في 15 نيسان 1961 قامت قاذفات أميركية من طراز «بي 26» بقصف العاصمة الكوبية هافانا وبعض المطارات العسكرية في محيطها.. بعد انتهاء القصف حط الطيارون بطائراتهم في مطار «كي ويست» في ولاية ميامي الأميركية، وادعوا “أنهم جنود في الجيش الثوري الكوبي وقد انشقوا عنه وأعلنوا انضمامهم إلى صفوف المعارضة”.
كان ذلك القصف نقطة البداية لقيام مجموعة من المرتزقة الذين دربتهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية في غواتيمالا ونيكاراغوا، والمدعومين لوجستياً من الجيش الأميركي، بمحاولة لغزو كوبا وإسقاط نظامها الثوري، وهي العملية التي ستُعرف تاريخياً باسم عملية «خليج الخنازير».
صباح 19 نيسان 1961 انقشع غبار المعركة عن فشل ذريع للقوات الغازية. فقد نجحت القوات الشعبية الكوبية، مدعومة من الجيش الثوري الكوبي، في إسقاط 12 قاذفة وطائرة معادية، وإغراق أربعة زوارق حربية، والاستيلاء على خمس دبابات وأسر أكثر من 1100 من المرتزقة وقتل 110 منهم، بينهم أربعة طيارين أميركيين.
في الخامس من أيار 2020 أعلنت الحكومة الشرعية في فنزويلا إحباط محاولة غزو بحرية انطلقت من كولومبيا المجاورة، وهدفت إلى التسلل عبر مدينة لاغوايرا. كان للقوات الشعبية الدور الأهم في السيطرة على الإرهابيين وتسليمهم إلى الجيش الفنزويلي، وجاءت التفاصيل اللاحقة لتؤكد أسر 15 مرتزقاً بينهم اثنان من العسكريين الأميركيين، ومقتل 8 من المهاجمين.
العنصران الأميركيان، كما أعلن جوردان غودور، صاحب شركة «سيلفر كورب» الأمنية، هما من كوادر شركته، ورفاق سلاحه. و«سيلفر كورب» هي واحدة من وريثات “بلاك ووتر”، وهي شركة أمنية أميركية خاصة، مسجلة في ولاية ميامي الأميركية.
بين العمليتين رابط يتجاوز الرغبة الإمبريالية الدائمة بالسيطرة على مقدرات الشعوب بحرمانها من الحرية والاستقلال. بعبارة أخرى كيف تبرر الإمبريالية عملياتها ضد الشعوب، أخلاقياً وسياسياً، على مدى أكثر من قرن من الزمان؟
قادني البحث إلى مقال للكاتب الأميركي ديفيد روبوبوت الأستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا. المقال الذي نُشر بعنوان «موجات الإرهاب الأربعة وأحداث 11 أيلول» يلخص الرؤية الغربية لمفهوم الإرهاب، والتي تشكل مصدراً للعديد من الأبحاث والدراسات والكتب التي وضعها روبوبوت نفسه، وزملاء له من أهم الكتاب والباحثين السياسيين في الغرب.
يرى الكاتب أن العالم الحديث عانى من أربع موجات من الإرهاب. كانت الأولى عام 1880 مع ظهور مبادئ الفوضوية (الأناركية) وقد بلغت هذه الموجة ذروتها باغتيال الرئيس الأميركي ويليام ماكنلي عام 1901، وتفجيرات “وول ستريت” عام 1919. أما الموجة الثانية فبدأت في منتصف عشرينيات القرن الماضي، ومثلتها -وفق تصنيف الكاتب- الحركات المناهضة للاستعمار، أو ما نسميه نحن حركات التحرر الوطني.
استمرت هذه الموجة حتى أواسط الستينيات، لتحل محلها موجة اليسار الجديد، أو الموجة الثالثة. استمرت هذه الموجة حتى نهاية الثمانينيات، وبدأت بالانحسار بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فاتحة المجال أمام الموجة الرابعة التي بدأت عام 1979. هذه الموجة هي “موجة الإرهاب الإسلامي”، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا (كما يقول الكاتب حرفياً).
بعيداً عن السياق التاريخي والأقاويل التي يسوقها الكاتب ويسميها “أدلة” نستطيع القول، من دون عناء، إن الإرهاب بالتعريف الغربي، هو كل فعل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي لا ينسجم مع الرؤية الليبرالية الرأسمالية للعالم، أو يحاول التمرد عليها، بغض النظر عن خلفيته الفكرية، يساراً أو يميناً، محافظاً أو علمانياً.
في عام 2014 أنتجت “هوليوود” فيلماً بعنوان «القناص الأميركي» يستعرض قصة حياة القناص الأميركي كريس كايل الذي يعتبر أكثر القناصين قتلاً في التاريخ العسكري الأميركي، فقد قام بـ255 عملية قتل خلال أربع جولات من الخدمة في العراق بعد الغزو الأمريكي له. عملية القنص الأولى حسب الفيلم، كانت قتل طفل وأمه أثناء شروع الأم بتنفيذ عملية فدائية ضد المحتلين الأميركيين.
حسب روبوبوت فإن “الإرهابي هو الأم وطفلها”، أما القناص فقد كان مصدر ندمه الوحيد أنه لم يقتل المزيد من «الإرهابيين». هذا القاتل هو “رسول الحرية والديمقراطية”. أمام الصورة المشبعة بمشاعر “الوطنية” الليبرالية التي تقدمها مشاهد “القنّاص” تختفي أهمية السؤال عمّا يفعله هذا الأميركي في شوارع بغداد على بعد آلاف الكيلومترات من دولته، وكيف يتحول صاحب الأرض الذي كفلت له كل الشرائع السماوية والأرضية حق الدفاع عن وطنه إلى “إرهابي”. بعبارة أخرى مَن يعتدي على مَن؟!
في السياق نفسه يُعدم الأبرياء في شوارع فلسطين المحتلة للاشتباه بأنهم يُخططون للقيام بعمليات «إرهابية» وتُهدم بيوتهم، ويُعتقل كبارهم وصغارهم. يُدمر العراق، وتُنهب ثرواته، ويعاني أبناؤه من أبشع أنواع العذاب في معتقلات مثل أبو غريب. ويتعرض اليمن لأكثر الحروب همجية، يُقتل شعبه ويُحاصر محروماً من الغذاء والدواء. تُشن حرب همجية على سورية، وتُطلق يد الإرهاب ضدها؛ إرهاب التنظيمات التكفيرية، وإرهاب دول عظمى تقصف منشآتها وتحاصرها اقتصادياً. والحقيقة أن صفحات طويلة لا تكفي لسرد بشاعة القوى الإمبريالية المتوحشة التي تدعى، للمفارقة، أنها “تحمي السلام العالمي”. هذه المفارقة التي تدفع إلى التساؤل: إلى أي حد يمكن أن يكون خطاب العقل والمنطق الموجه إلى الدول الرأسمالية ومنظماتها الدولية خطاباً ذا جدوى؟
كل الدلائل تشير إلى أن القاعدة التي تبني عليها الإمبريالية المتوحشة قوتها وغطرستها، وتستمد منها هيمنتها، تكمن في غياب جبهة وطنية عالمية مناهضة لها تضم كل قوى التحرر الوطني الحقيقية والجذرية. علينا أن ندرك أن جبهة مواجهة الإمبريالية واحدة، من فنزويلا إلى كوبا إلى إيران فالعراق فسورية فلبنان ففلسطين فاليمن. وأن كل هزيمة نلحقها بالعدو على امتداد هذه الجبهة ستكون لبنة أخرى في سبيل بناء عالم جديد، عالم الشعوب والكادحين.
كاتب من الأردن