستنير للعقل بما يعد لفهم الرهانات الثقافية والاجتماعية والإيتيقية في عالم مركب والمساهمة بشكل صارم في النقاش العام الضروري واللازم لخيارات سياسية حاسمة . فالمدرسة لديها مسؤولية خاصة في تعليم المواطنة ويبدو النقاش الفلسفي من هذا المنظور كضمانة لجودة النقاش الديمقراطي بما أنه يحافظ عليه من التلاعب الديماغوجي والدوكسولوجيا ( منطق الوهم ) التي تكتفي بالتعبير عن الظنون والآراء دون شرط التحقق من صحتها العقلانية .
الرهان الثالث : رهان إيتيقي : لا يمكن أن يكون هناك نقاش فلسفي دون الخضوع لبعض القواعد ( فعلى سبيل المثال لا يمكن الحديث جميعا في نفس الوقت وإلا لا يمكن أن نسمع بعضنا البعض كما لا يمكن أن يحتكر شخص واحد الكلام وإلا لن يكون هناك تبادل للأفكار، لكي يتمكن كل واحد من التعبير عن أفكاره يجب أن نلتزم بعدم مقاطعته عند الكلام وتجنب السخرية منه ) إنها أخلاقية تتجاوز الغائية الديمقراطية الخالصة لأنها تلزمهم بإقامة علاقات مع بعضهم البعض بصفة شخصية وليس مع الآراء فقط . إنهم يتعلمون أن احترام المواطن معناه احترام فرد له حقوق . واحترام شخص معناه اعتبار كرامته ككائن انساني . إنها نوع من الإيتيقا النّقاشية تحترم الشخص فيما وراء أفكاره إننا نبحث معه ولا نقاتل ضدّه، فالآخر ليس خصما بل شريكا وهو ما يقلص من إرادة العنف ويزيد من التسامح ونشر السلام وثقافة الحوار . إنها تطور إيتيقا ذات حس إنساني كلي عند الأطفال بوصفهم مستقبل البشرية وهي تمثل أساس الروابط الاجتماعية وبالتالي السياسية داخل المجتمعات المعنية بتكريس الفلسفة كثقافة حياتية تبدأ ممارستها منذ الطفولة .
الخاتمة :
خلاصة القول يبدو مشروع تدريس الفلسفة للأطفال في وقت مبكر مشروعا مغريا يعد بمستقبل واعد للمجتمعات التي تراهن على مستقبل مشرق تبنيه عقول حرة . ذلك أن الفلسفة وما يميزها من مناهج متعددة تتراوح بين الشك والنقد والمساءلة والفهم والتأويل والقدرة على الانفتاح على شتى العلوم والمعارف الإنسانية المتنوعة قادرة على تكوين عقول جيدة تنبذ الإقصاء والعنف وتجنح لبناء القيم الإنسانية المشتركة المبنية على حسن الجوار مع الآخر الذي يشاركنا الاقامة في العالم عبر الحوار وحل الصراعات والنزاعات بصفة سلمية والتسامح مع الثقافات المختلفة والتواصل الفاعل معها . وهو ما يبشر بمواطنين منغرسين في الشأن الإنساني العام وليس مجرد أفراد أنانيين .
ولا شكّ أيضا أن أكثر المهارات التي ننتظرها من مواطنين مستقبليين تربوا منذ طفولتهم على حب الفلسفة وتعلموا منهجها العقلاني المنطقي هي القدرة على التفكير بمسؤولية أمام وضع إشكالي للوصول إلى أفضل الحلول سواء على مستوى النجاعة أو على مستوى الأخلاقية . لذلك فإن خيار تعليم الفلسفة باكرا يهدف الاستجابة لمقتضيات تنمية العقلانية الفكرية والحوارية بما يسمح تحقيق اجتماعية الأطفال وتنمية الشعور لديهم بالانتماء للمجموعة الاجتماعية التي يعيشون داخلها والمجموعة الانسانية بصفة عامة والشعور نحوها بالمسؤولية . عندها فقط يمكن أن نقول أن مستقبل البشرية الذي نطمح أن يكون مشرقا يبدأ من ” أفلاطون الصغير” .
فهل يمكن لنا نحن العرب أن نأمل قريبا في تأسيس هكذا مشروع ؟