عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع بين إيران والمجموعة 5+1، عام 2016، ظن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وإدارته، أنّ انسحابه من الاتفاق النووي الدولي، وإعادة واشنطن فرض عقوباتها الآحادية الشرسة على طهران، وإلزام دول العالم التقيّد بها، سيحمل القيادة الإيرانية على الهرولة باتجاهه والانصياع لإرادته. ومن ثم جرّها للعودة ثانية إلى طاولة مفاوضات جديدة تتناول مواضيع حساسة، كبرنامج الصواريخ الإيرانية، وسياسة إيران في المنطقة، ودعمها لحركات المقاومة فيها، وغيرها من الملفات الساخنة. ظنّ ترامب أنّ الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وإعادة فرض العقوبات على إيران سيربك القيادة الإيرانية، وسيحملها على اللجوء مرغمة إلى بيت الطاعة الأميركي، الذي تعوّدت على السكن فيه العديد من دول العالم ذات السيادة الصورية!
كان ترامب ينتظر رنّ هاتفه ليسمع من القيادة الإيرانية ما يروي غليله، لتقول له إنها جاهزة لكلّ ما يُطلب منها من دون قيد أو شرط. وكان يتصوّر واهماً أنّ العقوبات ستجبر طهران على الركوع، اقتصادياً ومالياً وتجارياً. وكان مع إدارته يتصوّر أيضاً، أنّ ما لم تستطع واشنطن تحقيقه عن طريق القوة العسكرية المباشرة، تستطيع تحصيله من خلال الحصار القاسي، الذي سيضع النظام في مأزق كبير، ويحمله على الخضوع عاجلاً أم آجلاً. إذ أنّ العقوبات الخانقة ـ بنظر ترامب وحلفائه، ستدفع بالشعب الإيراني إلى الحراك، والتمرّد، والعصيان ضدّ النظام، والمطالبة بقبول الذهاب إلى مفاوضات جديدة، وإنْ كانت بشروط أميركية من أجل فكّ الحصار ورفع العقوبات عنه.
الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الولايات المتحدة، وكلّ رؤسائها الذين توالوا على الحكم فيها، منذ نجاح الثورة الإيرانية وحتى اليوم، ابتداءً من كارتر إلى رونالد ريغان، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون، مروراً بجورج بوش الإبن، وباراك أوباما، وصولاً إلى دونالد ترامب وجو بايدن، إنّ الإدارة الأميركية لم تدرك، ولم تفهم حقيقة ما يختزنه الشعب الإيراني من كراهية لحكامها ولسياساتها منذ قيام الثورة وحتى اليوم. فمن يعش إلى جانب الإيرانيين، ويسبر غورهم، سيعرف أنه على رغم معاناتهم جراء الحصار والعقوبات الظالمة، هم أكثر إيماناً، وصلابة، وعناداً، وتصميماً، وعزماً وصبراً.
الإيرانيون يعون ويعلمون جيداً أنهم في مواجهة شرسة مع أعتى إمبراطورية قهراً، يسمّونها في أدبياتهم السياسية «الشيطان الأكبر» الذي لم يتخلّ يوماً عن طغيانه، وجبروته، واستكباره، وعنجهيته، وهيمنته، والعبث بالقانون الدولي، وتطويعه لخدمته، وإكراهه الدول الكبيرة والصغيرة في هذا العالم، على الدوران في فلكه، والتقيّد بقراراته رغماً عنها، ورغماً عن سيادتها، أرضيت أم لم ترض. وما التزام الاتحاد الأوروبي بالعقوبات الأميركية المفروضة على طهران إلا النموذج الواضح على ذلك، فهو وإنْ لم ينسحب من الاتفاق النووي. إلا أنه رغماً عنه التزم بالعقوبات الأميركية، وبقي نظرياً وشكلاً مع الاتفاق من دون جدوى، وفي نفس الوقت، تماشى عملياً مع العقوبات الأميركية على إيران، ملتزماً بها بدقة شديدة.
كم كانت الطاعة مخجلة، وإهانة لاتحاد أوروبي لا يستطيع أن يقول لا لواشنطن، وهي تفرض عقوباتها الآحادية الجانب، في الوقت الذي يتشدّق قادته، ويؤكدون حرصهم على حرية وسيادة الدول. من دون أن يدري «الغيارى على القرار السيادي» في الاتحاد الأوروبي أن فاقد الشيء لا يعطيه. اتحاد يمثل خمسمائة مليون نسمة، لا حول ولا قوة له، يخضع أمام قرار آحادي أميركي جائر، فرض عليه وتفيد به، ويتجرّعه تفادياً لعقوبات أميركية تطال أي جهة أوروبية تتعامل اقتصادياً وتجارياً ومالياً وتكنولوجياً مع إيران!
جولة سابعة من المفاوضات في فيينا مع المجموعة 4+1، بشروط طهران، غير قابلة بالمسّ بالسيادة الإيرانية، وحق إيران في امتلاكها لبرامجها النووي السلمي، واستخدامه في مجالات الأبحاث والصناعات التكنولوجية والطاقة وغيرها.
المراقب للأوضاع الإيرانية، والمتتبّع بموضوعية للملف النووي الإيراني، أياً كان موقفه من الثورة والنظام الإيراني، لا بدّ له من أن يتوقف ملياً أمام حقائق عدة لا يمكن له تجاهلها، وإنْ كانت مرة لمن يناصب إيران العداء وهي:
1 ـ كانت الدول المعارضة للبرنامج النووي الإيراني وعلى رأسها واشنطن ومعها «إسرائيل»، تعتقد أنّ إيران بعد المفاوضات النووية التي أجرتها عام 2003 مع المجموعة الأوروبية الثلاث: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتوقيعها الاتفاق معها، ستتوقف نهائياً عن تخصيب اليورانيوم. إذ أنّ المجموعة الأوروبية ستقوم بتأمين ما تحتاجه إيران من الوقود النووي لتشغيل مفاعلاتها النووية، إلا أنّ الاتفاق سرعان ما فشل، بسبب المراوغة الأوروبية، والمماطلة، وتضييع الوقت. كان الردّ الإيراني سريعاً، وكان على طهران ان تنسحب من الاتفاق، وتعود إلى تخصيب اليورانيوم في شكل واسع وأكبر، مما أثار حفيظة واشنطن والاتحاد الأوروبي و»إسرائيل» حول غاية البرنامج النووي، التي تسير به طهران بخطى واثقة.
2 ـ إنّ تلكؤ الثلاثي الأوروبي، ومماطلته في تنفيذ بنود الاتفاق مع طهران، دفع بطهران لكي تطوي صفحة الاتفاق، وتنطلق في ما بعد بكلّ قوة، متمسكة بحقها من خلال القانون الدولي، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن يكون لديها برنامج نووي سلمي، والقيام بتخصيب اليورانيوم وفقاً لشروط المعاهدات الدولية الموقعة عليها مع الوكالة الدولية، وملحقها. واتفاقية حظر أسلحة الدمار الشامل (NPT).
بعد أن بدأت طهران بالسير في تنفيذ برنامجها النووي، دعت واشنطن وحلفاؤها إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي عام 2006، الذي فرض على إيران أول عقوباته الأممية، على رغم أنّ التخصيب لا يزال أقلّ من الحدّ الأدنى الذي تسمح به الوكالة الدولية. لم تكترث طهران للعقوبات بل آثرت الدفاع عن حقها، والاستمرار في برنامجها النووي السلمي مهما كلف ذلك من ثمن.
3 ـ كان على إيران أن تحصّن موقعها، وتصون سيادتها أمام أيّ تهديد أو عدوان يطالها. لذا رافق برنامجها النووي، برامج الصواريخ البالستية المتطورة، المتوسطة والبعيدة المدى التي تحمي البلاد بحراً وبراً وجواً.
برنامج الصواريخ هذا، زاد من مخاوف الغرب و»إسرائيل»، ما دفع بواشنطن عام 2007 إلى طلب انعقاد مجلس الأمن مرة أخرى، بسبب عدم التزام إيران بالقرار الأممي السابق. فما كان على المجلس إلا أن يفرض المزيد من العقوبات الأممية على طهران. لكن إيران ظلت متمسكة بحقها، وقامت بتطوير برنامجها النووي بسرعة، واستطاعت أن تمتلك التكنولوجيا النووية في شكل كامل.
كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ترسل مفتشيها في شكل دائم للإطلاع على المنشآت النووية، والتحقق من مستوى تخصيب اليورانيوم، وأيضاً التأكد من سلمية البرنامج النووي.
على الرغم من التقارير التي كانت تنشرها الوكالة الدولية في ما بعد، حول تقيّد إيران بالاتفاقية الدولية، لجهة تخصيبها لليورانيوم الذي هو بنسبة 3.5 في المئة، وأقلّ بكثير مما تسمح به الوكالة لبرامج الدول لغاية 20 في المئة. إلا أنّ ذلك لم يمنع الغرب وعلى رأسه واشنطن، من ملاحقة إيران أمام مجلس الأمن مرة ثالثة ورابعة، عامي 2008، و2010، حيث عزز المجلس من عقوباته الأممية عليها.
4 ـ على رغم تصعيد العقوبات الأممية، استطاعت طهران أن تصمد على رغم الظروف الصعبة، رافضة العودة إلى اتفاق جديد دعت إليه واشنطن، قبل عودة هذه الأخيرة إلى الاتفاق، ورفع العقوبات عنها، وتحرير ودائعها مسبقاً.
بعد صمود وصلابة موقف إيران، والتمسك بحقوقها المشروعة، وفشل سياسة واشنطن في تقويض النظام الإيراني، وإثارة الاضطرابات والعصيان، وتأليب الشعب عليه، وجدت أميركا ومعها الاتحاد الأوروبي، أن الذي كانوا يراهنون عليه في الداخل الإيراني قد سقط، وخاب أملهم، وأدركوا متأخرين، أنّ إيران أصبحت على وشك امتلاكها للسلاح النووي، كان لا بدّ لواشنطن وبالتنسيق مع المجموعة 4+1 من إعادة المباحثات النووية مع طهران.
5 ـ ما كان يرفضه الغرب في برنامج إيران النووي عام 2003، أصبح من الماضي. لكن طهران اليوم، وفي مفاوضات فيينا عام 2021 ستطلب أكثر بكثير مما كانت تطلبه عام 2003.
لأنّ القدرات الإيرانية النووية المتقدّمة، والترسانة العسكرية الرادعة، والإرادة الصلبة للشعب الإيراني، ووقوفه خلف قيادته، جعلت إيران تستوعب العقوبات الأميركية والأمنية على رغم مرارتها وقساوتها، وتتجاوزها بكلّ عزيمة وثقة، معززة بوعي شعب، عرف حقيقة ما تريده الولايات المتحدة منه، وهي التي تفرض عليه العقوبات منذ عام 1980 وحتى اليوم.
فمن يخالط الشعب الإيراني عن قرب، وعن كثب، سيعلم علم اليقين كم هو متمسك هذا الشعب بوطنه، وعنفوانه، وكرامته، وسيادته. يجوع ولا يركع، يستشهد ولا يستسلم، يشدّ الحزام على بطنه ولا يخضع، يتلقى الصدمة ولا يلين، يتحمّل أقسى العقوبات ولا يستكين. هي حقيقته التي جعلت من إيران أن تصمد وتنتصر، وتبني لها على رغم الحصار ترسانة صناعية مدنية وعسكرية كبيرة ومتطورة، وأن تحقق الاكتفاء الذاتي إلى حدّ كبير في قطاعات الصناعة والزراعة والغذاء والصحة، والخدمات، والبنى التحتية على رغم الظروف القاهرة. لقد خطت خطوات ثابتة، محققة إنجازات لافتة باهرة، في مجالات البحوث العلمية، والفضائية، والطبية، لا سيما النانوية، حتى أصبحت واحدة من بين دول قليلة في العالم في هذا المجال.
6 ـ جلسة سابعة في فيينا والكرة في ملعب المجموعة 4-1 وهي روسيا والصين وألمانيا وفرنسا وبريطانيا. أن أيّ مشروع أوروبي لا يلبّي طلبات إيران وحقوقها المشروعة، لن يُكتب له النجاح. إيران تفاوض اليوم على رغم الحصار الجائر، والعقوبات القاسية، من موقع قوتها وليس من موقع ضعفها. فعندما فكت القيود عام 2005 عن برنامجها النووي، كانت أقلّ قوة بكثير عما هي عليه اليوم. كانت تعي منذ البداية ما يحضر لها، لذلك بنت قوتها العسكرية الضاربة وفرضت هيبتها، وأصبحت عصية على كلّ معتد، ليحسب لها أكثر من حساب. كما خطت إيران خطوات باهرة إلى الأمام في تنفيذ برامجها الخمسية التنموية التي من خلالها حققت إنجازات كبيرة على الأرض.
7 ـ إنّ إيران التي رفضت بحزم عام 2013 أثناء مفاوضاتها مع المجموعة 5+1، ما طلبته وألحّت، وأصرّت عليه واشنطن وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، لإدراج ملف برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية مع الملف النووي، لن تقبل ببحثه عام 2021، وهذا واضح للجميع.
وما انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، إلا وكانت أبرز أهدافه جرّ إيران إلى طاولة مفاوضات جديدة تنطلق من الصفر، وعلى جدول أعمالها الملف النووي والملف الصاروخي، والمسائل المتعلقة بالدور الإيراني في المنطقة، وما يشكله من تحديات للولايات المتحدة وحلفائها، وذلك بغية ابتزاز طهران، وإجبارها على تقييد برامجها النووي والصاروخي إلى حدّ بعيد، ما يلبّي ويحقق أهداف وشروط الغرب، وبالذات العدو «الإسرائيلي». وهذا ما رفضته إيران ولا تزال على رفضها.
مفاوضات فيينا الجارية، لن تستطيع أن تأخذ من طهران ما سبق لهذه الأخيرة أن رفضته، وأياً كانت النتائج وردود الفعل الغربية، وبالذات ردود واشنطن.
طهران ذهبت إلى المفاوضات لنيل حقها ولا للتفريط به، لتأخذ أكثر مما تعطي، وترفض الكيل بمكيالين، فإما أن تكون المجموعة الـ 4+1 قد استوعبت المواقف والثوابت الإيرانية منذ عام 2003 حيال الملف النووي الإيراني، وحق طهران في امتلاك الطاقة النووية السلمية، من دون قيود وشروط تحدّ من عملها، وإما استمرار الغرب في تعنته وانحيازه، وهذا ما سيفتح الباب مستقبلاً امام تطورات وردود فعل قوية من الجانبين، الإيراني والغربي، لا سيما الإيراني الذي يرصد بحسابات دقيقة نيات واشنطن وحلفائها، وهو بالمرصاد لها.
لن تعود إيران إلى نقطة الصفر، فالأهداف والأرقام التي سجلتها لصالحها منذ عام 2015، ستحتفظ بها، وهناك أيضاً من مزيد.
مما لا شك فيه، أنه بعد سنوات طويلة من مفاوضات المدّ والجزر، سيقرّ العدو والصديق حتماً، ببراعة المفاوض الإيراني، وحنكته وصبره، وتكتيكه، ومناوراته، ومعرفته جيداً بملفاته، ويدرك جيداً ما له وما عليه. لقد أقرّ
نظراؤه بحنكة وبراعة المفاوض الإيراني الذي تجلى أثناء مفاوضاته العديدة الطويلة مع الغرب، منذ سنوات وحتى الآن.
فهل يتصاعد الدخان الأبيض من فيينا عام 2021 بعد ثلاث سنوات من خنقه بقرار أرعن من رئيس متهوّر، لم يف بالتزاماته الدولية والقانونية والأخلاقية، ولم يحترم توقيع بلده على اتفاق دولي، بل وضع صدقية أميركا على المحك، وعزز شكوك العالم بها، ما يجعل إيران اليوم_وهذا حقهاـ أن تطالب بضمانات لجهة عدم إخلال واشنطن بوعودها مرة اخرى، أو التراجع عن أيّ اتفاق توقعه معها.
في مفاوضات فيينا، ثوابت إيران على الطاولة، لكن صدقية الولايات المتحدة على المحكّ. فهل ستلتقي الثوابت الإيرانية مع «الصدقية» الأميركية والأوروبية، كي يخرج الدخان الأبيض من فيينا مرة أخرى من دون أن يخمد من جديد، ويطوي ولو لفترة علاقات متوترة متأزمة، استمرت لعقود بين إيران والغرب، وإنْ كان هناك من ملفات أخرى حساسة سيثيرها الغرب، لطرحها على طاولة المفاوضات المستقبلية!
مفاوضات جنيف ونتائجها ستحدّد مستقبلاً الخطوات اللاحقة للأطراف المعنية، وسترسم مشهداً جديداً في المنطقة المشرقية، يعبّر ويعكس نتائج المفاوضات، أكانت سلبية أم إيجابية.
بعد مفاوضات فيينا، مشهد آخر ينتظر المنطقة، لكن طهران كما عوّدت العالم تبقى على ثوابتها التي لم تساوم عليها يوماً، حتى في أقسى الظروف وذلك منذ انتصار ثورتها قبل 42 عاماً وحتى هذه اللحظة، لتبقى إيران درساً وعبرة للذين لا يساومون على حقوقهم الوطنية القومية!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق
(البناء)