من استمع إلى الرئيس الأمريكي ترامب بخصوص إيران، وتابع تصريحاته وقراراته بشأنها، أعتقد بأن لهجته التّصعيدبة، التي صمّ بها آذان المتابعين، لآخر شطحاته التي أطلقها أخيرا، بعد إسقاط قوات الدفاع الجوي الإيراني، أحدث طائرة تجسس بدون طيار، بدأت باختراق مجال إيران الجوي، فجر يوم أول أمس، بحيث أعتقد أن الحرب والعدوان عليها، أصبح قاب قوسين من الحصول، وان سلسلة العقوبات، التي اختتمها بإعلان حضر على صادرات النفط الإيراني، مهددا الوصول بصادراته الى الصفر، سوف تنتهي بما تشتهي به رغبة دول أعلنت عداءها لإيران، طالما حرّضت ودفعت الأموال الطائلة لترامب، من أجل تحقيق تلك الأمنية.
مشهد الإستفزاز الأمريكي، بدأ باتهام أول لإيران باستهداف وتعطيل ناقلتي نفط، دون مقدمات تذكر، استباقا لأي تحقيق دولي، ثم الإصرار على تكرار اتهامها من جديد، بعد استهداف ناقلتين أخريين، بنشر فيديو قال الأمريكيون أنهم رصدوا زورقا إيرانيا، وطاقمه بصدد إزالة لغم، من جانب الناقلة المتضررة، وقد صورت الفيديو طائرة مسيّرة، ادّعت الرواية الأمريكية، بأن الإيرانيون حاولوا إسقاطها.
هذه التصعيدات التي عبرت عنها الدبلوماسية الإيرانية، بأنها مجرد أكاذيب، دأب الأمريكيون على تسويقها، كلما عن لهم أمر يريدون القيام به ضد إيران، خارج إطار القانون الدولي، متحدّين فيه العالم بأسره، من منطلق استكباري، تعودوا عليه منذ هيمنتهم على المنتظم الأممي ودوله، حيث لا تعلو كلمة على كلمتهم، أو هكذا خيّل لهم.
الإستثناء الأكبر الذي خرج عن قاعدة الخضوع للقرارت الأمريكية هي إيران، ولم يكن هذا من باب الاحتمال أو تضخيم الموقف، بل هو واقع أصبح يفرض نفسه على السياسة العالمية، لتظهر ايران بمواقفها العملية والثابتة، المعادية الاستكبار العالمي، سواء أكان أمريكيا أم غيره.
أسباب تحامل أمريكا على إيران معلومة لدى الجميع، بدأ من خروجها عن طوعها، بثورة اسلامية اذهلت العالم، ولا تزال تسيل حبر المحللين السياسيين، على طبيعتها الفريدة في هذا العصر، شاقة طريقها تحت قيادة نظام اسلامي، تميّز بولي فقيه مجاهد عادل، ومؤسسات حكمية منتخبة ديمقراطيا، شارك فيها الشعب الإيراني بكثافة، لم تبلغها حتى الدول التي تدّعي الديمقراطية.
الأمريكيون لم يقبلوا بهزيمتهم، وخروجهم النهائي من ايران، اذلاء منكسرين، وزاد غضبهم من مشاريع الإمام الخميني الإسلامية، في تخليص الشعوب الإسلامية من هيمنة الغرب بزعامتها، خصوصا عندما أعلن الامام الخميني موقفه الثابت من القضية الفلسطينية، حيث اعتبر ان حلّها الوحيد يكمن في زوال الكيان الصهيوني من اراضي فلسطين، ودعا شعبه الى تبنّيه، معتبرا ان مسار المفاوضات والتطبيع مع الكيان الصهيوني، خيانة غير مبررة لمن سلك نهجهما.
مشاريع الامام الخميني في مقاومة الاستكبار والصهيونية، انتشرت في ايران بين اوساط الشعب الايراني، وتجاوزت حدودها إلى العالم الاسلامي، وتحديدا في لبنان واليمن والعراق وسوريا، التي انضمت طلائعها الى قوى المقاومة، التي أبت إلا أن تشارك إيران في مشاريعها التحرّرية.
مواقف أخذ اصحابها بعين الاعتبار، ما يمكن أن تسفر عليه من تضحيات واستعدادات، فأعدوا لها عدّتهم، وجهّزوا لها طاقاتهم، واثبتوا في كل مرة أنهم في مستوى التحدي المفروض عليهم، من أجل استعادة حقوقهم، وحقوق الشعوب المستضعفة المهضومة أمريكيا، وهذه المرّة ليست كمن سبقها، برهنت بشكل قاطع، أن إيران بقواتها وشعبها ومناصريها، على أهبة تامّة لمواجهة الشيطان الأكبر، الذي يعد أتباعه ويمنيهم غرورا.
بالإمكان القول بأن عملية إسقاط الطاىرة التجسّسية، قد اربكت حسابات ترامب، الذي بادر للتخلص من خيبته، إلى تبرير العملية على احتمال كونها خطأ فرديا، لكن الإيرانيون ردّوا عليه في الحين، أنهم تعمدوا اسقاطها بعد 4 تحذيرات وجّهوها إليها، ثم انتظروا ابتعاد طائرة مأهولة قريبة من الهدف، استغرق كل ذلك عشرين دقيقة، ثم وقع استهداف الطائرة بصاروخ محلي الصنع، من منظومة دفاع جوية ايرانية، اصابت هدفها بدقة، واسقطتها في المياه الإيرانية، عملية اثلجت صدور قوم مؤمنين، طائرة تفوق قيمته 200 مليون دولار، يسقطها صاروخ ايراني مقاوم، لا تتعدى قيمته بضعة آلاف من الدولارات.
ويبدو ان الرئيس الامريكي ترامب وجد تبريرا آخر، في عدم الرد على إسقاط طايرة تجسسه، قال فيه بأنه تراجع في آخر وقت، عندما علم بأن العملية سوف تسفر عن مقتل ما يقارب 150 شخصا مما لا يتناسب مع الردّ الامريكي، في تحوّل كاذب من حكومة، تحمل على ظهرها أوزار وتبعات مجازر، ارتكبتها قواتها اينما حلّت في هذا العالم، لا تتورع في استهداف المدنيين ولعل اكبر شاهد على ذلك في المنطقة نفسها، جريمة اسقاط الطائرة المدنية الايرانية العاملة لحساب إيران إير Iran Air، الرحلة رقم 655 وعلى متنها 290 راكبا مع طاقمها، باستهدافها عمدا من طرف الطراد الأمريكي يو إس إس وينسس زورق حربي امريكي يوم 3/7/1988، ما اسفر عن مقتلهم جميعا.
تراجع ترامب عن اعطاء الاوامر لتنفيذ عمل عسكري ردا على اسقاط طائرة تجسسه، على اساس انساني، ردّ عليه الناطق باسم الحرس الثوري الإيراني، الذي صرح بأنه كان بالإمكان إسقاط طائرة أخرى، مرافقة للطائرة المسيرة المستهدفة، لكنهم لم يفعلوا ذلك تجنيبا لسقوط 35 عنصر، كانوا على متنها متابعين لحركتها، مما يزيد من تأكيد ان إيران الاسلامية، تتصرف بمنتهى الانضباط والمسؤولية، حيال الاستفزازات الأمريكية.
التحوّل المفاجئ للرئيس ترامب، من مهدّد لإيران مرّات، الى مبرر لها مرة، ثم الى انساني مرّة واحدة، لا يرغب في سفك الدماء، ومن رئيس نظام مستكبر مجرم، الى ما يشبه الملاك المحافظ على الأنفس، يزيد من تأكيد التخبّط السياسي الذي اصبح فيه، والخبث الذي بلغه، ولن ينطلي ذلك على قوم أعز الله بهم الاسلام والمسلمين.
إنّ عملية إسقاط القوات الإيرانية للطائرة الأمريكية كانت دفاعية – وهو ما تأكد منه الامريكيون قبل غيرهم، وليست استفزازية كما غرد لها الطاقم السياسي الأمريكي، حملت كحادثة عسكرية، رسالة إلى الرىيس الأمريكي وطاقمه، مفادها ان أصابع الإيرانيين على ازرار الصواريخ الجاهزة للإطلاق، ولن يترددوا لحظة واحدة في الدفاع عن أراضيهم ووجودهم، وقد يحمل الغيب في طياته مفاجآت أخرى من العيار الثقيل، اعتقد أن ترامب وطاقمه سيزيد من ارباكهم وتخبّطهم في الخليج الفارسي.
فهل سيعيد الأمريكيون حساباتهم، التي تبين لهم انها خاطئة بخصوص ايران؟ أم انهم سيذهبون إلى خيار عسكريّ غير محسوب العواقب، مدفوعين بتكالب السعودية والإمارات واسرائيل على ضرب إيران؟ وهل سيستمع ترامب الى خبرائه العسكريين، ويعيد حساباته تجاه ايران، أم أنه سيواصل سياسة ابتزاز ابقار الخليج، دون أن يعطيهم في المقابل ما يرغبون، ويبقى التسويف سيد موقفه تجاههم؟
صاروخ الانذار الايراني اطلق، فأصاب كبرياء أمريكا وغطرستها وجبروتها في الصميم، قد حمل في أدائه رسالة الى ترامب وطاقمه غير قابلة للتأويل، وقد أعذر من قد أنذر.