شاع الظنّ إلى حدّ بعيد بأن قرار أميركا بالانسحاب من الشرق الأوسط أو تقليص وجودها العسكري فيه والانزياح إلى الشرق الأقصى لمواجهة «الخطر الاستراتيجي الأعظم» المتمثل بـ «التنين الصيني العملاق“، بأنّ هذا القرار إنما هو قرار ترك وتخلّ وإفساح بالمجال للمكونات الإقليمية خاصة في محور المقاومة لترتيب شؤونها ونسج علاقاتها الخارجية بعيداً عن الضغوط والعدوانية الأميركية. وقد برّر هذا الظن بقرارات كبرى اتخذها ويتخذها بايدن من الأسبوع الأول لتوليه مقاليد السلطة في أميركا رئيساً يلي من أثار في ولايته الجدل الذي سيطول كثيراً لمزاجيته وحتى جنونه على حد وصف البعض لترامب.
لقد سارع ترامب في الشهر الأول من بدء ولايته إلى رفع اسم أنصار الله الحوثيين عن لائحة الإرهاب الأميركية، تزامناً مع قرار آخر بوقف تصدير الأسلحة والذخائر الهجومية إلى السعودية، وأعقب ذلك بتسريع التفاوض مع طالبان وصولاً إلى قرار الانسحاب الأميركي والأطلسي من أفغانستان وتكليف تركيا التي تلعب دور القاعدة المتقدّمة للأطلسي في الشرق القيام بمهام محددة في تلك البلاد بما من شأنه الحفاظ على وجود محدود فيه.
أما القرار الأهمّ فقد كان قرار عودة أميركا الى الاتفاق النووي مع إيران. قرار اتخذ رغم علم بايدن بالشروط الايرانية الثابتة والواضحة والتي لا مجال للمناورة فيها، والتي من أجل تنفيذ القرار بشأنها تداعت القوى المعنية به إلى فيينا من اجل البحث عن الإخراج الذي يحفظ لأميركا ماء الوجه ولا يظهرها مهزومة فعلياً أمام إيران، كما لا يظهر إيران بموقع المنتصر القادر على استثمار انتصاره في مجالات أخرى في الإقليم وعلى تصعيد المواجهة الأخرى مع أميركا.
كل ذلك حمل كثيراً من المراقبين والمتابعين على القول بان هناك أميركا أخرى أو أميركا جديدة في العلاقات الدوليّة تشكل سياستها وأداءها الدولي العام انقلاباً على صورة أميركا المعروفة، الصورة التي تتشكل خطوطها الرئيسيّة من حزمة من أشكال العدوان والهيمنة والاستتباع ووضع اليد على ثروات الشعوب ومصادرة قرارها.
بيد أن السلوك الأميركيّ لم يصل إلى حد خداع الجميع، فمن كوته أميركا بنيران عدوانها لم يكن سهلاً لديه أن يصدق أن أميركا تغيرت وأنها انتقلت من مقام “الشيطان الأكبر” عدوة الشعوب إلى مقام “الملاك الرحيم في الشكل والجوهر” المعترف للشعوب بحقوقها، ولهذا كان الحذر سيد الموقف في فهم السلوك الأميركي الجديد والتعامل مع أميركا والإحجام عن التسرع في القول إن أميركا تغيرت وقد كان الحذرون محقين في ما ذهبوا اليه من شك وحرص عملاً بقول الرسول “المؤمن كيس فطن”. والفطنة كانت تقتضي التمهّل في الحكم على الأشياء حتى تتضح حقيقتها وتظهر مكنوناتها وجوهرها الحقيقي.
في خضم هذا الجدل وبشكل فجائي، جاء القرار الأميركي بحجب ومصادرة وإغلاق المواقع الإلكترونية الناطقة باسم محور المقاومة أو المؤيدة والمروّجة لسياسته، حيث اتخذت وزارة العدل الأميركية وبشكل مفاجئ ومن غير أي مقدمات قراراً لم ينتبه حتى ترامب اليه، قراراً بحجب وإغلاق اكثر من 21 موقع ومحطة تلفزيون من منظومة أعلام محور المقاومة والبعض صنّف المواقع والمحطات المستهدفة بالقرار بأنها إعلام الإسلام الشيعي السياسي والديني، خاصة أنّ بعض ما تناوله القرار يحصر نشاطه في الجانب الديني والتبليغي فقط. وهذا ما فتح الباب أمام سلسلة من الأسئلة تتمحور حول الأسباب التي دفعت أميركا لاتخاذ هذا القرار؟
للوهلة الأولى يمكن تفسير القرار ربطاً بالمرحلة التي وصلت اليها المفاوضات في فيينا حول البحث عن إخراج يعيد أميركا إلى الاتفاق النووي مع إيران، والقول بأن أميركا أرادت أن تسكت الأدوات الإعلامية العاملة بإشراف إيراني وتنسيق مع السياسة الايرانية لمنعها من استغلال النجاح الإيراني والترويح له على حساب المعنويات الأميركية.
كما يمكن القول بأن أميركا والغرب الذين تلقوا صفعة مؤلمة انطلاقا من صناديق الاقتراع التي جاءت بالسيد إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية الإسلامية في إيران خلافاً لما كانت تعمل له أميركا من تشويش لإفشال الانتخابات أو الادعاء بعدم ديمقراطيتها وعدم شرعيتها، وجاء الإغلاق والحجب ليمنع إيران من استعمال أداة الترويج للانتصار على حساب أميركا التي كانت أعدّت وسخرت أكثر من 250 محطة تلفزيون ناطقة باللغة الفارسية للتشويش على الانتخابات وحمل الناس على المقاطعة ولكن جهودها ذهبت سدى وانتصرت ايران في المجالين السياسي والإعلامي.
إلى قول آخر يحمل سبباً مختلفاً ويربط الإغلاق بالحال التي تستعد المنطقة للدخول فيها وهي مرحلة استثمار الانتصار في مواجهة الحرب الكونية المرحلة التي بدأت إرهاصاتها تتوضح بدءاً من الانتخاب الاحتفالي في سورية التي أكدت على قيادة الرئيس بشار الأسد قائداً من غير منافس جدّي، وفي إيران حيث جاءت رئاسة إبراهيم رئيسي من النسخ ذاته أي بدون منافس فعلي، ثم تحريك عجلة الاقتصاد في دول محور المقاومة خاصة إيران وسورية التي شهدت في الأسبوع الماضي زيارة وفد روسي جاء من أجل التعاون الاقتصادي بكل وجوهه غير عابئ بالقرارات والعقوبات الأميركية.
لكل ما تقدّم من أسباب ومن دون شك، دور في تفسير القرار الأميركي، لكنه لا يكفي وحده ليجيب عن كل الأسئلة حول القرار، لأن الحقيقة التي نرى أنها دفعت أميركا إلى مثل هذا القرار غير القانونيّ وغير الأخلاقيّ لا بل الاستبداديّ والعدوانيّ، تستمدّ من المبادئ الأساسيّة لإدارة الصراعات وتفضي إلى القول بأن العدو عادة ما يستبق حرباً يريد أن يقتدح نارها بكمّ الأفواه، وعليه نسأل هل هي حرب جديدة تريد أميركا شنّها على المنطقة وعلى محور المقاومة؟ فإنْ كانت الحرب فمن أيّ نوع؟
قبل الإجابة نعود ونؤكد على أهمية التبريرات التي تقول بأن أميركا لا تتقبّل فكرة الترويج لهزيمتها ولا تحتمل وجود من يشدّ العصب ويرفع معنويات أعدائها وخصومها، كما تعمل المحطات المحجوبة أو المحظورة الآن، لكن المسألة كما نرى أبعد من ذلك وتفسّر بالقول بأنّ أميركا التي قرّرت الانزياح إلى الشرق الأقصى لمواجهة الصين عسكرياً واقتصادياً واستراتيجياً بشكل عام، وقرّرت إقفال الجبهات حيث النار والقتال والقتل في الشرق الأوسط أن أميركا هذه لم تقرّر ترك الشرق الأوسط والتخلي عنه بل إنها غيّرت استراتيجيتها فيها ورغبت بمشاغلته من غير قوى عسكرية أو ميادين قتالية تشارك قواتها فيها.
ونرى أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة أو المطوّرة المتجددة تقوم على أساس “الحرب الناعمة المركبة والذكية“ التي تركز بشكل خاص على الحرب النفسية والحرب السيبيرانية من اجل إشاعة الرعب والفوضى والفتن في المنطقة بما يؤدي إلى منع استقرارها ومنع المنتصرين في الحرب الكونية من استثمار انتصارهم والعودة إلى الحال الطبيعية ومنع إطلاق عمليات إعادة البناء والحؤول دون التركيز على التنمية الاقتصادية. إنها الحرب التي ترمي إلى تآكل الداخل بالفتنة والفوضى ومنع الإنتاج والتعمير، إنها حرب الانتقام من الهزيمة، حرب تتطلب استباحة الفضاء الإعلامي للخصم والاستئثار به وشل أدوات التوعية الإعلاميّة والنفسية لديه. وبالتالي إن أهمية القرار الأميركي بحجب المحطات الإعلامية تكمن في كونها تشكل إنذاراً بتغيير ما في طبيعة المواجهة وبحرب جديدة من نوع خاص ترمي إليها أميركا بخبث، حرب تُدار من غير عسكر وسلاح تقدّمه أميركا.
وعليه نرى أن محور المقاومة مدعوّ للتحضير للمواجهة الجديدة، ففي حين سيجد أن النيران بأيدي الإرهابيين والجيوش الأجنبية قد تراجعت حتى تكاد تخمد، وأن القوى الأجنبية تستعدّ لوقف احتلالها بعد أن هزم أصحابها على يد المقاومين الأبطال فإنه سيواجه العدوان الجديد الذي تفرض مواجهته عظيم الوعي والتبصّر والبحث عن البدائل. وهنا نرى أن ما يجري في لبنان حالياً نموذجاً مختصراً لهذه الحرب المقبلة، ونجد أن من يعملون على الإيقاع الأميركي والغربي يركزون جهودهم لمنع أي حلّ ويتمسكون بالمستحيل لا لشيء لأنه مستحيل ويفضي إلى الفوضى المطلوبة. فهل يكون لبنان الحلقة الأضعف في جبهة المواجهة في إطار الحرب الجديدة تلك؟
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي
(البناء)