بقلم: فـوزي حساينية- كاتب جزائري |
“مرَّ بهذا العالم مراً سريعا[1] ” إذ لم يُعمر فيه سوى أربعين عاماً، فقد وُلد في 22 جويلية1933 بقرية من قرى شلغوم العيد وتوفي في 23 نوفمبر1973 بقالمة، وبين تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة كانت قصة الأديب الجزائري المُتشائم عبد المجيد الشافعي الذي عاش حياة قاسية من البداية إلى النهاية، إذ أنه فتح عينيه فرأى مأساة شعبه مجسدة في كل مظهر من مظاهر الواقع حوله، وبدأ حياته ككل أقرانه بالتردد على كتاب قريته ثم انتقل إلى زاوية سيدي عبد الرحمن بن الحملاوي بــ” التلاغمة ” قرب قسنطينة، وهي من الزوايا المعتبرة التي كان يقصدها طلبة العلم من معظم مناطق الشرق الجزائري، وبهذه المؤسسة الدينية الشعبية العريقة زاول دراسته الابتدائية والمتوسطة، ومن ثم شدّ الرحال إلى تونس لاستكمال دراسته الثانوية بجامعة الزيتونة القِبلة العلمية للجزائريين آنذاك، وفي رحاب تلك الجامعة العتيدة تفتقت موهبته الأدبية فعبر عنها في قصة ” الطالب المنكوب ” التي أرادها ترجمة لسيرة ذاتية فجاءت ترجمة صادقة لمأساة أمة بأسرها حِيل بينها وبين حقها المشروع في الوجود و في الحياة الحرة الكريمة كونها ترزأ تحت وطأة استدمار عنصري استيطاني لا يرحم.
وفي سنة 1952 عاد إلى أرض الوطن وهو يحمل شهادة التحصيل التي تُتيحُ لحاملها مُكنة التدريس فأنخرط في سلك التعليم تحت لواء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي عينته مدرسا بإحدى مدارسها أين أحبه التلاميذ وتجاوبوا معه لما أظهره من براعة في التدريس والمعاملة، وتشاء الأقدار أن تجمعه صداقة عميقة مع الأديب الجزائري الموهوب ” أحمد رضا حوحو” فكانت ثمرة هذه العلاقة أن شرع الشافعي في تقديم تمثيليات “حوحو” على خشبة المسرح فضلا عما عن ما راح يكتبه بنفسه من مسرحيات ليقوم التلاميذ بتمثيلها داخل المدرسة وخارجها،كان يقوم بذلك وهو يعي فلسفة المسرح ودوره الاجتماعي،ويؤمن بمفعوله في كسب رهان الصراع الفكري وما يترتب على ذلك من آثار نفسية تربوية تخدم الأجيال الصاعدة وترسخ من وطنيتها وثقتها بنفسها وبمقومات أمتها، وقد راحت رسائل التشجيع والتقدير تنهال عليه تباعا مما قوى من إيمانه وتصميمه على مواصلة العمل أيا كانت الظروف.
ولم تلبث الثورة التحريرية الكبرى أن شب أوارها في الفاتح من نوفمبر سنة 1954 ويُفجع الشافعي بعد حين في صديقه الأديب الشهيد احمد رضا حوحو الذي تم اختطافه واغتياله تحت جنح الظلام وبوحشية قل نظيرها، ولكن سبيل العزاء عن هذه المصيبة كان متوفرا،إنها التضحية في سبيل الله والوطن، والشافعي كان يدرك أن الثورة لابد لها من تضحيات، وقد اضطر هو نفسه إلى مغادرة أرض الوطن سنة 1956 نحو فرنسا لأنه كان متابعا من قبل مصالح الأمن الاستدماري بحكم نشاطه الثقافي والسياسي لصالح الثورة وقد مكث في فرنسا إلى غاية سن 1959 عندما تهيأت له ظروف العودة إلى أرض الوطن فعاد ليشتغل بالتعليم في مدرسة مولود فرعون بقالمة إلى سنة 1962 وهي السنة التي عُين فيها مديرا لمدرسة الشهيد خليل مختار الواقعة بشارع سويداني بوجمعة الشارع الرئيسي بمدينة قالمة اليوم ثم أصبح مستشارا تربويا فمفتشا في سلك التعليم.
وفي جميع مهامه التي تولاها أظهر أديبنا كفاءة واقتدرا في التأطير والتوجيه والأداء التربوي والإداري مما جلب عليه نقمة وسخط العناصر المنتمية لمليشيات الثورة المضادة الذين قدروا فيه خطورته على أفكارهم ومشاريعهم الرامية إلى طمس وتشويه معالم الهُوية الوطنية وجر الفئات الشابة من المجتمع بعيد ا عن القيم الحقيقية والكبرى لثورة أول نوفمبر، فلذلك عزلوه من منصبه تثبيطا له ونيلا من عزيمته، لكنه لم يستسلم وحاول خرق الحصار المضروب على المثقف فأنشأ مجلة تربوية بعنوان ” الضحى” ورفع صوته محذرا من تحرك الثورة المضادة وأهدافها المدمرة ومؤكدا على أن مرحلة ما بعد الثورة هي أخطر مرحلة في حياة أي ثورة لأن المجتمع- بعد الجهد الثوري المُرهِقْ والمُسْتَنْزِفْ- قد يستسلم لنوع من السكينة والطمأنينة والميل للتغاضي مما يسمح للمتربصين بتنفيذ مآربهم، وبالفعل لم يستمع أحد لتحذيرات الشافعي الذي تنبأ بالكثير مما عاشته البلاد- لاحقا- من مآسي ومشكلات ومعاناة وتطاول على مبادئ وقيم الثورة النوفمبرية التي كاد أن يجرفها تيار الثورة المضادة، فهناك جماعات ومنظمات وفئات لن تغفر أبدا للشهداء والمجاهدين الحقيقيين نجاحهم في القضاء على أسطورة الجزائر الفرنسية التي كانت في نظر الكثيرين حقيقة الحقائق والدليل الساطع على نجاح فرنسا في مهمتها الحضارية المقدسة في شمال إفريقيا، وكان الشافعي مقتنعا بأن تلك الجماعات والمنظمات ستسعى للانتقام ولو بعد ألف عام.
لكن، ورغم مرارة الواقع، وانسداد الآفاق فقد آمن عبد المجيد الشافعي بقدسية الكلمة ودورها الحاسم في معركة النضال الثقافي والحضاري لذلك لم يسمح لنفسه أو لم تسمح له نفسه أن يتخلى عن القلم وقد ساعده تشجيع بعض الرفاق ومؤازرتهم له على إبقاء شعلة الكتابة متقدة في صدره باعتبارها من أكثر الأدوات ديناميكية وقدرة على إحداث التغيير وفك الحصار المضروب على تطلعات المجتمع وطموحات الأجيال. وإيمانا منه بدور الكلمة وروحها الخالقة صمد الشافعي صمودا مؤثرا رغم ثقل الهجمة المضادة ورغم نوبات اليأس التي كانت تنتابه من حين لآخر فظل يقرأ ويكتب وكان بحق أحد المثقفين القلائل الذين انتبهوا مبكرا إلى حقيقة القوى الداخلية المعادية- لمشروع نوفمبر- و نواياها المبيتة ومراميها السياسية والثقافية بعيدة المدى.
ومن ثمة فإن قصة الأديب الجزائري عبد المجيد الشافعي هي صورة مصغرة لكن جِـدُ معبرة عن قصة الأدب الجزائري الحديث الذي يصفه النقاد والدارسون بأنه نموذج حي لأدب الرفض والمقاومة الذي كان الجزائريون من بين الشعوب التي أبدعت فيه ورسخت أشكاله ومضامينه وعززت من شرعية وجوده وازدهاره في مواجهة دهاقنة أدب التبرير والاستعلاء الثقافي والعنصري الاستيطاني من أمثال ” لوي بيرتران” و ” روبير راندو 1873-1950 ” و” وجان أنطوان نو” وغيرهم من رواد ومؤسسي الأدب الاستدماري الذين دمرت ثورة نوفمبر المجيدة مشاريعهم وأحبطت حلمهم الكبير في بناء شمال إفريقيا اللاتينية.
وحقيقة لم يكن الأدباء الجزائريون بمعزل عن الثورة ولهيبها بل مهدوا لها وانخرطوا فيها وأصبحوا جزء منها، وكان الشافعي في رحلة حياته القصيرة واحدا من الأقلام التي بذلت ما استطاعت وقدمت مساهمتها في صدق وتواضع، ولذلك فهو جدير بأن يحتل مكانته ضمن صفوف أصحاب الأقلام التي لا يُمحى حبرها والأوراق التي لا يمزقها الزمن، ونظرة سريعة على جانب من إنتاجه الأدبي تجعلنا نقف على بعض اهتماماته وتوجهاته، إذ أننا نعرف لحد الآن الأعمال التالية:
” الطالب المنكوب”يعتبرها البعض رواية ويصنفها آخرون في خانة القصة الطويلة،وقد نشرها سنة1951 وهو لا يزال بعد طالبا في تونس وهي تصور السعي وراء العلم والحب في أجواء من البؤس والفقر.
“خواطر مجموعة ” نُشرت بقسنطينة قبيل اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954،وتكشف عن هواجس وإرهاصات تستحق وقفة خاصة.
” الأديب الشهيد ” وهو كتاب تناول فيه حياة وأعمال الأديب أحمد رضا حوحو، من الميلاد إلى الاستشهاد،وصدر سنة 1964 عن مطبعة البعث بقسنطينة.
عدد من القصص والمقالات والمسرحيات التي عالج فيها قضايا فكرية وأدبية وتربوية مثل مسرحية ” بنت الشهيد ” التي وضعها في السنوات الأولى للاستقلال.
هناك رواية وأعمال أخرى نحن بصدد التأكد من وجودها و صحة نسبتها للكاتب لذلك لم نُشِر إليها لغاية الوقوف على التفاصيل الصحيحة.
وتبقى أعمال هذا الأديب الذي تحمل دار الثقافة بمدينة قالمة اسمه بحاجة أكيدة إلى من ينفض عنه غبار الزمن المتراكم، ويعيد قراءة أعماله وتقديمها إلى القرّاء الذين لا يعرفونه ولا يعرفون قصته مع الثورة ومع الحياة والأدب، وهي قصة جديرة أن تُـعرف وأن تُستلهمَ لأنها جزء من واقع عاشه شعبنا وترك بصماته على ذاكرةِ أيامه.
[1] – هذه العبارة افتتح بها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مقاله الشهير عن فرانز كافكا..