في المجتمعات الأقل ديمقراطيةً كحال مجتمعاتنا العربية (وإزاء فشل “الاستعمال العمومي للعقل” لو أوردنا كلمات كانط)، ثمة أسئلةٌ مزعجةٌ: هل (يَغيبُ) المجال العام على غرار غياب أي شيء آخر أم أنه (يُغيَّب) بفعل فاعل هو نحن؟! أليس المجالُ العام Public sphereعمليةً تاريخيةً تستوعبُ طاقات المجتمع، وبالتالي يبقى فضاءً مفتوحاً لا ينتهي؟ وهل فعل التغييب (من الغياب) يجري تحت عناوين أخرى بمسماه أم أنَّه مسارٌ يُخطِّئ أهدافه؟!
يرتبط المجال العام بكافة جوانب المجتمع وتحولاته (تراثاً وحاضراً ومستقبلاً)، بل لعلّه هو المجتمع ذاته حين يجسدُ قيم التواصل والإختلاف والتكوين العمومي للفكر والحرية والتجارب السياسية والاجتماعية. إنه ممارسة كلية لما هو خارج ذواتنا وفقاً لآليات حرةٍ (أو هكذا ينبغي أنْ يكون). ويمثل هذا المجال الدائرةَ الأوسع دائماً من جميع خطوط الأفعال الفردية الخاصة، بحيث يكون مجسّاً لسبر غور قدارتنا العامة على التعايش معاً وانتاج (الوجود المشترك) الذي لا يخصُ فرداً أو جماعة بعينها قدر ما يخص كيان الأفراد إجمالاً دون تفرقة.
الأسئلةُ الفائتة مهمةٌ لثلاثة أسبابٍ تتطلب تحليلاً مختلفاً.
أولاً: هي أسئلةً كاشفة لأساليب تغييب المجال العام في دول غير ناضجةٍ سياسياً واجتماعياً. ونحن نعرف أنَّ المجتمعات الشرقية ما برحت في طريق التحول والتطور. وأنَّ معيار صلاحية الدول ليس بتواجدها على خريطةٍ جغرافيةٍ ملَّونة تحت أنظار القراء ومخابرات الدول الأجنبية وتحت أعين أطفال الروضة والمدارس(1)!! لكن تصبح الدول كذلك، نتيجة قدرات المجال العام على بناء وعي أفرادها وفقاً لأفعال سياسيةٍ تحرز حقوقهم الإنسانية وتقبل الاختلاف وتدير التنوع الخلاَّق.
ثانياً :تُلقي هذه الأسئلة الضوء على أنَّ غياب المجال العام لا يأتي بسيطاً، لكنه وفق قانون تكويني يسبب خلَّلاً للممارسات العامة وينتج عن ضعف السياسات العقلانية التي تغذيها. أي أنَّ تكوينات أخرى (كآثار جانبية) تضيِّع الوزن النوعي للمجال العام لابد أنْ تلتهم بعض قدراته لصالحها. لأنَّ أية ” أورام عمومية خبيثة ” في شكل مذاهب شاملة أو أنظمة ديكتاتورية مستبدة أو دجمائيات غائية teleological dogmas ستمتص غذائها مما يُفترض أنْ يكون غذاءً عاماً لطاقات العمل والتفكير الحر.
لو تخيلنا المجال العام جسداً سياسياً political body وربما هو كذلك بمعناه الرمزي (كموضوع للرغبة في الالتقاء مع الآخر)، فإنَّ آلامه المبرحة ليست بسبب علل مجهولة المصدر والهوية، إنما نتيجة فيروسات نبتت من أحشائه الحية وتورمت على حسابه وتعيش داخله. والعكس فإنَّ صحة الدولة والمجتمع تتوقف على أن يتحرر هذا الجسد من قيوده وأنّ يتسع للجميع، والأهم أنْ يُوقِّظ ويقوّي مناعته الكلية القاضية على (الطفيليات السياسية) كلما هاجمت قواه الحيوية لصالح جميع الناس والأفكار والأطياف دون استثناء.
وفي هذا الاتجاه، رأى يورجين هابرماس أنَّ المجال العام بمثابة كلّ أفق إجمالي لحياتنا الاجتماعية إذ تتشكل داخله آراء وتصورات وأفعال عامة لجميع المواطنين، وأنَّ هذه الأشياء تتبلور على هيئة نظام يستجيب لمتطلبات الأفراد آخذين خلاله بالحوار والتفاعل الدافعين للتواصل على أساس عقلاني لصالح الجميع، ومن هناك كانت تتحدد شروط نشأة الأنظمة السياسية والدول (2).
ثالثاً: تبرز الأسئلة حيوية المجال العام وكيف يتم تدعيمه تاريخياً حتى لا يُخترق طوال الوقت، فالشيء الذي يغيب ثم يسبب غيابه تشويش الممارسات كما نرى في الدول الأدنى تقدماً إنما هو شيء مهم بالسالب. أي تأتي أهميته بالمعكوس ليثبت كم هو خطير(كموضع لاستفهام دائم) إن كان غائباً فما بالنا إذا كان موجوداً.
هكذا من أقرب الطرق كي تجدد مناعتها، تسير حيويةُ المجال العام وفقاً لمنطق: لا …. ولاNeither .… Nor ، أي: أنَّه مجال ليس خاصاً ولا ذاتياً كما نمارس حياتنا الشخصية، ولا يجري طبقاً لاحتكار النافذين اجتماعياً فرصَ الحياة المشتركة. أيضاً هو لا يفترض أية إمكانية للهيمنة عليه مثلما لا يقبل الاحتواء الأحادي حزبياً أو لاهوتياً أو أيديولوجيا. وحدُّه المجال العام هو الذي يتحدد بخلاف ما نتوقعه نتيجة رغباتنا شبه الجمعية وغرائزنا المنبثقة عن الأهواء والتصورات المحدودة.
إنَّه فضاء التنوع العمومي نفسه في شكل متداخلٍّ، تتجلى عبره فسيفساء المجتمع دون حذف وبلا إقصاء. حيث يكشف طبيعة الممارسات وكيف تنحرف عن حدوده المفترضة. من ثمَّ فهناك طرح خاطئ لقضايا المجال العام حين نعتبره منحازاً سلفاً لأية قوى غالبة إلى درجة الشيوع.
المجال العام لا ينتمي (بحكم طبيعته وآلياته والعيش داخله) إلى أية دوائر فئويةٍ. لأنَّه مجال عام وكفى، غير قابل للتلوين ولا للانحراف إلاَّ تحت مطرقة السلطة الشموليةِ. والكفاية هي حدٌّ منطقي أكبر من أية حدود أخرى. بالوقت ذاته يحطم أي مجال عام كافة الحواجز لحصره في تلك البقعة السياسية أو هذه الرقعة الاجتماعية أو بخلافهما وإلاَّ لفقد ماهيته، فقد جوهر تعريفه وسماته النوعية.
هل يعني ذلك أننا لا نستطيع الانتماء إلى أيَّة توجهات؟ بالطبع الإجابة هي النفي، فليكن الإنسان منتمياً إلى ما يشاء، سواء أكانت أفكاراً أم مرجعيةً أم رموزاً أم أيديولوجيا، شريطةَ أنْ يمارس وجوده الجمعي اعترافاً للآخرين بالحقوق نفسها، أي هو عندئذ ليس شخصاً ميتافيزيقياً، إنما فرداً في حالة تنوعٍ، هو ترس داخل المجموع، داخل الكلِّ بالنسبة لاختلاف الرؤى وتباينها.
ههنا يغدو المجال العام وجوداً موضوعياً خارج ذواتنا وداخلها، يغدو أيضاً فعلاً تواصلياً بين الأفراد جميعاً، إنَّه كما يذهب هابرماس أيضاً مرتهن بالعقلانية التي تأخذ مساحتها في الحياة المشتركة. ففي المجتمع البرجوازي، نتج المجال العام عن العلاقات الاقتصادية والتجارية التي خلقت مناخاً مناسباً للتفاعل وتكوين المجتمعات، ثمَّ كان هناك وجود لآليات تسهل حركة السلع بين أطراف الإنتاج والاستهلاك على صعيد واسع(3).
ضمن إطار كهذا، هناك فيروسان خطران على التعايش المشترك بالمعنى السابق: الأصولية والوصولية. وهما يختلفان بحسب المنطلقات الفكرية والسلوكية لكل منهما، فالأولى(الأصولية fundamentalism (هي عادةً الانحراف الاعتقادي لما يؤمن به الفرد إزاء موضوعات الحياة. ويدخل في هذا الانحراف عدةُ مكونات تضَّخِم بنيته، وهو كالانحراف الجيني الذي يؤدي إلى مخلوق مشوَّه.
1- ترسُخ مركزية الأصول الثابتة، حيث لا تتغير ولا تتبدل. إذ من غير المتصور أنْ تحافظ الأصولية على قوامها دون ثوابت ضد ما هو طارئ ومتباين وقابل للتحول. المركزية هي العصارة الموروثة، لكنها الحاضرة دفاعاً عن المعتقد بإطلاقٍ حتى الرمق الأخير.
2- وجود سلطة الحقيقة المطلقة. وهي القوة المضافة بفعل امتلاك الحقيقة وتفردها إلى كل ما تعبر عنه.
3- قدرةٌ ذاتيةٌ على تحصين ذاتها والدفاع عنها إزاء أي نقد أو معارضة.
4- التبرير الذاتي، فالأصولية تفرز مبررات ضمنية لكل ما تقوم به من احتكار للحقائق والمعاني(أسْلَّمة العلوم والمعارف كما يتبنى الإسلاميون).
5- هناك الأيديولوجيا وهي التي تُعطي الأصول غلافاً كلياً عصياً على الاختراق، وتوفر ضخاً آلياً للمعاني ودلالات الأفعال.
وبالتالي فالأصولية هي دجما الفكر وفرض الوصاية العنيفة على الآخرين وتبرير المواقف من طرفٍ واحدٍ رغم اختلاف السياق. بهذه المواصفات قد تكون الأصولية واسعة الانتشار في مجالات السياسية والاجتماع والثقافة والتاريخ شريطة تَوافُر العناصر السابقة حول نواة محورية تحقق السمات المفترضة.
لكن يعدُّ الدين أبرز مضمار ينتج أصوليات دينية تواصل عنف الخطاب والأفعال. إن الإرهاب الديني هو تجسيد لتلك النقاط، والأهم أنَّه يقضم رقعة المجال العام كما يقضم الخادم التفاحة. لأن الدين لا يرى سوى ذاته حاكِّماً لمساره الصاعد. وليس هذا فقط بل المؤمنون لا يرون في إيمانهم أية قيمة دون دحْر مخالفيهم في الإعتقاد والمخالفين في المذهب، وأخيراً المخالفين في التنظيم. المتطرفون يرتئون من وراء الأصولية إلتهام فضاء الحرية جزءاً بجزءٍ، ولا يتورعون عن تثبيت أركان ذهنياتهم بقمع الآخرين. لأنَّ كلَّ (أصولية دينيةٍ) إنما لا تجري إلاَّ على أنقاض ما هو عمومي(4).
أي أنَّه لا يوجد متطرف أصولي في ظل الاعتراف بقوة وتأثير المجال العام. لأنَّ الاثنين لا يلتقيان معاً على أرضية واحدةٍ، إنَّ المتطرف ينهب الفرص نهباً لإزاحة أي كائن عمومي. وليست الجماعات الأصولية سوى القبضة الحديدية التي تسدد ضربات قاتلة لكل ما يقابلها من أفراد وعقول.
والنظرة الفاحصةُ تؤكد: أنَّ المجال العام ليس معنيَّاً بأية أصوليةٍ، لأنَّه ليس قابلاً للتملُّك ابتداءً. كما أنَّ الأصولية ترى في فاعليته قوة مناوئة لوجودها، ولنلاحظ كون الأصولي يخاف من أية أمور خارج سيطرته الأيديولوجية، وهو دائماً مهووس بالصراع الذي يسفر عن غزو مواقع جديدةٍ. ليس مصادفة أنَّ بعض الإسلاميين كانوا يطلقون على انتخابات البرلمان في غير دولة عربية ” غزوة الصناديق “. إنَّ الكائنات السلَّفية ترى فقط ما يقبع في اللاوعي من عبارات تجرّ عصوراً غابرة من غسق الإنسانية.
إنَّ الغزو في حدود الدولة المدنية يحيلُ الأخيرةَ إلى مجرد صدَّفةٍ خارجيةٍ لحاشية قديمة جداً. ويبدو أنَّ دهاء المجال العام يكشف من أدنى الأبواب زيف الممارسات الخادعة التي تتم في فضائه. والقاعدة المرنة تقول: كل تلاعب بأسس المجال العام ستكون نتائجها اللاحقة على المستوى ذاته من التأثير. فلئن كانت (الغزوات الجهادية) تتقيَّأ محتواها العنيف داخل ممارسات حداثيةٍ، فإنَّها تصبح ذاتَ دلالة قارئة بالمقام الأول، تقرأ كيف يستند التصور إلى طباقٍ من الأفكار التي لم تعد تواكب زمنها.
والأصولية من تلك الجهةِ هي غزوة حربية للمجال العام متأخرةً عن موعدها عشرات القرون، لكنها أكثر رمزية وتتسربل برداء الدين نافذةً عير أخلاقيات المجتمع وأفعال أفراده. حتى إذا تمكنت من تطويق رقابهم وعقولهم إلاَّ وكانت وجها لوجه مع إعادة تأسيس المجال بحسب توجهاتها. إنَّ تكريس الأصولية لذاتها (كما تجلت بدمويتها الأخيرة لدى جماعات العنف) ليس تعديلاً ولا حتى خلافاً حول ترتيب أولوياتٍ. فالأمر يتجاوزُ المجال العام ذاته، لأنَّ الأسس الآتية بها الأصولية لا تعترف بالتنوع ولا بالمنافسة الحُرّة للفاعلين، بل لفرض نمط الحياة فرضاً صارماً. وما الدولة بمجالها العام وحتى بشعبها غير موقِّد ضخمٍ لطهي الأفكار المغلقة. وكأن الأصولية تصر على خلق الإنسان كرَّة أخرى بأدوات يعدُّها المتطرفون– فيما يعتقدون- من صُلب الدين!!
أمَّا الوصولية، فهي إحدى تشوهات الحياة المدنيَّة الهشة، كممارسةٍ تهتم بأولوية المصالح والمكاسب وصولاً للنفوذ وتزلفاً للسلطة القائمة. وهي الجانب الهامشي من تداول فرص العمل والحياة وتحويل الغايات إلى أفعال بهلوانية قابلة للتحقق دون التزام بحيادية المجال العام.
وعلى نطاق السياسة، تقترن الوصولية بطابع الانتهازيةopportunism (5)، من حيث التلاعب بالإمكانيات المتاحة للغير عن طريق تحويلها إلى إمكانيات خاصةٍ، ومن جهة كونِّها تعتمد على المؤهلات والسمات الهزلية التي تضيع المعايير وتحول بينها وبين إتاحة المجال أمام الجميع. والانتهازي يَخلُّ بما يضمنُ توافر الفرص ذاتها بالنسبة للآخرين. والضمان ليس ساقطاً من أعلى، وإلَّا لكان مرتَّهناً بمصالح السلطة لكنه يأتي من الموقع الأعم في المجتمع.
إذن وجهُ الإشكال في التلاعب بالضمان الذي هو خارج الطرفين (الانتهازي والمنتَّهز منه)، أي عملية أحداثُ خلل في المرجعية التي نحتكم إليها ونختلف ونتعدد في الرؤى والمواقف والتوجهات. لأنَّ (الانتهازي الوصولي) مثل طائر ليلي مراوغ يصطاد فرائسه بحذر وسط الظلام، لا ليأكل فقط، بل ليقتل الضحايا بدم بارد. والأمر لا يأتي هو ذاته في الحالين، لأنَّ التركيز على الفرائس يعني أنَّ صياداً ماكراً يأكلُّ من أقرب الطرق، لكنه يمارِس أيضاً فعلَّ الموت تجاه الكائنات الأخرى.
قياساً على ذلك، فالوصولي حين يقتنص الفرصَ تلو الفرص، لا يعترِّف بأية معايير تُعطي حُقوقاً متساويَّة للآخر، أي أنَّه يأكل حقَ الوجود بالنسبة للآخرين. ولا يكف عن الإطاحة بالمجال الجاري فيه ذلك الحال، بل قد استغله عن قصد ليصطاد مصالحه عاصفاً بالقانون والحياة المشتركة إنْ لم يكن لينقض العقد الاجتماعي(أي في الحدود المفهومية والتداولية للقوانين conceptual and pragmatic limits of laws)(6).
لأنَّه جعلَ من المجتمع (بمجاله العام) سيركاً للقيام بأعتى الحيل والأعمال الأكروباتية مثل البهلوان لأجل مآربه. الانتهازي يفعل الأفاعيل غير عابئ بالقيم والأخلاقيات المدنيَّة وقواعد التنافس العملي وآليات التفاعل السياسي وصُولاً إلى ما يريد. وبصرف النظر عما إذا كان المجال العام حاضراً في شكل قوانين ومبادئ أم لا، فالانتهازي يعتبره في حالة محاق تام. وطالما أنَّ السلطة القائمة تسمحُ بالألاعيب الانتهازية وتعتبرها نوعاً من (إسالة اللعاب) حتى تظل مرغوبة طوال الوقت، فإنَّها تصبح شيئاً آخر إلاَّ أن تكون من جنس المجال المشار إليه.
والأغرب أنَّ الوصولية تردد صوتاً متوارياً بكون السلطة تستعمل المواطنين، وبالتالي على الوصوليين الاستفادة منها إلى أقصى درجة. إذ يبادلونها الألاعيب بالألاعيب حتى يتمكنوا من نيل حظوتها ونعيمها. وهي كشجرةٍ عملاقةٍ ومتضخمةٍ حاجبةً الهواء والأضواء، تريد من روادها أنْ يتسلقوا حتى قطف الثمار. وفي المجتمعات العربية نتيجة شمولية السلطة وتغولها، فإنَّها لا تتيح فرصاً لجميع المواطنين من جهة العدالة والمساواة، إنما تخضعهم للفرز والتمييز. ولم يكن من مسئول صغير أو كبير إلاَّ أنْ يُمالئ رؤساءه بشكلٍّ فاضحٍ ووقحٍ. لأنَّ (خطاب الانتهازية) هو الخطاب السائد إلى حد اللعنة، حتى باتَ هو اللهجة الغالبة على وسائل الإعلام والأنشطة السياسية والإجتماعية.
والمعروف أنَّ اللغة السياسية في جانبها الخفي لغة خالقة للفرص، أي تفتحُ إمكانية عمل شيء خلال المجال المؤثرة فيه. وإذا كانت تتحايل عليه لأغراضٍ خاصةٍ، فالمقصود أن تنحاز السلطة لفئةٍ ما. وهي تفعل ذلك، ليس بطرح الانتهازيين لأهدافهم، بل بمجرد الاستجابة لذلك. وعليه تمثل السلطةُ (حتى بالنسبة لأبعد نقاطها) وسيلةً للهيمنة. ولا يبعد عن هذا نُصح مكيافيللي للأمير: أنَّه لا عليه حين يسعى لفرض قوته على الجميع، ولو كانت بوسائل قميئةٍ. فالغاية تبررُ الوسيلة مهما تكن الغاية (وهي غالباً كما يطرحها صاحبُها)، وأيا كانت الوسيلة التي لن تقل مراوغة عنها.
ورأي مكيافيللي يأخذُ شكلَّ النُصح، كنوعٍ من التدابير التي لا تتوانى عن ترسيخ نفسها. والنُصح يقع خارج سياق المجال العام وخطاباته، فهذا المجال لا يعرف آليةً اسمُها (النُصح السياسي) الذي قد يعني المؤامرةَ، إذا غابَ الجميعُ من المعادلة (هيمنة الحاكم = الوسيلة × الغاية).
وبالتالي فالشخص الوصُولي المتسلق يتميز بأساليبه المراوغة التي تستغفل شيئاً ما إشكالياً بالنسبة إليه. وكأنَّه يخاطب كياناً كُّلياً فوق رأسه بينما يحتاج الأمر منه مجهوداً للإفلات من عينه الحارسة. والسؤال من أين يأتي هذا النظر؟ إنَّ المجال العام يتخلق في مؤسسات عينيةٍ ورمزيةٍ، وهو ذاته كفضاءٍ عمومي يحكم صورته ضمنياً من واقع النظام الجاري.
الوصولي يدركُ جيداً: أنَّه يطيح بذلك كلِّه عندما يسترقُ الامتيازات والأرباح الاجتماعية والعملية بأساليب ملتويةٍ. لقد انتشر المتسلقون كالجرذان في ردهات الدول ومؤسساتها المختلفة، وباتوا يقدمون أنفسّهم قرباناً مدفوع الأجر والتزلف لمن يُريد. وهم أساس التخلف الذي تعيشه بعض المجتمعات العربية ويقرضون كلّ آمال الحرية والقيم الإنسانية المرتبطة بها. وأخطر أشكال التسلق هذا الذي يقدمه صاحبه من باب إدعاء الذكاء الذي يزعمه لاهتبال الفرص تحت مبررات إنسانية وتواصلية، في حين هو يفرط في جميع القيم، يدغدغ معيارية القيم طالما أنه يمارس هذا الإنبطاح المجاني، هذا الخراب النفسي والروحي، هذا الغباء المؤصل والمعتَّق.
……………………….
1- المقصود أنَّ اغلب الدول كمسميات (جمهورية كذا وكذا) لا تستوفي شروط المجال العام، لأن قيام الدولة يفترض بالضرورة وجود مجال عام بل درجة تقدم الدولة سياسياً يرتهن بتحرر هذا المجال من القيود المفروضة عليه من قبل السلطة ووجود تفاعل حقيقي في الأفعال الجمعية. والطريف أنَّ بعض الدول ترفق مسمياتها بالديمقراطية والشعبية أحياناً (جمهورية كذا الديمقراطية أو الشعبية)، بينما هي لم تتخلّص بعد مما يكبل مجالّها العام من إكراهاتٍ وعمليات فرزٍ متواصل للمواطنين سواء أكان على أساسٍ مذهبي أم قومي أم ديني أو أخلاقي.
2– Habermas, Jurgen, The Public sphere: An Encyclopedia Article (1964), New German Critique, No. 3 (Autumn, 1974), P 49.
3- Habermas, Jurgen, The structural transformation of the public sphere: An inquiry into a category of Bourgeois society. translated by Thomas Burger with the assistance of Frederick Lawrence, Cambridge, MA: MIT Press, 1989. P15.
4- يندرج تحت هذا كل محمولات الأصولية مثل الدولة الدينية. فأبرز معالم هذه الدولة مها تم التنظير لها كونها رقعة جغرافية لاهوتية بلا مجال عام وأنه يُلغى لحساب الوصاية وفرض الأوامر والنواهي الدينية. ولذلك ليس المهم الشعارات البراقة بل ما فحواها على مذبح الواقع الذي لا يبقي ولا يذر من التنوع البشري في الاعتقاد والأعراق والثقافات. والإسلاميون يغلفون هذا الطابع تحت عنوان الرفاة المنتظرة أو العدالة الإلهية أو دولة الإيمان والخير.
5– Shraga F. Biran, Opportunism: How to Change the World, One Idea at a Time, New York: Farrar, Straus and Giroux, 2011.
6- Ravi S. Achrol and Greogry T. Gundlach, Legal and Social Safeguards Against Opportunism in Exchange, Journal of Retailing, Volume 75 (1), New York University 1999, P 108.