المهندس : ميشيل كلاغاصي |
بسياسته الرعناء وبإسلوبه الفظ وبعنجهية التاجر الفاجر , أخاف دونالد ترامب عقلاء بلاده والعالم منذ أن رفع شعار “أمريكا أولا ً”, بعدما أرهقتها إخفاقاتها وهزائمها وتفاهماتها وإتفاقاتها التي كبلت اّلية تحركها السياسي والعسكري , أراد تحريرها وإعادة إطلاق يدها من جديد كمنقذٍ أو كحزامٍ ناسف , فألقي وعيده قبل وعوده , وأدخل العالم في دوامة الحسابات المعقدة مع إعلانه إستراتيجيته الجديدة “بمواجه الطموحات الرجعية لروسيا والصين والدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية”, وإطلاق وزير حربه إستراتيجية البنتاغون بإعتمادها على “منافسة القوى العظمى وليس الإرهاب”.
فيما ينتظر العالم اللقاء المرتقب للرئيس ترامب بالزعيم الكوري الشمالي على قاعدة إحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية وجعلها خالية من الأسلحة النووية , أعلن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو عن إستراتيجية خاصة بإيران والتي ترتقى إلى مستوى إعلان الحرب عليها من بوابة إلغاء الإتفاق النووي وبفرض “العقوبات الإقتصادية غير المسبوقة” … لقد دحرجت واشنطن كرة الثلج بين أرجل الدول الأوروبية خصوصا ً تلك المستفيدة من الإتفاق , بعدما منحهم ترامب ما لا يزيد عن 180 يوما ً لتجميد نشاطاتهم في إيران.
لقاءاتٌ وإتصالاتٌ مكثفة أرقت مضاجع الدول الأوروبية , ودفعتهم إلى التحرك والتخبط ما بين محاولة إقناع ترامب بالتراجع عن موقفه , وما بين الإنزياح بعكس مصالح شركاتهم المتضررة وضد الدولة الإيرانية , فقد أظهرت بعض الدول الأوروبية مواقف فردية بدت مختلفة تماما ً عن موقف الإتحاد الأوروبي الذي كان واضحا ً لجهة دعم الإتفاق واستمرار العمل بموجبه , فيما أتت مواقف فرنسا وبريطانيا وألمانيا بما يزرع الشك حول تبادل أدوارٍ محسوب يهدف لإجبار إيران على تقديم التنازلات على طاولة ترامب , مقابل استمرار العمل بالإتفاق واستمرار مصالحهم ..
وبحسب ما طرحه بومبيو , بدا واضحا ً أن المطلوب من إيران استسلاما ً صريحا ً لا تغييرا ً في السلوك أو تعديلا ً في الإتفاق , فالتخصيب ممنوع , والدفاع عن النفس واستمرار البرنامج الصاروخي الدفاعي ممنوع , والدور والنفوذ الإقليمي ممنوع , ودعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية ممنوع , والمساهمة في الحرب على الإرهاب ودعم صمود الدولة السورية ممنوع , وخلاصة المطلوب منع أي تهديد للكيان الإسرائيلي الغاصب بهدف وقف تمدده وتعميمه عصرا ً صهيونيا ً يُفرض على دول المنطقة.
كلامٌ أمريكي مباشر صدر وأُفهم علنا ً, فالدولة الإيرانية وُضعت تحت مرمى الإستهداف الأمريكي , الذي يعتقد فيه رجل الصفقات أن إستبداله المنافسة بالتهديد والمواجهة العسكرية , سيمنحه رهانا ً جديدا ً يحصد من خلاله مالا ً أوروبيا ً واستسلاما ً إيرانيا ً عبر تفادي العقلاء والشركاء حروباً عالمية جديدة محتملة على شرف إيران أو كوريا الشمالية أو حتى روسيا …
لم تقف إيران مكتوفة الأيدي , وبدأت حملة الدفاع عن نفسها وإتفاقها وحقوقها وكرامتها , ولم يتأخر الرد الإيراني الأول عبر الرئيس حسن روحاني , تبعه إحراق ٌ لنص الإتفاق من قبل برلمانيون إيرانيون وتظاهرات غاضبة في عدة مدن إيرانية , فيما أكد علي لاريجاني أن:” ترامب لا يفهم سوى لغة القوة” , واعتبر المرشد الإيراني كلام ترامب :”سخيف ومتدني المستوى” , وتتالت المواقف من الداخلية والخارجية الإيرانية والحرس الثوري والمجلس الأعلى للأمن القومي , ومنظمة الطاقة الذرية الإيرانية , فيما أكد الرئيس روحاني في 2252018 أن :” إيران لا تخشى التهديد وهي أكبر من ترامب وبومبيو وبولتون” , بالتوازي مع تأكيد اللواء محمد باقري أن :”قواتنا في ذروة إقتدارها وجهوزيتها”… فيما طرح المرشد السيد علي خامنئي على الدول الأوروبية سبعة شروط لإلتزام إيران بالإتفاق , تضمن حقوق إيران وتحدّ من مراوغة وخداع الأوروبيين ولإثبات أنهم لن ينكثوا العهد كالسابق.. هذه المواقف الشعبية والرسمية وعلى كافة المستويات السياسية والعسكرية والهيئات العلمية والدينية العليا , تؤكد صلابة الجبهة الداخلية والخارجية واستعداد القوات المسلحة للدفاع عن الحقوق والقرار السيادي الإيراني.
لقد قدم ترامب بإنسحابه من الإتفاق رسالةً خاطئة حتى بالتوقيت تلقفها الزعيم كيم , وهو يرى ترامب – وعلى خطى رؤساء أمريكيين قبله – كيف وأنه لا يحترم الإتفاق مع ايران , في الوقت الذي يسعى فيه لإبرام إتفاق إذعان يجرد ويحرم كوريا من حقوقها ومكامن وقوتها وأسلحتها الصاروخية البالستية وطموحاتها , مقابل رفع العقوبات الأمريكية ومساعداتٍ مالية لا تتجاوز بضعة دولارات… وعليه أتى عقاب الزعيم كيم لعنجهية وغطرسة ترامب وإداراته في طريقة التعاطي مع القضية الكورية كشعب وحكومة لها من الكرامة الوطنية ما يكفيها للدفاع عن نفسها… فقد أوقف كيم إندفاعة وغطرسة ترامب وقلل من شأنه ودفعه إلى اتخاذ قرار إلغاء اللقاء الذي كان يحلم به وعينه على جائزة نوبل للسلام , ما اضطره لإبتلاع لسانه وإعلانه استمرار إمكانية عقد اللقاء إذا ما رغب كيم بذلك !.
وعليه … لم يُفاجئ العالم بقرار ترامب بإنسحاب بلاده من الإتفاق النووي مع طهران, فقد أتى تتويجا ً لسلسلة مواقف أمريكية سبقت مجيئه إلى السلطة , اجتهدت لتحضير بيئة الصراع والمواجهة الجديدة في الشرق الأوسط , ليحل صراع التحالف العربي–الإسرائيلي ضد إيران محل الصراع العربي الفلسطيني-الإسرائيلي, كمقدمة للنيل من القضية الفلسطينية ولتصفيتها عبر ما يسمى بصفقة القرن , في وقتٍ بدأ فيه محور المقاومة يقف سدا ُ منيعا ً في وجه هذا المخطط , وبدأ يرسم الملامح الجديدة لوجه المنطقة بعد سلسلة إنتصاراتٍ استراتيجية في معارك الوكيل الإرهابي والأصيل الأمريكي- الإسرائيلي , ما أعاد الخطر الوجودي للكيان الغاصب إلى الواجهة , ومن بوابة الإنتصارات في سوريا والعراق والصمود في اليمن , وبإعتبار أن إيران – الثورة – قدمت ومنذ أربعون عاما ً نموذجا ً جديدا ً للدعم الحقيقي للشعب الفلسطيني ولمقاومته ولكافة الشعوب المظلومة في المنطقة… لهذا اعتُمِدت استراتيجية شيطنة الدور الإيراني في كامل المنطقة العربية وحتى في دول أمريكا اللاتينة وربما في كواكب أخرى !, واعتَبرت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران هي الدولة الأولى الداعمة للإرهاب وللجماعات الإرهابية في العالم , وفرضت عليها حزمات من العقوبات المتنوعة على شكل جرعات وموجاتٍ تصاعدية , ومع الإنسحاب الأمريكي من الإتفاق النووي بدأت الحكومة الأميركية بحثها الجدي عن سياساتٍ واّلياتٍ جديدة لمواجهة دور ونفوذ الدولة الإيرانية بتشجيعٍ كبير من قادة العدو الإسرائيلي والأنظمة الخليجية.
يبدو أن شروط المرشد السبعة وأيامها الستة , دفعت الأوروبيين لتوخي الحذر ولجدية الحياد والتخلي عن جزء من المرواغة , فكان لقاء ال 4+1 في فيينا إيجابيا ً وعزز فرص استمرار الإتفاق , لكنه أجبرهم على البحث صراحة ً عن التنازلات الإيرانية في اللقاء مع بوتين , ولم تبتعد مطالبهم عن تنازلات إيرانية في الملف السوري بشكل حصري , ما يؤكد عدم استقلالية القرار الأوروبي واستسلامه للإرادة الصهيو– أمريكية.
لقد بات واضحا ً أن الضغوط والعقوبات والتهديدات تتزايد على الدولة الإيرانية داخليا ً وإقليميا ً وعالميا ً وتبدو الأمور مرشحة نحو المزيد من التصعيد الإقتصادي والسياسي وربما العسكري … فالأحلام والأوهام والأطماع تبدو مشرّعة على مصراعيها في كامل المنطقة ومن الصفقة الكبرى إلى المواجهة الكبرى , في وقتٍ أصبح فيه تعقّل العالم خياليا ً مع قادةٍ وأعداء أمريكيون وأوروبيون وإقليميون وعرب وإرهابيون يبحثون عن الفوضى والدماء والخراب , في زمنٍ تغيب فيه القيم الأخلاقية والعدالة ويبتعد السلام.