واحد وخمسون. عَامًا على حرب اكتوبر 1973, وعلي أكبر معركة جوية بعد الحرب العالمية الثانية ،فوق قريتنا التي استمرت حوالي 55 دقيقة ، وعلي ضرب حقول قريتنا وتفريغ القاذفات والقنابل ،وصهاريج وقود الطائرات الإسرائيلية في أراضي (حوض الطويل) كلما اقتربت من المكان والذكري والزمان ،وصرخات وعويل النساء والأطفال يوم ان استشهد جارنا احمد البسيوني في الحقل نتيجة قاذفة ، ذاكرتي حاضرة تبحث في الآثار عن الذاكرة المفقودة، عن الحب والألم وهي آثار لا ترى لكنها لا تُمحى من الذاكرة ..،
للآسف أصبحنا أبناء الغيوم العابرة .. وكأننا أمام فيلم” رحلة النسيان” ،الريح تمحو آثار حقول القطن .،والأمطار تمحو آثار خطىٰ البشر…
والشمس تمحو آثار الزمن.نحن الذين ولدنا في حقول القطن في يوم مجهول ، وسنوات مجهولة ،
من أمهات بلا شهادات وتاريخ ميلاد ،ومن آباء هبطوا من الغيوم، وماتوا دون أن يعرفوا متى عاشوا، هل كانوا أحياء أو موتي علي الأرض ..، انطفأوا كنيازك في الظلام، كما سننطفيء يومًا..سكنا في وطن لا نعرف لمن، وحارب الأهل دون أن يعرفوا لماذا…؟،وقتلنا دون ان نعرف السبب وأحببنا ببراءة بلا أهداف..،
ومشينا علي جسور النهر والترع والمراوي، كما يمشي الغرباء في الشوارع ،
وجلدنا بالفلكة في المدارس لأننا حاولنا أن نكون كما نريد لا كما يراد،وسكنا في بيوت من الطوب الاخضر وغرف مجاورة مع حظائر المواشي والطيور ..، وخرجنا نهتف ونغني :وطني حبيبي وطني الغالي “وهتفنا خلي السلاح صاحي ”
وأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ”
” نحن الذين كنا نباع في الصباح وفي المساء من نظام الى آخر كما تباع الأغنام، نحن أبناء الغروب والتراحيل والمعدومين وأبناء العتمة والغياب والصمت نطوف حول شارع داير الناحية ، نغني في المساء ونحن أطفال ” طفي النور ياولية احنا عساكر دورية،خوفًا . وتحذير من قصف الطائرات لقريتنا التي تقع داخل الحزام الحدودي للقاعدة الجوية ،وقواعد للدفعات الجوية والصاروخية عام 1970 ونحن في الصف الاول الإبتدائي بعد غارة وضرب قاعدة للصورايخ في حرب الإستنزاف ، نغني وعرفنا القاعدة الصاروخية بين الزمار والمنشية ، استيقظنا علي دق شباك حجرتنا جارنا “محمد الغزوازي “ينادي علي أبي ” عبد الناصر مات ” خرجت قريتنا تودع الزعيم “جمال عبد الناصر” عن بِكرَةِ ابِيهَا..ولم يمضي سنوات كنا نمزق صور الزعيم ناصر ..بعد كل إنقلاب في الوطن العربي ..في الصباح نعرف ان انقلاباً حدث وقتل رئيس وجاء آخر .. ومناهج جديدة ونشيد وطني جديد وصور في الشوارع وعلي حيطان المنازل وقوانين جديدة،كيف يتوازن ونحن اطفال على قيم ومبادئ وتقاليد ومناهج متغيرة كل مرة…؟
تربينا علي فيلم /الرصاصة مازالت في جيبي / ولكن في عصر المسخ نصحوا محمد افندي أن يضع الرصاصة في مؤخرتة كعلاج جديد للبواسير ،، قبل الإفطار كنا نتجمع أمام مسجد الخفاجية في قريتنا كل يوم من شهر رمضان من كل عام ، بعد صلاة العصر ، حتي رفع آذان المغرب ، علمنا بعد صلاة عصر يوم/ 6 اكتوبر من المرحوم /الأستاذ رياض فهيم/ تجمع الأهالي حول الخبر ونحن أطفال ننتظر صعود الشيخ” محمد عرفة” بالصعود علي سطح المسجد لرفع الآذان للإعلان عن موعد الإفطار في رمضان ..وقفنا نسمع من الأستاذ رياض قال :سمعت من نشرة الأخبار أن جيشنا العربي دخل في حرب وصار في أرض أخرى، ونحن اصبحنا جنُوداً ونحن اطفال بدعوة الاحتياط قبل نزع سراويل ملابس المدارس ،
لم نكن نعرف لماذا..؟ ثم علمنا ان جيشنا عبر البر الشرقي للقناة ثم سُحق في الحرب وثلث جنودنا لم يعودوا. ومحاصر الجيش الثالث في منطقة “الدفرسوار . ولم نعرف لماذا انتصرنا ولماذا هزمنا،ولا لماذا لم يعد جنودنا ولا أين ذهبوا..،
وطلب منا الذهاب للاحتفال بالهزيمة بثياب النصر…،لم نعرف لماذا حوصرنا في حرب اكتوبر وهل كانت حرب تحرير او حرب تحريك ..؟ ولماذا نتساقط في الشوارع من الأمراض بلا دم…؟
حرمنا من الأسئلة ومن الأجوبة، ومن الصمت ، ومن الكلام ومن الحلم ،ومن النوايا” السيئة” وحتى من الأحلام “المعادية”وتحولت أجسادنا الى حقل للآمراض المتوطنة وحتي من الأحلام …،،
ونتجول في شوارع قريتنا .. كهايكل صامتة رغم ضجيج الفوضي العارمة في الشوارع ..،،ثم قالوا لنا “الأعداء قادمون “من خلف الحدود وعلينا الإستعداد لحرب لا نعرف عنها شَيئًا . وأهداف لا نفهمها وأن ندافع عن وطن كنا أطفال فيه بلا كرامة نحن يتامى التاريخ والاوطان والسياسة والأرض والثروة والمستقبل، نحن مثل ركاب قطار مات سائقه ولا ننتظر سوى الإرتطام الأخير، متى يأتي الإرتطام الأخير كي تنتهي هذه الحكاية المملة…؟كنا محرومين من السؤال ومحرومين من الجواب، لأننا قبل زمن الآلات الحديثة ، بُرمجنا على الصمت وعلى النسيان، نسيان كل شيء حتى من نكون ولماذا نكون لأننا أشياء، لأن هناك من يفكر ويخطط ويحلم ويتوهم بالإنابة عنا…،،
فخرج الرئيس السادات علي شاشات التلفزة ليعلن للعالم أن حرب اكتوبر أخر الحروب ،،
نحن الهامش الفائض عن الحاجة والرقم في بلاغات القتلى العسكرية
وفي خطابات الأحزاب وفي احتفالات القادة:” نحن حزب المستضعفين في الأرض “،
لم نسقط في معركة حرية ولم نُقتل ونحن في الطريق الى تاريخ مختلف،ولا ولادة حكاية حياة جديدة تبزغ غَدًا إجتياح بيروت عام 1982 وضرب مفاعل العراق وضرب مقرات منظمة التحرير الفلسطينية في مذبحة شط الحمامات في تونس ، وكان الغد اسوأ
بل قتلنا تحت الأحذية في السراديب وخلف الأسوار العالية .. دون أن يحمل أحدنا سر ثورة في ميادين ديار العرب في خريف ثوراتها …، نحن أبناء الغيوم نجلد كل يوم تحت عصي التاريخ والخطباء والقادة والدول الشقيقة والصديقة، والبعيدة والقريبة والغنية والفقيرة، والأحلام المتفسخة، والشركات الحقيقية والوهمية والبرامج والأوهام والعصابات والمرض ،وتمص شرايينا بكامل الصحو والعلنية وأطفالنا يبحثون في ركام المعارك عن دفتر وقلم وفي المزابل عن مستقبل لن نشارك في صنعه وحياة لا علاقة لنا بها، وأرض لم يعد يربطنا بها سوى الحذاء…،
ماذا حدث في خلال نصف قرن من تغيرات منذ حرب اكتوبر …! نعم هناك حدث إنقلاب في المجتمع مجتمع بلا اخلاق ولا قيم .فالأخلاق قبل الحضارة كما تعلمنا ، كنا نذهب الى حفل العرس بكل صفاء ونذهب في موكب الجنازات بكل صدق، نتألم مع من في حالة مخاض وولادة متعثرة،ونمشي في جنازات الغرباء باكين حزن الغرباء،نحن الوجع المخفي بالكبرياء والدموع الحبيسة والخوف المزمن.،
من نحن أبناء الغيوم..؟
في ذكري حرب اكتوبر ..ماذا يحدث الآن في {غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان} أين العراق الممزق ، أين اليمن السعيد ،وليبيا ، واين فلسطين ولبنان والسودان حرام والف حرام .،تعيش امة بعد نصف قرن من حرب اكتوبر بلا هوية،تدافع عنها أمة الفرس ، فمتي يعلنون المزاد عن بيع كل ديار العرب،مقابل حذاء طفل تحت الانقاض في غزة..!!
محمد سعد عبد اللطيف .كاتب مصري وباحث
saadadham976@gmail .com
.